تلمسان مدينة من بين أعرق مدن التاريخ والحضارة في المغرب العربي، تزخر بآثار كثيرة خلفتها حضارات الأمم والشعوب التي تعاقبت على المنطقة وظلت شاهدة على عمق ماضيها وعظم شأنها بين المؤرخين والرحالة والجغرافيين.
تتميز تلمسان بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، فهي تقع في ملتقى الطرق الرئيسة التي تربط الساحل الشمالي للمغرب العربي وموانئه بالصحراء الكبرى من جهة، وتصل شرقه بغربه من جهة أخرى. اشتهرت تلمسان بكونها مركزا عسكريا وتجاريا وحضاريا وسياسيا بارزا في منطقة الشمال الإفريقي عبر العصور، مما دفع بكل الدول التي حكمت هذا الفضاء الجغرافي إلى السعي الدؤوب للسيطرة عليها وضمها إلى حظيرة ممتلكاتها.
اتخذها السكان الأصليون من البربر موطنا لهم منذ أزمنة غابرة قبل أن يجعل الرومان منها، في القرن الثالث الميلادي، ثغرا محصنا تقطنه العشرات من فرقهم العسكرية المكلفة بالدفاع عن الحدود الغربية لدولتهم في شمال إفريقيا. فتحها العرب المسلمون على يد أبي المهاجر دينار حوالي عام 55هـ وأقام بها القائد عقبة بن نافع لفترة قصيرة بعد فتحه لمدينة تيهرت عام 62هـ. ظفر بها خوارج بني يفرن ومغراوة، فأسسوا بها إماراتهم قبل أن تقع في حكم الأمويين. حاصرها الملثمون والأدارسة والحماديون والحفصيون وبنو مرين وغيرهم عدة مرات، وانتزعها الموحدون من المرابطين بعد صراع مرير، واتخذها بنو زيان عاصمة لدولتهم ومقرا لحكمهم وملجأ لقبيلة زناتة. ولم تسلم تلمسان من تحرشات وغزوات الأسبان الصليبيين، فصارت مفرا للأندلسيين ومقصدا لعلمائهم وملوكهم الهاربين من جحيم الأندلس بعد سقوط غرناطة.
حكمها الأتراك العثمانيون قرابة ثلاثة قرون بداية من سنة 962هـ-1555م؛ ولما غزت فرنسا بلاد الجزائر عام 1246هـ-1830م، وقفت تلمسان صامدة في وجه الجيوش الفرنسية الزاحفة وحولها الأمير عبد القادر الجزائري إلى عاصمة للجهاد والبطولات طيلة عشر سنوات. ولم يتمكن المستعمر الفرنسي من الاستيلاء عليها إلا في عام 1258هـ-1842م.
ترتفع تلمسان عن سطح البحر بنحو ثمانمائة وثلاثين 830 مترا وتبعد عنه بحوالي ثمانين 80 كيلومترا. بنيت على سفح جبل يقيها من الرياح الآتية من الصحراء في فصل الصيف وعواصف البرد القارص القادمة من الهضاب العليا الجنوبية والغربية في فصل الشتاء. تشرف على المدينة من الجهة الجنوبية سلسلة جبال لالة ستي التي يبلغ ارتفاع أعلى قمة بها 1306مترا. ومن هضبتها المكسوة بغابات الصنوبر تنبع مياه غزيرة وعذبة، شرب منها سكان المدينة على مر الأزمنة واستغلوها لسقي حقولهم وبساتينهم الخصبة. وقد وصف يحيى بن خلدون، مؤرخ ملوك بني عبد الواد، تلمسان بقوله: " اقتعدت بسفح جبل ودون رأسه ببسيط أطول من شرق إلى غرب عروسا فوق منصة والشماريخ مشرفة عليها إشراف التاج على الجبين تطل منه على فحص أفيح معد للفلاحة" 1.
تحيط بتلمسان من الجهة الغربية والشمالية والشرقية سهول تمتاز بجودة تربتها ووفرة إنتاجها، تسقى عن طريق شبكة من قنوات الري المحكمة التنظيم، تصل الحقول والبساتين والرياض وتوزع مياه العيون والينابيع الجبلية
خلال فصلي الصيف والخريف، الشيء الذي جعل من تلمسان جنة تغص بالمنتجات الزراعية اليانعة والرياض الفيحاء. أما أوديتها وأنهارها وجداولها المنصبة من السلاسل الجبلية، فقد تغنى بها الشعراء وكان خريرها يسمع في كل ناحية، إذ قال عنها الإمام ابن مرزوق الخطيب:
بلد الجداول ما أمر نواها كلف الفؤاد بحبها وهواها
يا عاذلي كن عاذري في حبها يكفيك منها ماؤها وهواها 2
وقد شكل عنصرا وفرة المياه العذبة بها طول السنة، والحصانة الطبيعية التي توفرها لها تضاريس المنطقة، عاملين أساسيين دفعا بالسكان الأوائل إلى اختيار هذا الموقع لبناء التجمع السكني الأول والاستقرار به؛ قبل أن يمتد العمران في كل الاتجاهات بسبب عوامل تاريخية وبشرية عاشتها حاضرة تلمسان عبر العصور.
يظل تاريخ إنشاء تلمسان غامضا إلى يومنا هذا. فنحن لا نعرف من اختط لأول مرة هذه المدينة ولا تاريخ اختطاطها، بل حتى من سماها كذلك وفي أي فترة. كل ما احتفظ به التاريخ لنا هو أن أمراء بني يفرن، بطن من بطون قبيلة زناتة البربرية، ثاني أكبر قبيلة بالمغرب العربي بعد صنهاجة ، قد أسسوا قرونا قبل أن تصبح شمال إفريقيا جزءا من الإمبراطورية الرومانية، مدينة أطلقوا عليها اسم "أقادير" Agadir 3. وجاء بعدهم الرومان فاختطوا بنفس المكان مركزا حربيا في القرن الثالث الميلادي أسموه "بوماريا" Pomaria 4. ولا تروي لنا قصص التاريخ كيف زالت هذه المدينة وضاعت آثارها.
ولما حاصر المرابطون مدينة أقادير عام 474هـ-1081م، بنى قائدهم يوسف بن تاشفين مدينة جديدة بالمكان الذي نزلت به جيوشه والواقع غرب المدينة المحاصرة، أطلق عليها اسم "تقرارت" Tagrart 5. و بسرعة أصبحت المركز الرسمي للحكومة المرابطية إذ نزل بها قادة الجيش والولاة ورجال الدولة ، وبنيت بها دار الإمارة والمسجد الجامع؛ فأضحت بذلك من أهم مدن المغرب الأوسط ينشط بها العمران وتشيد فيها المباني الجميلة. وفي عهد الموحدين صارت تلمسان مقرا لولاة المغرب الأوسط، فعني هؤلاء بتحصينها من خلال إقامة الأسوار وتشييد المنازل والقصور الضخمة. وقد سلمت المدينة من الثورات التي قامت بالمغرب الأوسط على عهد الموحدين بفضل مناعتها، فلجأ إليها الكثير من سكان المدن الأخرى وتواصلت بها حركة العمران، فكثر فيها الصناع والتجار وعظم شأنها.
ويختلف المؤرخون حول أصل ومعنى كلمة تلمسان، فيرى البعض أنها تتألف من كلمتين بربريتين هما "تلم" ومعناها تجمع، و"سان" ومعناها اثنان؛ أي تجمع اثنان: البر والبحر، أو الشمال والصحراء، أو الجبل والسهل. بينما يرى آخرون أن الكلمة عربية مركبة ويقصد بها تجمع الإنسان. وقال الفريق الثالث آن الكلمة بربرية محرفة وردت بصيغة الجمع (مفردها تلماس) وتعني جيب ماء أو ينبوع ، وهذا المعنى مطابق للواقع.
ذكرت تلمسان في كتب المؤرخين والجغرافيين الأوائل بصيغ مختلفة، فوردت بلفظ "تلمسين" عند بن عبد الحكم في (فتوح إفريقية والأندلس) وبن خرداذية في (المسالك والممالك) ، بينما ذكرها عبد الرحمن بن خلدون في تاريخه وبن حوقل في (صورة الأرض) بالنون "تنمسان".
ولم تحمل المدينة اسم تلمسان إلا في مصادر القرن الثالث للهجرة ولا ندري من استعمله لأول مرة، في حين احتفظ بلفظ أقادير ليطلق على المدينة القديمة في الجهة الشرقية من تلمسان. يصفها الإدريسي في (نزهة المشتاق) بأنها "مدينة أزلية ولها سور حصين متقن الوثاقة وهي مدينتان في واحدة يفصل بينهما سور..." 6.
وتدعى تلمسان أيضا مدينة السور أو الجدار لكونها محاطة بأسوار كبيرة وطويلة قليلا ما نجد مثلها في العالم الإسلامي، حتى أن ياقوت الحموي نقل في (معجم البلدان) مزاعم خاطئة عن جدارها حيث يقول : "...ويزعم بعضهم أنه(تلمسان) البلد الذي أقام به الخضر عليه السلام الجدار المذكور في القرآن..." 7.
تربعت تلمسان صدارة تاريخ المغرب الأوسط أكثر من ثلاثة قرون، ازدهر خلالها الفكر وأخصبت الحضارة، وتطور العمران وانتعش الاقتصاد والتجارة؛ فاستهوت العديد من رجالات الفكر والدين والسياسة، وجلبت الرحالة والجغرافيين والمهاجرين، فأكسبها ذلك ألقاب "مدينة التاريخ والثقافة والفن" و " لؤلؤة المغرب العربي".
1 : يحيى بن خلدون، بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد، تحقيق:Alfred Bel، ج1، الجزائر:1910، ص9.
2 : الأمير محمد بن عبد القادر. تحفة الزائر في أخبار الجزائر والأمير عبد القادر، بيروت،1964، ص18.
3 : أقادير أو أجادير (بجيم مصرية) اسم فينيقي قديم دخل في لغة البربر و معناه الجرف أو الهضبة القليلة الانحدار.
4 : وتعني الحدائق والبساتين الغنية بشجر التفاح والمسقية بمياه غزيرة. ولا زالت إلى يومنا هدا قناة للمياه بنفس المكان تدعى "ساقية النصراني"/ يدكرها الشاعر ابن خميس التلمساني بقوله:
لساقية الرومي عندي مزية وإن رغمت تلك الرواسي الرواشح
5 : كلمة بربرية معناها المحلة أو المعسكر، وهو المكان الذي ربطت فيه جيوش المرابطين المحاصرة لأقادير.
6 : الشريف الإدريسي. نزهة المشتاق في اختراق الأفاق، ج1، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2002، ص238.
7 : ياقوت شهاب الدين أبو عبد الله الحموي. معجم البلدان، ج1، القاهرة، 1906، ص424.
هذا الموضوع جدا رائع و مفيد خاصة للطلاب لتثقيف
ايمان - لاشيء - قسنطينة - الجزائر
04/02/2011 - 10982
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 20/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com