مراعاة السياق وأثره في توجيه الجرح والتعديــل

علم الجرح والتعديل من خصائص هذه الأمة، وهو علم جليل القدر عظيم النفع بعيد الأثر، ويمثل أحد أشكال المنهج النقدي للأخبار عند المسلمين ، ومما جاء في توصيفه أنه " علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة وعن مراتب تلك الألفاظ1 ، وقد اشترط أهل العلم لمن يمارس هذا الفن ويبحث في جرح الرواة وتعديلهم شروطا عدة، يؤمن بها الشطط والزيغ أو الإجحاف في حق النقلة، لما هو ظاهر من أن الخطأ في الحكم على الرواة قد يترتب عليه أخطاء في الحكم على المرويات، يقول الإمام اللكنوي رحمه الله : (ويشترط في الجارح والمعدل العلم والتقوى، والورع والصدق ، والتجنب عن التعصب ، ومعرفة أسباب الجرح والتزكية )2 ، وقال الإمام النووي رحمه الله: (إنما يجوز الجرح لعارف به مقبول القول فيه، أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله فيه فلا يجوز له الكلام في أحد من الناس فان تكلم كان كلامه غيبة محرمة)3. وغيرها من الشروط التي ذكرها أئمة هذا الشأن ، إلا أن بعض هذه الشروط لم يأخذ حظه من النظر و في بعض التطبيقات النقدية ، وقد أغفل التنبيه إليها كثير ممن صنف في علم الجرح والتعديل ، وكثير ممن تكلم في الرجال جرحا وتعديلا ، فتنكبوا بذلك السبيل وأتوا بما لا يُرتضى، ومن تلكم الشروط ما سماه الحافظ ابن حجر " تأمل أقوال المزكين ومخارجها " 4، بل وصفها بكونها قاعدة جليلة في هذا الباب ، والمراد بالمخارج السياقات التي تصاحب أقوال الجارح والمعدل وتكتنفها وهي متعددة ، وربما ظن من لم يراعي تلك السياقات والمخارج في فهم أقوال النقاد أن في أقوالهم تعارضا حقيقيا قد يتعذر رفعه، أو يتكلف فيها الجمع . ـ فيجب أن يراعى في الناقد أحواله كالغضب والسخط أو المزاح ونحوها وطبعه اللين أو الشديد أو الاعتدال، وحال السؤال إن كان كلامه في الراوي جاء جوابا على سؤال أو صدر منه ابتداء ، وغيرها من الأحوال الملابسة لكلام الناقد التي تشكل بمجموعها السياق5 الذي قيل فيه ورد فيه القول ، والذي ينبغي يستحضر عند محاولة فهم أو تفسير الكلام الصادر عن أحد النقاد في راو من الرواة . ـ ومن تلكم المخارج التي أشار إليها بعض الأئمة6 أن يكون الكلام في الراوي خرج مخـــــــــرج الجواب عن سؤال معين ، ومنها أيضا سؤال الناقد عن حال الراوي مقرونا بغيره وليس منفردا ، فيجيب باعتبار هذه الإضافة وعلى هذا الأساس جاء هذا البحث لمعالجة مدى اعتبار هذه السياقات7 عند المحدثين ، وأثر ذلك في تحرير الحكم على الرواة جرحا وتعديلا .