مستغانم .......حضــارة وتــراث
بقلم الأستاذ/ الحسين يختار ...باحث في التراث الإسلامي
. مقال منشور بجريدة صوت الغرب الجزائرية يومي 05/22 جوان 2013
عن مدينة مستغانم الجزائري
يعتقد الوزان الفاسي وهو واحد من الدين زاروا مستغانم خلال القرن الهجري العاشر أن مستغانم يعود بناؤها إلى عصور متقدمة من الزمن، دون تحديد تاريخ معين لدلك ، مكتفيا بالقول أن الفضل في تأسيسها وبنائها إنما يرجع بالدرجة الأولى للأفارقة . غير أن الدي يؤكد عليه المؤرخون والباحثون هو أن الفنيقيين هم أقدم الأمم نزولا بالمنطقة اضطرارا من الظروف الطبيعية الصعبة التي رمت بهم في أحضان غابات وثروات مستغانم الخصبة، فضلا عن مينائها العظيم الدي أطلقوا عليه إسم "موريسطاقا" ، وأن الرومانيين هم من خلفوا الفنيقيين بمستغانم مدة غير يسيرة سمحت لهم بإعادة بناء وتجديد المدينة تحت إسم "كارتانا" وتوسيعها لتشمل حتى تيجديت شرقا .
ولم تسعفنا المصادر التاريخية التي سلطت الأضواء على الحضارات القديمة في تحديد زمن إقامة الرومان بمستغانم عدا المقاربة التي حام حولها الأستاذ مولاي بلحميسي من أن الوجود الروماني بمستغانم كان قائما سنة 127 للميلاد إستنادا إلى الكتابات الحجرية والكشوفات الأثرية التي توصل إليها الرحالة الإنجليزي : "تشاو" أثناء الرحلة التي قام بها إلى منطقة الخروبة مطلع القرن الثامن عشر للميلاد .
مع أن لأصحاب الدراسات المعاصرة الدين كانت لهم مساهمات مشكورة حول تاريخ مستغانم أمثال الأستاد الفاضل الهادي بن تونس والأستادين الجليلين عبد القادر فاضل وعبد القادر مرابط رأي أخر يضرب في أعماق التاريخ ويدهب إلى ألاف السنين في نشأة مدينيتي مستغانم ومزغران قطعا بالشواهد الأثرية التي لاتزال قائمة بكل من مناطق خروبة وماسرى والسور ومغارات كيزا بسيدي بلعطار ومنارة الشعايبية وعمود مزغران وضفتي نهر الشلف وسائر المناطق التاريخية ...... ومهما يكن من الأمر ، فإن شهرة تاريخ مستغانم أضحت في عداد البديهي المعلوم الذي لايمكن جهله تحت أي عذر من الأعذار .
ولم يكن الأستاد بلحميسي مبالغا عندما صرح أنه لم يكن مؤرخ ولا جغرافي ولا شاعر إلا ودكر مستغانم وتغنى بها . وعلاوة على الشعوب الغابرة التي دكرنا ، تشير الروايات والمصادر التاريخية أن كلا من قبيلتي مغيلة ومغراوة الزناتيتين قد حطتا الرحال هناك واستمر بقائهما حتى بعد الفتح الإسلامي . ولما فر بنو يفرن اضطهادا من حملة القائد الشيعي جوهر الصقلي عام 447هـ على مملكتهم بعين فكان استقر بعضهم بنواحي مستغانم ومكثوا بها إلى يومنا هدا.
ومما يستفاد من الروايات التي ساقها ابن خلدون في تاريخه الكبير أنه كان لإمارات بني راشد وبني يلومي و هوارة التي اتخدت من القلعة عاصمة لها نصيب من بسط النفود على أقاليم واسعة النطاق من مستغانم امتدت من سيرات إلى الصور وعين تادلس . وكتثمين لما قرره العلامة عبد الرحمان ابن خلدون ، يدكر الأستاد أبو رأس الناصري في عجائب الأسفار أنه إلى جانب قبائل زناتة المدكورة ، إلتحق بمستغانم قبائل نجد النازحة من شبه الجزيرة العربية منتصف القرن الهجري الخامس على غرار هلال وبني عامر وسويد وزغبة وفروعهم : المجاهر وأولاد رياح والبوكمال وأولاد رحمة وعريب والدواودة وحمزة وأولاد يعقوب والعمور وقد وجدت هده القبائل ضالتها هناك وساعدها على المكوث والإستقرار إستنجاد سلطان الزيانيين بهم في صد هجمات المناوئين لدولة بني عبد الواد . +
ولعل أهم هده القبائل التي شغلت الباحثين "أهل لمحال" القادمين من نواحي قلعة بني راشد مع نهاية حكم المرابطين بمستغانم وسرعة تأقلمهم مع جميع الحكومات التي بسطت نفودها على إقليم مستغانم بدءا من أبو تاشفين إلى أخر سلاطين البايلك العثماني بالجزائر رغم حدة الداتية والأنفة المفرطة التي تميزوا بها . وممالاشك فيه أن ثمة أسباب ودواعي تظافرت لتجعل من مستغانم مدينة تستقطب أمما على اختلاف أعراقهم ، وتستهوي قبائل مع تنوع أنسابهم ومشاربهم، يأتي في مقامها الأول موقعها الإستراتيجي الهام المطل على البحر في شكل منارة شامخة تستجمع عبق الماضي العريق مع سحر جمالها الخلاب ، وزينة بساتينها ورونق حدائقها وقصورها فضلا عن زخامة ثروتها وعدوبة هوائها ولطافة أهلها وحسن عشرتهم ، فلما زارها أبو عبيد البكري وهو أستاد المؤرخين وصفها بالقول : "....على مقربة من البحر مدينة مسورة دات حبوب وبساتين وطواحين ماء......" وعنها يقول الشريف الإدريسي في جغرافيته :"مدينة صغيرة بها أسواق وحمامات وجنات كثيرة وسور على جبل مطل إلى ناحية الغرب ...." ولقد أطنب القاضي حشلاف في عد أوصافها والثناء عليها فيما ينقل عنه الأستـاد : الهــادي بن تونس في نيل المغانم .."....لها أسواق عامرة وتجارة مقصودة .....إلى قوله: كثيرة الأشجار ، تحفها البساتين من النواحي الثلاثة ، وغالب غرسها التين والعنب ، كثيرة الفواكه واللحم واللبن والحوت...." ومن الطبيعي جد أنه كان لتلك الوفود التي حلت بمستغانم أثرها البارز في إثراء الجوانب الحضارية والثقافية لمستغانم بماحملت معها من رصيد فكري هائل وبماكان لها من مهارات عمرانية عالية لاسيما القادمين منهم من دوى الأصول التركية والأندلسية التي أكسبت مستغانم طابعا فنيا راقيا تجلى على وجه الخصوص في تنوع تقاليدها وثراء أطباقها وزينة لباسها، علاوة على مختلف الفنون الشعبية الأخرى المادية والمعنوية لتي تشبه إلى حد بعيد الفنون الشعبية العاصمية والتلمسانية الرفيعة ، ولعله الأمرالدي يفسر تعدد الأسماء والنعوت التي أطلقت على المدينة الحضارية العريقة، فمن مستغانم إلى مرسى الغنائم إلى مسك الغنائم إلى مشتى الغنم.. ونحوها.... وهي كلها معاني تحمل في طياتها ملامح البر والسعادة والرخاء وللمجتمع المستغانمي العريق وجه آخر غير الدي عرفنا ، فهم مع طيبتهم ولباقتهم أهل شدة وضراوة وصلابة كلما تعلق الأمر بالدود عن الأوطان والدفاع عن العرض والدين ، فلما تمادى القائد الإسباني الكونت دي كونت في استفزازاته العدوانية على مستغانم وعلى سواحلها لقنه أبطال الظهرة ومزغران ومغاويرهما درسا لن ينساه التاريخ أبدا مابقيت الدنيا ، ولقد تركت معركة مزغران بصماتها في السجل الخالد لمستغانم ، وسيظل يوم الجمعة 26 أوت 1558 يوما مشهودا بمايحتفل من المآثر العظيمة التي أطرب لها الشيخ سيدي لخضر بن خلوف يومها وسجل كل حوادثها في قصيدته المعروفة بـ:"قصة مزغران المعلومة " . وتيمنا ببركة الموقع العظيم ـ مزغران ـ المبرور بالإنتصارات المظفرة على الغزاة المحتلين ، أدار الأمير عبد القادر معركته الشهيرة ضد جنرالات الإحتلال الفرنسي شهر فيفري من عام 1840 التي أبلى فيها قائده المغوار خليفة بن تامي بلاءا حسنا بتأييد ومناصرة من أهالي مزغران وكرد فعل انتقامي وعدواني حاقد ، شن المستعمر الفرنسي حملات التشريد والقتل والإعتقال ضد الأهالي هناك نظير مؤازرتهم لجنود ومجاهدي الأمير عبد القادر ، وأدت هده الحملات إلى هجران الكثير منهم ومغادرتهم لمزغران باتجاه تيجديت المعقل الذي ظلت تهابه السلطات الإستعمارية بدايـة سنوات الإحتـلال .
وكغيرها من مدن وأقاليم الجزائر المناضلة ، ظلت مستغانم صامدة في وجوه الإحتلال الفرنسي ، ولم تثنهم حملات التشريد والإعتقال عن النضال كما لم تغرهم خطابات نابوليون التي ألقاها بمستغانم عام 1865 ، واستمرت المقاومة رغم حالات الظلم و الحصار الشديد+ين ورغم محاولات ضرب الهوية الوطنية وطمس معالم الحضارة الإسلامية التي خطط لها المستعمر لعقود من الزمن والتي تجلت بشكل مفضوح في غلق المساجد التاريخية وتحويلها إلى كنائس كما هو الحال بالنسبة لمسجد بدر بوسط المدينة الدي احتفل به رهبان الكنيسة الكاثوليكية يوم24جوان1939 بدكرى مرور مائة عام على تحويله من مسجد إلى كنيسة وكما هو الشأن أيضا بالنسبة للمسجد المريني بمزغران الدي اتخد منه الأمير عبد القادر منطلقا للجهاد ، وقبل دلك قامت السلطات الإستعمارية بتحويل المسجد العتيق بحي الدرب إلى مربظ لثكنة الخيالة واستمر الأمر على دلك حتى تدخل الأعيان من أهالي مستغانم ومن خصال مستغانم أنها لم تكن مدينة النضال ومقارعة العدو فحسب ، فلقد ظلت قبلة للعلم والمعرفة وانتشرت في ربوعها المدارس والزوايا وانتعشت حركة الإقراء بها وانتظمت في أحوازها حلقات الدكر والحكمة ، وكان وداى الحدائق بالدبدابة مجمعا علميا كبيرا ضم أكابر العلماء والفقهاء الدين خلدهم سيدي محمد عبد الكريم ابن حوا في قصيدته المسماة سابقة الكلام فيمن كان بمستغانم وأحوازها من الأعيان والأعلام تجاوز بها المائتين بيت وعد خلالها نحو ثمان وعشرين عالما وعارفا دكر منهم خمسة ممن أدركهم وتتلمد عليهم ولازمهم ملازمة طويلة مبرزا بأن كل هؤلاء كانوا على السنة اجتمع لهم إلى جانب دلك قوة الفهم واليقظة و الحفظ والإمامة والقدرة على الفتوى والإجتهاد . وممن عدهم في هدا المقام العلامة المحقق محمد ابن التادلولتي وابن جنفور المغراوي والإمام المبرز ابن مقلة والحافظ ابن يدر وصاحب القراءات الجامع للعلوم محمد بن علي المغربي والمحدث المفسر عبد الرحمان القيزاني وابن سعيد المالفي والقاضي الشيخ الطاهر المستغانمي وغيرهم ......
وكان الشيخ سيدي سعيد البوزيدي يلقب بسيد الأسياد لإشرافه على تدريس مشايخ الزوايا الكبار وكان كثيرا ما يتولى دلك بنفسه متخذا من الحديقة العمومية (حاليا) مقاما له لتلقين الحكم والمعارف التي تلقاها عن شيخه و أستاده سيدي أحمد بن يوسف الراشدي. و بمدرسة مزغران التي أسسها الشيخ الزاهد سيدي بلقاسم تخرج ما لاينضبط من التلامدة والمريدين الدين يرجع إليهم الفضل الكبير في جهاد المحتلين أشهرهم الشيخ الزاهد سيدي لخضر بن خلوف الدي صرح في ديوانه بأنه قضى ريعان شبابه هناك.++
وبحي المطمر كان الشيخ سيدي عبد الله نجل سيدي خطاب يقيم حلقات العلم والدكر وكان حميد العبد رئيسا لمايربو عن العشرة ألاف من الجند يدين له بالولاء والطاعة و لايتوانى في حضور دروسه العلمية ،ولم يكن ليرد له طلبا أو ليرفض له أمرا حتى أنه لما أشار عليه ببناء حي المطمر لم يتردد وسارع إلى التنفيذ .
وغير بعيد عن المطمر والطبانة ظل لجامع المريني يلقن الأجيال ويربيهم ويعلمهم معتمدا في دلك و معولا على محصلات ريوع الأحباس المختلفة التي أنشأها حوله السلطان أبو الحسن عبد الحق المريني عام 742 هجرية فوق أرضية ناهزت الهكتار من المساحة الوقفية .
وبتيجديت وقرى مستغانم واصلت الزوايا والكتاتيب دورها العلمي والتهديبي البارز وماينبغي التنويه به في المقام أن جميع المدراس التي كانت قائمة بمستغانم لم تقتصر على الطلبة من أبناء مستغانم فحسب ، فقد ظلت مقصدا لكل محبي العلم ومريديه لاسيما القادمين إليها من نواحي الغرب والجنوب الجزائري ، الدين انتظموا في إطار الرحلة لطلب العلم ولقاء المشايخ والتشوف للمعارف وعلى غرار الأئمة الفقهاء و شيوخ العلم و الحفظ والمعرفة ، كثر بمستغانم الزهاد والصلحاء واشتهرت بهم حتى لقبت بمدينة الألف ولي . وهجر هؤلاء مفاخر الدنيا وتجردوا عنها واتخذ كل واحد من هؤلاء ركنا يأوي إليه ويختلي به للدكر والطاعة والإنقطاع عن الدنيا . فبصخرة منفردة بصلامندر آوى الشيخ سيدي خرشوش لنفس الغرض ، ومن نهج رينال فر سيدي بختي المجدوب من حياة الترف ليعتزل بركن من نواحي الخروبة المطلة على البحر ، وبمكان الميناء القديم اتخذ سيدي معزوز البحري مكانا للفكر والتأمل ولم يكن أحدا ليجاوره سوى بغلته التي حملت نعشه من البحر إلى أقاربه بعد وفاته ، وبضفتي نهر الشلف تجول الشيخ حمو العياشي الدي لم يكن لينطق إلا بالحكمة والموعظة وكان سيدي بلعياشي يحرص على ملازمته أينما حل وارتحل خشية أن يفوته شيئ من دلك وبحي العرصة التف الأهالي حول قائدهم الروحي ا"لقائد امحمد" ودانوا له بالمودة والإحترام حتى بعد وفاته وممالايجوز أن يفوت في هدا المقام أن مستغانم وبما حباها الله ـ تحظى بما تحسد عليه من الأثار والمنارات التاريخية الخالدة التي لاتزال شاهدة على الحضارات التي أقامت هناك ردحا من الزمن ، ويعتبر حي الطبانة ودار حميد العبد والمطمر وبرج الترك وبرج لمحال وتيجديت والجامع المريني والميناء القديم وضريح الباي بوشلاغم وباب المجاهر أكبر المعالم الأثرية البارزة علاوة على الدي ذكرنا من قبل ولقد اكتفينا بهدا على جهة الإشارة والتلميح لماضي مستغانم العطر لاعلى جهة الإحاطة فإن المقام لايتسع لدلك وأن كتابة دلك يحتاج إلى وقت طويل وإلى أسفار ومجلدات . وكان الغرض من هدا أيضا التأكيد على صدق النعوت والألقاب التي وشحت بها مستغانم مدينة التاريخ ومدينة سيدي سعيد ومدينة الاثار والفنون ، ولم يبق لي إلا أن أعتدر للقارئ العزيز على الإختصار وأن نقول لمستغانم وأهاليها الكرام ألف تحية وألف سلام . انتهــى
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 07/09/2018
مضاف من طرف : yasmine27
صاحب المقال : الأستاذ/ الحسين يختار ...باحث في التراث الإسلامي
المصدر : مقال منشور بجريدة صوت الغرب الجزائرية يومي 05/22 جوان 2013