كثيرا ما تسبب الخلط بين الزوايا والأبعاد في تناول ما له صلة بالإسلام في تكثيف الالتباسات وإعاقة تشكل الوعي الذي فيه بعبارة ابن رشد "فصل المقال".الإسلام كوحي والإسلام كتمثلات لذلك الوحي، وفي التمثلات يحضر التاريخ بتجاربه وتحضر الخصوصيات الأنثربولوجية والسايكو سوسيولوجية. الإمام علي رضي الله عنه بيّن فصل المقال أثناء مجابهته للخوارج لما قال: "نقاتلكم على تأويله كما قاتلناكم على تنزيله". و قال:«القرآن حمّال أوجه". وكما ذكر كاتبا كتاب "إسلام عصور الانحطاط" هالة الورتاني وعبد الباسط قموري:«يكشف النظر في الظاهرة الإسلامية منذ انبثاقها إلى الوقت الراهن عن أنّها ظاهرة تاريخية صيغت تجلياتها المتعددة في لحظات تاريخية تعددت محركات الفعل فيها باختلاف العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وباختلاف الفاعلين الاجتماعيين ممثّلين في أفراد تاريخيين عاشوا إسلامهم الخاصّ فأنتجوا تمثّلات بشرية أسهمت في إثراء التاريخ الإسلامي بتجارب متعددة، تبين أنّ الإسلام واحد بقدر ما هو متعدد. وهو ما يتجاوز المنظور التوحيدي والاختزالي للظاهرة الإسلامية الذي يميل إلى التوحيد والتنميط، اختزالا للإسلام في إسلام واحد معياري متعال على السيرورة التاريخية، إلى دراسة ترتاد أفق سوسيولوجيا التحوّلات لتضع الإسلام في مسار التحوّل التاريخي والتعدّد في التجارب والتمثّلات، كاشفا عن الانتقال من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، ذلك الإسلام الحضاريّ والثقافي، بما أن الدين يستمدّ ملامحه من الظروف الموضوعية المحايثة ومن ملامح الفئات الاجتماعية التي تمثّله".
السلفية مصطلح متداول بكثرة بإيحاءات تقصد اتجاها معينا، تشعب بدوره إلى اتجاهات.
في الأصل كل الاتجاهات الإسلامية تعلن سلفيتها بالمعنى المراد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن خيرية القرون الثلاثة، قول الإمام مالك: "لا يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". إذا جل التيارات تلتقي عند هذا الصعيد، لكن الإختلاف في تأويل المراد من حديث الرسول "ص"، ومن هذا الاختلاف تشكلت اتجاهات تعود في جذورها إلى مرحلة الاختلاف بين أصحاب النقل وأصحاب الرأي، أي مرحلة تشكل المذاهب وبداية التدوين.
إن الحديث يعيدنا إلى فجر الإسلام، فبعد فترة من انتقال الرسول "ص" إلى الرفيق الأعلى، بدأت التحولات باتساع نطاق البلاد الإسلامية وبتوسع الاتصال مع الفضاءات الأخرى. وبالتراكم طرأت مظاهر بدت للبعض منذ أبي ذر الغفاري رضي الله عنه بمثابة ابتعاد عن المنهج الإسلامي كما جاء به وعاشه الرسول "ص"، ومع انقضاء العهد الراشدي كمرحلة استمرار تجسيد المثال. بدأت العرى تتفكك وبدأت بعروة الحكم المتحول إلى وراثي وبمظاهر أسماها بعض الثائرين على ملك بني أمية بالكسروية والقيصرية وساد الترف والاستبداد. كما عمت السجالات التي وظفت النص المقدس والمأثور في التأويل وساد أيضا توظيف ما بدأ ينقل من الفلسفة الإغريقية، وتبلور ذلك في العهد العباسي. وفي خضم ذلك التدافع انطلقت من عاصمة الدولة العباسية دعوة العودة إلى الأصول، وكان الرائد الإمام أحمد بن حنبل المعتبر من طرف الباحثين رائد الدعوة السلفية. وهو لم يحمل الدعوة فقط كخطاب وإنما جسدها لما ابتلي بمحنة خلق القرآن، فقد صمد أمام السلطان المتبني لطرح المعتزلة، ورغم ما لحقه فإنه صمد منتصرا لما يعتقده حقا و لم يتراجع عن موقفه. وكان طرح ابن حنبل تحريا لما كان عليه الرسول "ص" وأصحابه. إن موقفه هواستجابة لتحدي حضاري مثلما كانت استجابة غيره بما هو متناقض معه، استجابات لنفس التحدي. ومدرسة الإمام أحمد هي مدرسة الأثر أوأهل الحديث، وهي مدرسة تلخص كما يقول الدكتور محمد رواس قلعه جي :«في الوقوف على نصوص الأحاديث، أي بالعمل بألفاظ الحديث دون تعديها".
يقول الدكتور فهمي جدعان:«علينا أن نميّز في العالم السني الكلاسيكي، بين ثلاثة تيارات متباينة: أصحاب الحديث، أهل السنة، وأهل السنة والجماعة. وهؤلاء الأخيرون لم يظهروا إلا في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة، ولا ينطبق عليهم ما ينطبق على الأوائل: أصحاب الحديث، الذين ظهروا في القرن الثاني، و اشتد عودهم في مطلع القرن الثالث". ردا على هذا الطرح يقول الدكتور سيد رضوان:« أن رأي جدعان عن ظهور عن تطور أصحاب الحديث إلى أهل السنة ثم السنة والجماعة يفتقد الصحة"، وبأن تطور أهل الحديث إلى أهل السنة حدث في وقت مبكر، تقريبا في حوالي النصف الثاني للهجرة، بدليل أن الشافعي في الرسالة، وفي رسائله الأخرى، يسميهم أهل السنة، يتحدث عن السنة مصدرا من مصادر التشريع وعن الحديث. وفي هذه الفترة نجد كثيرا من الكتب والمؤلفات والرسائل التي تحمل عنوان السنة. أما أهل السنة والجماعة فلا شك أنهم ظهروا إبان خلافة المأمون، بدليل أن المأمون يهاجمهم في رسائلة له من طرسوس إلى واليه على بغداد، سنة 218 ه، يقول ما معناه: "يزعمون أهل السنة، وهم ضد السنة وضد الرسول صلى الله عليه و سلم، ويزعمون أنهم أهل الجماعة، وهم المفرقون لكلمة المسلمين. إذا خصوم المأمون، وهم جماعة الإمام أحمد بن حنبل، كانوا يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة، وليس صحيحا أن ظهورهم تأخر مائة عام كما يقول فهمي جدعان". السياق التاريخي مهم جدا في تقصي التضاريس والكرونولوجيا، فالعلامة أحمد بن تيمية الذي يجسد في ما يكتب المرجع للسلفيين رغم أنهم يحجبون أجزاء من تراثه وإرثه الهائل ويتعاطون معه بمنطق الاستخدام الذرائعي تبلور فكره في سياق محن، محن صاغت وتصاغ من ابن حنبل إلى سيد قطب. أطروحات إذا طرحنا عنها سياقاتها سنكون مجانبين للصواب وللمنطق، فأسرة ابن تيمية كانت من ضمن من هربوا من العراق إلى الشام بعد الاجتياح المغولي والغزاة الذين حلوا بالدمار ادعوا أنهم مسلمون وعلى منهج الإسلام، لكن ادعاءهم لا يستقيم ودعواهم تتهافت بحيثياتها. ابن تيمية جسد نموذج العالم العامل الذي ثبت وصمد وتحمل البلاء باستثنائية جعلته يقضي فترات من عمره في السجن، وكان واقفا بالمرصاد لمناورات المغول الذين رفعوا المصاحف على أسنّة السيوف أثناء حصارهم لدمشق. ابن تيمية كان عقلا جبارا أحاط بعلوم عصره وكانت له اجتهادات، كما أنه تميّز بصراحته ومراجعاته النقدية ليس للآخرين فقط بل لنفسه أيضا. وإذا قلنا إنه رائد السلفية فهو رائد السلفية الحقة، وكما قالت المرحومة الدكتورة عائشة بنت الشاطئ:«إن السلفي لا يكون سلفيا أصيلا إلا حينما يكون عقلانيا"، وكان محمد بن عبد الوهاب في العصر الحديث رائد حركة كبيرة تجذرت وتوسعت، لأنها تحولت بالتحالف مع آل سعود إلى قاعدة إيديولوجية للمملكة السعودية، أي نظام سيكتسب الكثير من الثقل في العالم الإسلامي وفي العالم كله، لأنه مشرف على الحرمين الشريفين، ولأن السعودية من النصف الثاني للقرن الماضي تحولت بالاكتشافات النفطية إلى قوة بمواردها.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 15/07/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : محمد بن زيان
المصدر : www.djazairnews.info