الجزائر

محمد عبد القادر السائحي: الشعر من حيث هو مدخل إلى التاريخ..



محمد عبد القادر السائحي: الشعر من حيث هو مدخل إلى التاريخ..
الزميل محمد عبد القادر السائحي، شاعر رقيق وثائر في الوقت نفسه، وهو بالفعل رقيق حين يشارف تخوم التشبيب على طريقة العذريين الأوائل، وثائر، لأنه من أبناء الحركة الوطنية والجهاد الجزائري. وقد سبق لي أن قلت له: أنت في نظري، يا سي عبد القادر، أنت صاحب أجمل قصيدتين قيلتا في الشعر الجزائري والعربي الحديث.ما قرأت يوما المقطع الشعري الذي يقول فيه صاحبه قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، وأعني به:
«ولما قضينا من منى كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطرافِ الأحاديث بيننا
وسالتْ بأعناقِ المطِيِّ الأباطحُ”
إلا ذكرت قصيدته التي نظمها في سبعينات القرن المنصرم، وأعني بها: من ”عين نحالة سالت مشاربنا”. وهي قصيدة أداها المطرب الراحل محمد راشدي بصوته البهي الصافي، أيام كانت الجزائر تخوض تجربتها الاشتراكية في ظل الرئيس الراحل هواري بومدين. كان الرئيس قد دشن قرية ”عين نحالة” الاشتراكية فكان بذلك نبعا ثرا للإبداع والنفحات الشعرية لدى الزميل عبد القادر. وأيا ما كانت الانتقادات التي وجهت بعد ذلك للرئيس بومدين وتجربته في البناء الاشتراكي فإنها كانت تجربة فريدة في العالم العربي وفي العالم الثالث. وقد قال لي يومها أحد المثقفين المصريين ونحن على متن طائرة أقلتنا من بغداد إلى بيروت: إن تجربتكم تجربة فريدة وهي جديرة بالدرس لأنها تمر في صمت ودون جعجعة على عكس ما يحدث عندنا في المشرق العربي.
قال عبد القادر قصيدته ومضى، ولم يدر يومها أنها قصيدة ستظل تتردد في وجدان القراء والمنصتين كلما ورد ذكر لثورة البناء الاشتراكي في الجزائر. ما قرأتها يوما إلا وحدث ما يشبه التقاطع بينها وبين قصيدة الشاعر العربي القديم، ذلك الذي صور فأبدع حين قال: وسالت بأعناق المطي الأباطح. وما كنت أدري في تلك الأيام معنى هذا المقطع حتى قرأت على سبيل الصدفة كتيبا للشاعر اللبناني أمين نخلة يتحدث فيه عن هذا المقطع الشعري بالذات ويجلو فيه هذه الصورة. وبالفعل، فراكب البعير يشعر وكأنه ينزل من كثيب رملي ويرتقي كثيبا آخر، وعيناه مصوبتان نحو الأمام بحيث لا يرى شيئا آخر سوى الرمال وهي تعلو وتهبط قبالة عنق البعير مما يوحي بأن الرمال تسيل سيلا.
أما القصيدة الثانية فإنني لا أذكرها إلا وذكرت رفاقي في الصحافة الوطنية منذ أن بدأت العمل في حقل الإعلام يوم 6 ديسمير 1962، أي قبيل صدور العدد الأول من صحيفة الشعب يوم 11 ديسمبر من نفس السنة. كانوا رفاقي حقا وإخوتي في العمل الصحفي، نلتقي في أثناء التغطيات الصحفية واللقاءات الفكرية والثقافية في النوادي وغيرها من المحافل الأخرى. والقصيدة التي قالها الشاعر عبد القادر تحمل عنوانا بليغا حقا، وأعني به: الفاتحة تقرأ خمس عشرة مرة في هانوي، وكانت بمناسبة استشهاد خمسة عشر صحفيا من رفاقي في هانوي، عاصمة الفيتنام الذي كان يخوض يومها حربا ضروسا ضد الاستعمار الأمريكي. كانوا جميعا على متن طائرة أنطونوف 24، التي حاولت الهبوط في مطار هانوي وسط الضباب فحادت عن المدرج وانزلقت صوب حقل مرزوع بالألغام تحسبا لأي هبوط أمريكي. وكان أن انفجرت الطائرة وتناثرت أشلاء زملائي. وقد بكاهم الشاعر عبد القادر على غرار ما فعله الجزائربون كلهم وصحفيو العالم أجمع، وحكومات مختلف الدول وشعوبها.
وبيت القصيد في هذا الكلام هو أننا نستطيع التأريخ لحركتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية من خلال الشعر. رب قصيدة يقولها هذا الشاعر أو ذاك في هذه المناسبة أو تلك فتجلب لنا الدفء في المشاعر وتعيد إلينا مقاطع من حياتنا وحياة البناء الوطني. وذلك ما قام به الشاعر عبد القادر السائحي عندما نظم قصيدته الشهيرة ”من عين نحالة” وقصيدته الثانية ”الفاتحة تقرأ خمس عشرة مرة في هانوي”.
وإني بهذه المناسب لأهيب بأبناء الجيل الطالع أن يقرأوا هاتين القصيدتين وغيرهما من القصائد التي نظمها شعراء الجزائر منذ أن استعدنا استقلالنا؟
ليس التاريخ وثائق ومذكرات وشهادات فحسب، نجمعها ونستقيها من هنا وهناك، ولكنه أيضا، مجموعة من القصائد البليغة والأقوال التي تصدر عن هذا أو ذاك في صبوة من صبوات الزمن. وأحسب أن محمد عبد القادر السائحي نهج هذا النهج حين نظم قصيدتيه الاثنتين.
شخصيا، يحدث لي أن أعود إلى الوراء فأستذكر تجربتنا في البناء الاشتراكي على الرغم مما شابها من نقص هنا وهناك، وأتخذ من قصيدة عبد القادر مطية لاسترجاع ذلك الزمن الحافل بالرغبة الجامحة في التشييد، وكنا كذلك حقا وصدقا. وأقرأ قصيدته ”الفاتحة تقرأ خمس عشرة مرة في هانوي”، فتعود إلي صور زملائي الذين استشهدوا في هانوي من وكالة الأنباء الجزائرية وصحيفة الشعب والتلفزة الجزائرية والإذاعة وغيرها من المؤسسات الإعلامية الأخرى.
وقد دفعتني قصيدتا عبد القادر إلى أن أقرأ مرة ثانية ما كتبه المستعرب الفرنسي جاك بيرك عن الشعر الجاهلي. لقد أقنعني هذا المستعرب بأنه وضع قدميه بالفعل في الأماكن التي تحركت فيها عبلة وحبيبة امرىء القيس ومية وغيرهن من اللواتي شبب بهن شعراء الجاهلية.
وها هو الزميل عبد القادر يفتح من حيث لا يدري ولا يشعر آفاقا دوني ودون كل من يريد أن يتعمق في تاريخ وطنه الحديث، وينظر في قائمة الضحايا الذين حفلت بهم حوليات هذا التاريخ الجزائري. فشكرا له على هذا الإبداع الذي أشعر وكأنني شاركت فيه. وبعد، أوليس الإبداع قراءة أيضا قبل أن يكون كتابة نثرية أو نظما شعريا؟


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)