الكتاب هو المدرسة الأولى التي فتح فيها صاحبها عينيه على أولى الحروف التي تمكن من حفظها في سرعة قياسية، واستطاع أن يفهم أن أصل الكلمات جميعها هي تركيب من هذه الحروف، لكنه لما انتقل إلى حفظ سور الحزب الأول من القرآن الكريم، وجد نفسه يصارع الملل وطريقة تحفيظ القرآن، حتى أصبح هذا الكتاب يمثـل كابوسا ينغص حياته ويدفعه إلى النفور منه وإكثـار التغيب عنه، خاصة أن أغلب أقربائه التحقوا بالمدارس الحضرية.
في الكتاب، تداول على تدريسه شيوخ يحفظون القرآن حفظا جيدا، ويتنافسون على من لا يخطئ في أية سورة أو آية أو جزء طلب منه ترتيله. كان ينادي الشيخ بـ سيدي الشيخ ، الكل يهابه، لكن الطريقة التقليدية التي يتبعونها في تحفيظ القرآن جعلته يتحايل ويختلق الأعذار لمراوغة سيدي الشيخ للخروج من قاعة التدريس، كطلب قضاء الحاجة.
كان سيدي الشيخ متسامحا، لكنه إذا غضب، سلّ قضيب الزيتون (المشحاط) الطويل الذي ينبّه به الأطفال للامتناع عن اللعب، وأجهد علينا به. ولما كان أكثـر أوقات ملازمة الكتاب هو الصيف، فإن القائمين على شؤونه ينزعون عن أرضيته الفراش، فكنا نجلس على البلاط مباشرة، وكنا نجد فيه برودة تنعشنا، لكنها في ذات الوقت تمثـل لنا مصيبة، إذ يسهل البلاط منزوع الفراش من زحف عصا سيدي الشيخ الطويلة على أرجلنا وأفخاذنا العارية، لأننا كنا نرتدي تبانات أو سراويل قصيرة.
كان صاحبنا وزميل له يقضيان أغلب أوقاتهما في الكتاب في الحديث والضحك، فينتهي بهما المطاف عند سيدي الشيخ ومشحاط الزيتون ثـم التفريق بينهما. كان زميله يختبئ وراء لوحه الذي لم يُمح منذ عصور، ويردد أغنية كانت مشهورة آنذاك لمطرب تونسي مطلعها واش جابك للواد يا زيتونة . لكن، سرعان ما كان سيدي الشيخ يتفطن له ويباغته بـ الزيتونة ، عصاه الطويلة، دون رحمة ولا شفقة، فينهال على كل جسد ضربا به.
لما التحق صاحبنا بالمدرسة النظامية التي كانت حلمه الأول والأخير، كان سنه قد تجاوز التاسعة. وبسبب ذلك، التحق بالصف الثـاني مباشرة، بعد أن اختبره مدير المدرسة الذي بدا له قمة في التحضر والأناقة، بثـيابه الجميلة وربطة عنقه، خلافا لما كان يرتديه سيدي الشيخ في الكتاب من جلابيب وبرانيس طويلة. كان الاختبار جملة محمد يذهب إلى المدرسة ، يتذكرها كما لو كانت بالأمس فقط، كما قال الكاتب الجزائري الراحل مولود فرعون، عرضها عليه المدير فقرأها بطلاقة وبسهولة.
حادثـة غريبة وقعت له مع شيخ المدرسة في الصف الثـاني، نال بسببها ضربا لن ينساه من طرف هذا الشيخ، وهي أنه ردد كلاما أشاعه تلاميذ الأقسام النهائية في المدرسة حول الشيخ، مفاده أنه يشرب الخمر. فلما سأل أحد التلاميذ من سمع هذا الخبر وأجابه أن مصدره صاحبنا، كانت قسوة هذا الشيخ غليظة، إلى درجة أنه إلى اليوم يتذكرها بكثـير من الغيظ والألم والغضب على هذا الشيخ الذي، حسب صاحبنا، لم يحسن التعامل معه في هذه الواقعة.
hamzatalailef@yahoo.fr
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 14/08/2011
مضاف من طرف : sofiane
صاحب المقال : عامري محمد العربي
المصدر : www.elkhabar.com