استمتعت كثيرا بمشاهدة عرض "نستناو...ف...الحيط" الذي قدمته جمعية نوميديا بدار الثقافة لولاية برج بوعريريج. ننتظر الحائط، هو العنوان بالعربية الفصحى.مسرحية عبارة عن توليفة ذكية جمعت بين نصين اثنين متباعدين زمانيا ومكانيا: يتمثل النص الأول في العنوان الشهير بانتظار غودو لصمويل بيكيت، والثاني للكاتب فرناندو أربال الذي يحمل عنوان: "فاندو وليس".تشخيص العرض: أسامة شلاغة، صلاح الدين خالدي، صلاح الدين بن مهدي، عقبة بوعافية، عيسى فراطسة، فارس بن عبد الرحمن، عماد الدين عبد السلام. أنفوغرافيا: بن حليمة يوسف. تقني إضاءة: شكري عماري. تقني صوت: عبدون نجيب. إعداد وإخراج حليم زدام.
انتقى المخرج من النص الأول شخصيات: أسترافون، بوزو، لاكي (المهرج)، ومن الثاني: الشخصيات الثلاث التائهة، وقد فعل ذلك بحذق، وبمهارة استثنائية، دون أن ينتبه المتلقي لهذا الجمع المتقن بين عملين أدبيين مختلفين لا يربطهما سوى خيط دلالي مشترك، وأمّا الشكل فخضع لتعديلات أثناء الاقتباس، ما جعل كلّ عمل امتدادا للآخر، أو مكملا له في عدة نقاط: هناك شيء من التناغم بتماهي هذا في ذاك، ما يكشف عن الجهد الكبير الذي بذل أثناء القراءة والاقتباس والتوليف. أؤكد على العنصر الثالث الذي بدا خارقا بالنظر إلى دقته الكبيرةوعبقريته في التوليف الخارق.
أسست المسرحية على ديكور ولباس بسيطين، ودالين: شجرة معلقة تحيلنا إلى إحدى العلامات الجوهرية في مسرحية بانتظار غودو، أربع علب تتحول إلى مقاعد عند الضرورة، حقيبة، طرد، حبل (إحالة مفتوحة)، مظلة، وصندوق يتدلى من السقف (ممكنات تأويلية كثيرة)، ولباس متواضع، بعيد عن أية احتفالية أو تبذير غير ضروري للمتن. هناك اختزال كلي لمنظومة الديكور الذي يمكن أن يؤثث الخشبة، دون تكلفة كبيرة من حيث الزاد الذي بدا بسيطا جدا، مع الحفاظ، رغم هذا الاختزال الواضح، على كلّ الدلالات الممكنة التي يتوقعها المشاهد. الشيء ذاته بالنسبة للملبس، باستثناء لباس المهرج الدال عليه.
ننتظر الحائط عبارة عن حكاية ميالة إلى التوجه العبثي الذي جسدته موجة أدبية استفادت من الفلسفة الغربية، خاصة عندما نعرف عوالم اللامعقولللكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت(1906 1989) الذي استمدت منه المسرحية، والكاتب المسرحي والسينمائي، الشاعر الإسباني فرناندو أربال(1932)، أحد المتأثرين بكتابات فرانز كافكا، وجاري،والمسرحي الكبير أنتونينآرتو (1896 1948)، وعالمه المجنون الذي بنى على رؤية إخراجيةصادمةسعت إلى هدم قناعات المسرح المنضبط، المنسجم، والأخلاقي.
المسرحية فلسفية في جوهرها، وعميقة جدا لأنها تطرح قضية ليست ذات علاقة مباشرة بموضوعات الشأن اليومي المعلوم، بالحياة العادية كما نحياها، وليست انعكاسا آليا للمحيط الخارجي، كونها تبني على وجهة نظر وجودية تكشف عن مجموعة من الأسئلة التي يمكن أن يطرحها المشاهد في عالم يقيني مطمئن، وراض عن نفسه. ما يعني، بشكل ما، أنها تبلبل سكينته بما تقدمه من أفكار لا عهد له بها، أفكار وأسئلة تحرك نشاطه الذهني بقوة.
يستهل العرض بسبعة ممثلين يديرون ظهورهم للجمهور في قاعة مظلمة ركز فيها مهندس الإضاءة على هؤلاء وحدهم، ثم يستولي على المشهد أربعةممثلين في حالة ترقب، اثنان منهم قرب الشجرة. كان الممثلون ينتظرون قدومه وهم يطرحون أسئلة حول مقدمه، لكنهم لا يعلمون متى سيأتي تحديدا. صباحا أو مساء، غدا أو بعد غد، في هذا الأسبوع أم في الأسبوع القادم أم في الأشهر اللاحقة، أم أنه لن يأتي أبدا. سيلاحظ المتلقي، طوال الحديث، اختفاء بعض الأسئلة التي وردت في النص الأصلي: طبيعة الشجرة ونوعها وطولها، وهي التفاصيل التي ركز عليها بيكيت، بنوع من التكرار المتواصل.
سيظهر في هذه المشاهد، الموحدة حواريا ودلاليا، عنصر مهمّ يمكن التركيز على قيمته النصية: الزمن النفسي الذي يقاس بالإحساس، وليس بالقيمة الرياضية المعلومة، من منظور الفلسفة وعلم النفس. يعيش الممثلون حالة من القلق والسأم لشعورهم بتمدد الوقت. هكذا يقومون بأعمال وحركات ليست ذات معنى، وهي أحداث تحتية لها صلة منطقية بهذا الشعور بالضجر المتواصل: نزع الأحذية مثلا، أو جعلها موضوعا مهمّا في سياق الانتظار الطويل الذي لا أفق له لأنهم لا يعلمون متى سيصل هذا الذي سيأتي أو لا يأتي. كما أن ورودها في الحوارات السريالية تدليل على ذلك.
من هذا الذي سيأتي؟ يتضح من خلال المسار العام للحكاية أنهم لا يعرفون لماذا، كما أنهم لا يعرفون أصلا من كانوا ينتظرون طوال ذلك الوقت الممتد إلى اللانهاية. لكنهم، مع ذلك، ينتظرون وصوله في لحظة ما، قريبة أو بعيدة، ولسبب ما لا يعلمه أحد منهم من حيث إنهم لا يذكرونه بالاسم والصفة. سينتظر الجمهور أيضا، على أعصابه، لأنّه سيرتبط بهذا القادم الذي لا يعرفون عنه شيئا من خلال الحوار بين الشخصيتين الأساسيتين، وذلك لانعدام أية بطاقة دلالية تشير إليه، أو تحدّده، كشكل أو كقيمة رمزية أو تاريخية.
قد يأتي، اليوم أو غدا، أو في يوم ما، وإن لم يصل سيعودون باستمرار إلى نفس المكان لانتظاره بإلحاح شديد، قرب تلك الشجرة التي ستغدو علامة مميزة، ومكانا ذا قيمة اعتبارية كبيرة. سيتأخر كثيرا، وقد لا يتأخر، لكنّ ذلك لا يعني الشخصيات التي ألفت الوضع كنقطة فارقة. لقد أصبح الانتظار مهنة، شيئا يشبه حلما أو كابوسا، أو هواية مبنية على التيه وقلة المعرفة، كما لو أنّ الشخصيات ضائعة، لا تدرك ماهيتها في سياق وجودي مبهم، وغاية في التعقيد، إن لم يكن مجرد فراغ لا حدّ له.
هناك، في واقع الأمر، حالة من المغالاة في اللامعقول، لحظات من اللاجدوى، كما في رواية الغريب لكامو، أو في المسخلكافكا، أو في ست شخصيات تبحث عن كاتبلبيرانديللو.لا شيء. ذاك ما كانوا ينتظرونه. كانت الشخصيات بانتظار اللاشيء. لذلك ظهرت الأفعال التي لا تعني أمرا معينا، كالحوارات التي تدور في حلقة سديمية، دون أن تصل، مع معاودتها المستمرة، إلى نتيجة واضحة المعالم. لقد كانت الحكاية عبثية، كما الأحداث الفرعية التي ظهرت في فترة الانتظار، دون أن يكون لها معنى سياقي، أو وظيفة معينة، ما عدا ترقية الزمن النفسي إلى حدوده القصوى،أوملء الفراغ الناتج عن ملل الانتظار الطويل الذي سيغدو موضوعة مركزية تثير انتباه المتلقي.
لقد بنيت المسرحية بناء دائريا، التقنية المتداولة في بعض السرد الجديد، ذلك لأن مطلع العرض: وقوف الممثلين قرب الحائط وظهورهم إلى الجمهور، سيتكرر في خاتمة الحكاية، أي أنّ ثمة عودة إلى المشهد الأولي، ما يحيل إلى الحلقة المفرغة التي كانت تدور فيها الشخصيات برمّتها: عود بدئي مثير يدلّ على شيء من اللاجدوى، على ضياع اليقين في سياق تتحكم فيه أسئلة عديمة المعنى، أسئلة عبارة عن مداورات، تنويعات على الأصل ذاته: يأتي أو لا يأتي، ومتى يفعل ذلك أو لا يفعل؟ هل هذه هي الشجرة أم لا؟ الأسئلة التي يتأسس عليها البناء الدرامي من بداية العرض إلى نهاته.
هل ثمة اختزال للأحداث والأسئلة التي يتميز بها النص القاعدي؟ كما لو أن الاقتباس، أو الكتابة الاخراجية أرادت التخلص من الحكاية قبل الوقت المناسب لذلك؟ الظاهر أنّ هناك إضمارا في الخاتمة التي بدت مستعجلة إلى حدّ ما، أو كما استنتجنا من المعاينة. ذاك ما يمكن ملاحظته من العرض الجميل. يبدو، من منظورنا، أنّ هناك اقتصادا حصل في المتن لأنّ المشاهد توقع حصول شيء ما قبل عودة الممثلين إلى الحائط الذي انطلقوا منه، أسئلة أخرى أو علامات دالة على خاتمة الأسئلة، أم أنّ المخرج قصد الاضمار لتخييب أفق التوقع، وذلك بالانتقال المباغت إلى الجدار كغاية من غايات العرض، وهل كانت الشخصيات تنتظر قدوم الجدار؟ أي الطريق المسدود الدال على العبث الجذري؟
لقد أفلح العرض في عدة جوانب هامة يمكن الإشارة إلى قسم منها، ومن ذلك الجهد المبذول من الممثلين الذين قاموا بأداء نوعي أسهم في ترقية المسرحية وتقويتها، موضوعاتيا وفنيا. نشير أيضا، على سبيل المثال، إلى قوة الأداء اللافت، ثمّ إلى مجموع الايماءات التي حلت محلّ الخطاب اللساني، شأنها شأن فترات الصمت الوظيفية التي بدت مثيرة، ونوعية كخيار إبلاغي ذي شأن كبير.
كان التواصل غير اللغوي راقيا جدا، ذلك لأن مجموع الحركات حلت محلّ الألفاظ باقتدار بيّن، ونموذجي. كما أنّ عنصر الاضحاك، أو الجانب الهزلي للمسرحية، أسس على علامات جسدية مدروسةبإتقان، مؤثرة، وهادئة. لقد كان للغة الجسد قيمتها الكبرى في النسيج العام، لذا تفاعل المشاهد معها بشكل كبير. لقد كان مأخوذا بهذه اللغة التي تقول كثيرا، دون عبارات، وتلك علامة من علامات نجاح العرض الذي لم يتكئ على طرائق أخرى أقلّ جمالا وإثارة، أو طرائق تكرر نفسها، كما يحدث في بعض المسرح الذي يرغب في إضحاك الجمهور باستعمال خطاب مبتذل، أو فظ، أو متواتر بكثرة، أو باللجوء إلى الصراخ، معتقدا أنه يقدم خدمة للجمهور الذي تجاوز هذه التقنيات.
نشير في الأخير إلى قضية اللغة الموظفة في المسرحية، الموضوع الذي ناقشناه، بموضوعية كبيرة، مع مخرج هذه المسرحية المميزة الذي كان له رأي غاية في الصفاء والمنطق. اللغة صافية إلى حد ما، فصيحة في شق منها، مفهومة، وعامية أحيانا. السؤال الذي يتكرر: هل يمكن للعامية الجزائرية أن تخترق الحدود القومية لتفهم هنا وهناك من قبل المهتمين بالركح؟ في المشرق والخليج؟ وفي البلدان التي تتعامل بلغة معيارية موحدة؟ نلاحظ، انطلاقا من عنوان العرض نفسه، أنّ هناك مشكلة ما في التلقي، وتحديدا مع الفعل الدال على الانتظار، بالدارجة الجزائرية التي تظل مرتبطة بحيز عيني له سياقهوحدوده التبليغية وهويته. ثمّ إنّ هناك في المتن كلمات بالفرنسية، وأخرى بفرنسية مشوهة، مقلوبة، أو معدلة وفق الجهة التي تستثمرها، أو بعربية محولة.
ربما كان لهذه اللغة الملوثة دور في جعل المسرحية أقلّ انتشارا، ككلّ المسرح الجزائري الذي يتعامل بالعامية، وككلّ العروض العربية التي تبني على العامية المحلية لأسباب ذاتية وتاريخية، أو لأسباب عينية متعلق بالظرف والسياق التداولي. موضوع للنقاش المستمر لأنه قاعدي في أيّ فعل مسرحي ينوي الانتشار، خارج المحلية، رغم قيمتها في ظروف محدودة. مع ذلك فإن هذا العرض القيم يحتاج إلى تثمين لأنه راق، وناجح على عدة مستويات فنية تحتاج إلى معاينات مركبة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 04/03/2019
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : السعيد بوطاجين
المصدر : www.eldjoumhouria.dz