هذا العنوان مستوحى من كتاب تقرير إلى غريكو للكاتب اليوناني العظيم نيكوس كازانتزاكيس، صاحب روايات زوربا والإخوة الأعداء والمسيح يصلب من جديد، وهو من أجمل الكتب التي قرأتها طوال حياتي الميتة في شبه محيط فج لا يستحق أدنى احترام لأنه لم يخرج من طور التعامل بالأمعاء والنخاع الشوكي، بل ازداد غرقا في ما يشبه الحمإ المسنون الذي جبل منه قبل ملايين السنين الضوئية عندما كان الكون غمرا، وعندما كان القرد إنسانا قبل أن يعاف سلالته ويلتحق بالغابة مبتهجا بحقيقته الجديدة ككائن نظيف لا يشرفه هؤلاء البشر التعساء، ومنهم نحن، جملة وتفصيلا، أو نكاد نكون كذلك، لكننا نكابر ونكذب على أنفسنا دون تقشف، ودون حياء. ما أتعسنا من ذرية لا معنى لها.إني أتأكد، يوما بعد يوم، بفعل البصيرة التي شحذها الألم والتجربة المريرة في بلد عجيب "مكتوب عليّ من أمي"، أن هناك مجتمعات عبارة عن قذارة ببذلة أنيقة ونظارات شمسية باهظة الثمن، لكنها لا تبصر، بفعل القلوب الغلف، سوى النخالة وما تيسر من العلف المبين، كهذا المجتمع الذي تشيأ فوق الحد وأصبح عارا على الخليقة، وإساءة لأمنا الأرض حفظها البارئ من جشعنا الحديث والمعاصر، من الشعر والنثر والفقه والخطاب السياسي الذي ألحق ضررا بالبيئة وجهاز التنفس: مجتمع المعتوهين الذين لا مسوّغ لوجودهم في الكوكب. أما أغلب الأطباء، أغلبهم، فخرافات وتجار وجزارون ولا مبالون وجب تنبيههم باستمرار إلى حقيقتهم الصادمة: منطق الجيب والبطن والعقار ماذا تنتظران منه يا زهرة وعلياء؟
لقد وصلت مؤخرا إلى العملية الجراحية الخامسة مطمئنا، قانعا بقدري، صابرا كالقطن في عليائه، وقد تكون السادسة في الطريق حسب ما تقوله بعض التحاليل، إن لم تكن مجرد أكاذيب وأخطاء تشبهنا نحن المرضى، لأن الطب في جزائر الفراعنة والدجالين مريض بكل أوبئة الدنيا. يجب تنبيه هؤلاء باستمرار علهم يستعيدون الإنسان الذي مات في أعماقهم مذ أصبح المال غايتهم الأولى، وليس المريض الذي يحتاج إلى حكماء يفهمون نفسيته ووجعه ووضعه الاجتماعي التعيس. الإنسان الشقي ذو معنى، وليس حشوا في المجرة التي لا تبصرونها سوى بأمعائكم الغليظة. المرضى ليسوا بنوكا أيها الأطباء الأجلاء، وليسوا سلعا رخيصة تعبثون بها من أجل أوراق نقدية تشترون بها فيلات ومحالا تجارية لتوسيع المعدة. إنهم أرواح مسكينة تتألم كما الأنبياء القدامى، وكما العصافير في الوحل، دون أن تجد سندا تتكئ عليه في أوقات الشدة، ولو كان المتكأ قصبة أو سنبلة أو باقة من الابتسامات النحيلة جدا، كحرف الألف في وقت المسغبة. اتقوا الله وارتقوا حتى لا تلحق بكم اللعنة القادمة مع أدعية هؤلاء الفقراء، إخوتكم وإخوتنا في التراب والدم والمحنة.
صدقا: توقعت بكثير من اليأس والمرارة، مع إخفاقات الطب وتهافته على المال، أن تتصل بي وزارة التعليم العالي التي انتميت إليها 38 سنة، أو وزارة الثقافة مثلا، أو بعض الهيئات العلمية والإعلامية التي قدمت لها خدمات مجانية كانت دينا عليّ كمواطن يؤمن بوظيفته الاجتماعية، وبالمواطنة الفعالة كقيمة حضارية. كما توقعت عبثا أن تهاتفني الجامعة للاطمئنان على وضعي المتدهور. قد تخطئ وتفعلها بشكل لن يحصل أبدا. من يدري؟ يحدث أن يقلقوا عليك أحيانا عندما يكونون بحاجة ماسة إليك، كآلة جاهزة لمناقشة أطاريح الدكتوراه أو قراءتها على عجل، كممرن، وكفرن متخصص في إنتاج الدكاترة والأميين الفاخرين، وذاك ما حدث عندما كنت أمر بمرحلة حرجة أعقبتها مضاعفات صحية منهكة تعذر تشخيصها في الوقت المناسب بسبب الإهمال والاستخفاف وعبث الطب السخيف، وكنت لا أقدر حتى على المشي والوقوف والكلام: باطل الأباطيل إذن، وقبضة ريح كما ورد في سفر الأسفار، وقلة أدب موزون ومقفى. الهيئات التي تعتبرك آلة لا تستحق أدنى احترام لأنها عبارة عن إفك وجب محاربته فورا لحماية المجتمع من الأرواح الرخيصة التي كجلد الخنزير اليابس.
الحق أقول لكم جميعا، من أجملكم إلى أقبحكم، من أنظفكم إلى أوسخكم بالوراثة: انتظرت زيارة الزملاء الذين يدرسون معي في القسم نفسه، أو مكالماتهم الهاتفية للتخفيف من الألم والقلق والوحدة. ستكلف المكالمة عشرة دنانير، وأما المسافة بين الجامعة والبيت فتقدر بعشر دقائق أو أقل. لم يحصل هذا. قد يكون في ذلك عبئا كبيرا وتبديدا عظيما للجهد والمال وأفعال الكلام، ولميزانية السنة الهجرية التي يقيسها بعض الجامعيين بالسنتيم حفاظا على سلامة المعي والجيب. الناس في هذا الوقت العسير أطماع وحسابات معقدة جدا يتعذر فهمها لأنهم يعيشون لأنفسهم حياة شبيهة بحياة الفأر والقملة، وعلي أن أصارحهم للمرة الأولى، أو الأخيرة.
ثم انتظرت الجيران الذين يقطنون معي في نفس العمارة ويشتغلون معي في كلية الفنون والآداب. كانت المسافة بين بيتي وبيوتهم تقدر بعشرة أمتار تقريبا. لم يحدث أن طرق أحدهم باب المنزل ليسأل إن كنت على قيد الحياة أو الوفاة، إن كنت بحاجة إلى أن أنقل إلى الاستعجالات أو مخبر التحليلات، إن كنت قد اشتقت إلى صباح الخير، أو إلى كيف حالك أيها الكائن القادم من الشرق؟ يقولها بلهجة الغرب أو بلهجة عمتنا النحلة. الظاهر أن عشرة أمتار مسافة مضنية لا يمكن تحملها إلا بمشقة. كما لو أن موتي أهون من موت بعوضة، كما لو أنه مدخل إلى وليمة. هل هذا بلد أم مقبرة؟ هؤلاء هم نحن في هذا السياق التاريخي الأهبل. لم تزرني، منذ عودتي من جيجل إلى مستغانم، سوى فراشات البارئ ورحمته العظمى. لقد كانت رائعة، وكافية جدا لرفع المعنويات المنهارة. أصبحت زنجيا رغما عني في هذه المدينة التي امتلأت بالصحراء، كما الغريب في مفترق الوحشة،وكنت أردد يوميا ما قاله صديقي الشاعر: "ضاع الطريق وكان الثلج يغمرني، والروح مقفرة والليل في رشح، هذي الحقيبة عادت وحدها وطني، ورحلة العمر عادت وحدها قدحي، أصاحب الليل مصلوبا على أمل، أن لا أموت غريبا ميتة الشبح".
توضيح منهجي: عندما يعطس قط المسؤول في الجامعة وفي هذه الوزارات والمؤسسات المتكرشة "حدّ الرقبة" يرسل في طائرة خاصة إلى باريس أو جينيف بأموال الدولة الجزائرية العظيمة، ويتهافت المتهافتون والمنبطحون من مثقفين وجامعيين وأكاديميين وسطحيين وإداريين وكتّاب وموالين للاطمئنان عليه إكراما للمسؤول الفاسد وطمعا في فتات مذلّ، أو بحثا عن بعض المال الحرام، أو عن الترقية المهينة التي ظللت أعتبرها عيبا لا مثيل له في تاريخ المجرّات، وإساءة للكرامة البشرية المهددة بالانقراض في هذا المجتمع البهيمي الذي فقد كل آثار القيم القديمة التي ميزت الأجداد الأشاوس الذين سلاما عليهم وعلى أرواحهم المشرقة كزهر الربّ في البرية. سيبكون كثيرا لإرضاء المسؤول، وقد يكتبون قصائد في رثاء القط المقيم في أحد المستشفيات الفرنسية لعلاج الزكام الوهمي.لكنهم لن يسألوا عنك لأنك لن تمنحهم سوى الكتابة. كيف تبدلنا إلى هذا الحدّ الذي تجاوز القمامات بقرون؟ وما زلنا نسيخ كأكواخ الطين المتصدعة، معتزين بأنفسنا المتفسخة، وبأوساخنا المتراكمة في الروح السديمية التي يعافها الصرصور والجرذ والقمامة نفسها.
المؤكد أننا "سنصبح نحن يهود التاريخ"، ذلك ما تقوله كل العلامات المتاحة، وذاك ما تشير إليه التجليات بالحرف والإيماءة، وبالبياض الدلالي الجاحظ. لقد أفسدتنا الألقاب والشهادات والعقارات والأموال، أفسدنا الطمع ودمّرنا النفاق والرياء والدين الذي أصبحنا نأخذه من ذيله عند الحاجة، عند المصلحة الآنية التي تخدم جوعنا المزمن وشغفنا بالمال والأثاث والعلاقات الوسخة. لم نعد جنسا محددا نفاخر به الأمم الحقيقية التي أغبطها على رقيها ونظامها ومؤسساتها وكفرها الراقي. لسنا بشرا في غابة نائية، ولسنا حيوانات في مدن متورمة كأكياس القيء. لسنا عربا ولسنا عجما، لسنا مسلمين، ولسنا مسيحيين، ولسنا بوذيين ورهبانا، ولسنا كفارا واضحين وصادقين مع أنفسهم تجاه الدين والدنيا.
نحن اليوم عجينة لا شكل لها ولا لون ولا طعم، لكن لها رائحة لا تطاق، رائحة الجيف مثلا، أو رائحة التوحش الأعظم، شتلة مخيفة لا يعوّل عليها أبدا لأنها ليست أهلا للثقة، وإساءة لخليفة الله في أرضه الجليلة التي لا نستحقها لأنها أنظف منا ومن أفعالنا وألسنتنا المليئة بالدود والجعجعة اللفظية المقرفة. هذه هي الحقيقة فخذوها مني بجد، وبحرفية ناصعة لا غبار عليها إن كنتم ترغبون في معرفة من أنتم في هذه السلسلة التاريخية الطويلة، من القرد إلى هذا الإنسان الرديء، ومن الإنسان الرديء إلى هذا القرد المسؤول في مختلف الوزارات والمؤسسات المضحكة، وفي الجامعات التي تعتقد خطأ أنها كذلك، دون أن تستحي من نفسها ولو مرة واحدة في السنة، أو في رمضان مثلا.
الفاضلة علياء بوخاري، مسؤولة النادي الأدبي بجريدة الجمهورية: عندما كتبت لي على الخاص لتخبريني بأنك ترغبين في زيارتي رفقة الشاعرة والإعلامية زهرة برياح للاطمئنان عليّ، كنت في منتهى السعادة والهشاشة لأني أدركت أن الجزائر ستظل واقفة ومرفرفة بالأرواح الخيرة التي تصنع مجدها وإنسانها القادم، بعيدا عن هذا الوحش الكاسر الذي لا أتشرف بمعرفته ومخاطبته. لقدكنت مرهقا ومحبطا وعليلا جدا، كغيمة الصيف التي لا تعرف إن كانت ستنتهي في البر أم في البحر. كنت بصدد إجراء فحوصات يومية مكثفة تخص الرئة والكبد والسكري والعمليات الجراحية الثلاث التي أدت إلى التهاب وتعفن تسببا في مضرات أخرى معقدة، وكان الطب يمزح معجبا بأخطائه واستعلائه، أو بيقينه وأميته المؤكدة، مع استثناءات تستحق أن نرفع لها القبعة عاليا.
أقصد الطب الدادائي الذي لا ضمير له ولا مسؤولية، كما لو أنه يتعامل مع كلب أجرب فائض عن الحاجة، ذاك الكلب هو أنا، أي السعيد بوطاجين الذي يكتب ويترجم ويدرّس في الجامعة ويقدم محاضرات في الثقافة والمناهج والأدب والسيمياء. هكذا يعتبرنا بعض الطب ومختلف الوزارات الوصية التي لا نعنيها في شيء عندما نقع في حيص بيص وتفتك بنا أنياب المعرفة. قد يتخلى عنك المجتمع والدولة بسهولة لأنك لست متخصصا في التصفيق على البهاليل والهمّل، ولست إمّعة أو حشرة منبطحة تمجد المسؤولين والتافهين، على كثرتهم ووقاحتهم. هل هناك تعاسة أكبر من هذه في بلد يخصص طائرة لبغل أو للاعب أو مطرب رديء ولا يهاتف مريضا ليسأل عنه في سياق حرج لا يتطلب أكثر من مكالمة هاتفية بالأبيض والأسود، مكالمة منافقة جدا؟ كما تقتضيه العادات السيئة التي تتبوأ المشهد العام الذي أصبح يميزنا ككائنات غامضة، ومزعجة فوق الحد.
لقد تعلمت من هذه التجربة الجديدة، التي جاءت في قلب الحراك، ما لم أتعلمه خلال عقود من التفاؤل "المورّد الخدين"، بتعبير الشاعر الروسي يافجيني يافتوشنكو، وتألمت كثيرا: نحن في السديم العام الذي لا علاج له حاليا سوى بالاستئصال الجذري لكل الأورام التي تتحكم في واقعنا ومصائرنا، ولتربيتنا الفاسدة التي تشبه جبلا من الأعطاب المعدية، تربويا وعقائديا وسياسيا وأخلاقيا. علينا أن نبحث بسرعة عن الإنسان فينا، أن نعيد اكتشاف أماكن وجوده إن وجدت في جهة ما من جهات الروح الملعونة، إن بقي هناك فتات منه في تربيتنا المفترسة، أو جزء من الرثاث لاسترجاعه وهيكلته إلى أن يكبر كالناس الحقيقيين ويقول لك سلاما أيها الإنسان.من يدري؟ أما الآن فلا خير فينا لأننا خطر كبير على الإنسان والحيوان والحصاة والذبابة.
الصديقتان زهرة وعلياء: أعرف أن هذا التقرير المحبط سيزعج الجميع لأنه واقعي ومضاد للنفاق والنظارات الشمسية ورياء الأصدقاء والزملاء الذين يتعاطفون كثيرا مع الشواذ وقطاع الطرق والمهزوزين واللصوص، بداية من المحيط العائلي، وصولا إلى الشياطين الكبار والصغار المنتشرين في البلد كبصاق السكارى والمسلولين. أقول لهؤلاء وهؤلاء، وللآخرين: الحقائق مرعبة أيها السادة والسيدات، أيتها الأوهام الكبيرة التي بربطة عنق وأحذية ملمّعة وأحمر الشفاه. إننا عادة ما نصر على إخفاء الصدق حفاظا على صورتنا البائسة، الزائفة، تلك الصورة المدببة التي تمثل أعماقنا الممتلئة بعفن المادة.أقول لكم: جسدي هو الذي مرض في بلد يشبه الطاعون والأوبئة القديمة، ويشبهكم أنتم، وأموالي هي التي عالجته بالكاد، وما زالت تفعل ذلك بكرامة، ولا فضل لأي منكم عليّ، لا اليوم ولا البارحة، ولا غدا. ومن له فضل مجهري واحد فليرفع سبابته عاليا ليبصره التاريخ والجغرافيا والصحافة والملائكة.
لقد تعلمت، مذ وجدت خطأ في هذه الرقعة المدمنة على الأنانية، كيف أسقط وحدي وأنهض وحدي، كالطائر الحرّ الذي يموت ولا يتخبط لحظة واحدة احتراما لسلالته المجيدة. أنكسر ولا أنحني كما يقول أجدادنا الأمازيغ. ذاك ديدني لأني تخرجت من كل مدارس المحنة وسقطت حتى في الأماكن التي لم أزرها أبدا، إلى أن غدوت جزءا منها، وصديقا وفيا إلى أن أفنى. مع ذلك أقول لكل من زارني في المستشفى، أو هاتف وكتب وتعاطف وسأل: شكرا يا فخامة الإنسان الفاخر الذي أعتز به لأنه يرافقني في كون مملّ لا يحتمل عندما تنظر إليه بعين الحكمة، أنت أخي المقدس في كونهم الممسوخ، المحفوف بالجراثيم والمرضى الذين يسمون أنفسهم مثقفين وأكاديميين ودكاترة ومسؤولين كبارا فوق العادة، والسلام عليّ يوم أموت ويوم أبعث حيّا... بعيدا عن هؤلاء الذين لا يشبهون شيئا. أما الآن فالموت منقذ لتفادي رؤية هذه الوجوه الكريهة التي تدّعي أنها مسلمة ومؤمنة جدا، ونظيفة كاللص والجثة والمبغى، والسلام عليكما يا زهرة وعلياء وعلى من فكّر فيّ ولو لحظة واحدة، وعلى كل من اعتبر الأموال والمسؤوليات وسخ الدنيا. ما أتعسنا، وما أتعس قدرنا في هذا السياق الذي لا يستحق سوى صفعة أو رصاصة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 07/10/2019
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : السعيد بوطاجين
المصدر : www.eldjoumhouria.dz