الجزائر

محمد حسنين هيكل يكتب.. كيف استطاعت "بقرة ضاحكة" أن تحكم مصر ثلاثين سنة !!؟



محمد حسنين هيكل يكتب..                كيف استطاعت
بدأت التفكير في هذه الصفحات باعتبارها مقدمة لكتاب تصورت أن أجمع داخل غلافه مجمل علاقتي بالرئيس «حسني مبارك»، وقد كانت علاقة محدودة وفاترة، وفي كثير من الأحيان مشدودة ومتوترة، وربما كان أكثر ما فيها ــ طولا وعرضا ــ لقاء واحد تواصل لست ساعات كاملة، ما بين الثامنة صباحا إلى الثانية بعد الظهر يوم السبت 5 ديسمبر 1981 ــ أي بعد شهرين من بداية رئاسته ــ وأما الباقي فكان لقاءات عابرة، وأحاديث معظمها على التليفون، وكلها دون استثناء بمبادرة طيبة منه. لكن الواقع أن الحوار بيننا لم ينقطع، وكان صعبا أن ينقطع بطبائع الأمور طالما ظل الرجل مسيطرا على مصر، وظللت من جانبي مهتما بالشأن الجاري فيها. وعليه فقد كتبت وتحدثت عن سياساته وتصرفاته، كما أنه من جانبه ردّ بالتصريح أو بالتلميح، وبلسانه أو بلسان من اختار للتعبير عنه أو تطوّع دون وكالة. وقد تراكم من ذلك كثير مكتوب مطبوع، أو مرئي مسموع، وفكّرت أن أجعله سجلا وافيا ــ بقدر الإمكان ــ لحوارات وطن في زمن، ولعلاقة صحفي مع حاكم ومع سلطة في الوطن وفى الزمن!! لكنى رُحت أسأل نفسي عن الهدف من جمع هذا السجل، ثم ما هو النفع العام بعد جمعه؟!! ــ وبداية فقد ورد على بالي أن تسجيل ما جرى في حد ذاته قد يكون وسيلة إلى فهم مرحلة من التاريخ المصري المعاصر ما زالت تعيش فينا، وما زلنا نعيش فيها!! ــ ثم ورد على بالي أن كثيرا من قضايا ما جرى ما زالت مطروحة للحوار، وبالتالي فالتسجيل سند للوصل والاستمرار. ــ ثم ورد على بالي أن بعض الملامح والإشارات في سياق ذلك الحوار ربما تكون مفيدة في التعرف أكثر على لغز رجل حكم مصر، وأمسك بالقمة فيها ثلاثين سنة لم يتزحزح، وتغيّرت فيها الدنيا، وظل هو حيث هو، لا يتأثر. وذلك لا بد له من فحص ودرس!! وتركت خواطري تطل على كل النواحي، ثم اكتشفت أن الاتجاهات تتفرّع وتتمدّد ــ لكن الطرق لا تصل إلى غاية يمكن اعتبارها نقطة تصل بالسؤال إلى جواب. وعُدت إلى ملفاتي وأوراقي، ومذكراتي وذكرياتي، وبرغم آثار كثيرة وجدتها، ومشاهد عادت إليّ بأجوائها وتفاصيلها، فقد طالعني من وسط الزحام سؤال آخر يصعب تفاديه ــ مجمله: ــ ماذا أعرف حقيقة وأكيدا عن هذا الرجل الذي لقيته قليلا، واشتبكت معه ــ ومع نظامه ــ طويلا؟!! والأهم من ذلك: ــ ماذا يعرف غيري حقيقة وأكيدا عن الرجل، وقد رأيت ــ ورأوا ــ صورا له من مواقع وزوايا بلا عدد، لكنها جميعا لم تكن كافية لتؤكد لنا اقتناعا بالرجل، ولا حتى انطباعا يسهل الاطمئنان إليه والتعرف عليه، أو الثقة في قراره. بل لعل الصور وقد زادت على الحد، ضاعفت من حيرة الحائرين، أو على الأقل أرهقتهم، وأضعفت قدرة معظمهم على اختيار أقربها صدقا في التعبير عنه، وفي تقييم شخصيته، وبالتالي فى الاطمئنان لفعله؟!! وإذا أخذنا الصورة الأولى للرجل كما شاعت أول ظهوره، وهى تشبهه بـ «البقرة الضاحكة» La vache qui rit ــ إذن فكيف استطاعت «بقرة ضاحكة» أن تحكم مصر ثلاثين سنة؟!! وإذا أخذنا الصورة الأكثر بهاء، والتي قدمت الرجل إلى الساحة المصرية والعربية بعد حرب أكتوبر باعتباره قائدا لما أطلق عليه وصف «الضربة الجوية» ــ إذن فكيف تنازلت «الأسطورة» إلى تلك الصورة التي رأيناها في المشهد الأخير له على الساحة، بظهوره ممددا على سرير طبي وراء جدران قفص في محكمة جنايات مصرية، مبالغا فى إظهار ضعفه، يرخي جفنه بالوهن، ثم يعود إلى فتحه مرة ثانية يختلس نظرة بطرف عين إلى ما يجري من حوله، ناسيا ــ أنه حتى الوهن له كبرياء من نوع ما، لأن إنسانية الإنسان ملك له في جميع أحواله، واحترامه لهذه الإنسانية حق لا تستطيع سلطة أن تنزعه منه ــ إلا إذا تنازل عنه بالهوان، والوهن مختلف عن الهوان!! وإذا أخذنا صورة الرجل كما حاول بنفسه وصف عصره، زاعما أنه زمن الإنجاز الأعظم في التاريخ المصري منذ «محمد على» ــ إذن فكيف يمكن تفسير الأحوال التي ترك مصر عليها، وهى أحوال تفريط وانفراط للموارد والرجال، وتجريف كامل للثقافة والفكر، حتى إنه حين أراد أن ينفي عزمه على توريث حكمه لابنه، رد بحدّة على أحد سائليه وهو أمير سعودي تواصل معه من قديم، قائلا بالنص تقريبا: ــ «يا راجل حرام عليك»، ماذا أورِّث ابني .. أورثه «خرابة»؟!! ولم يسأله سامعه متى وكيف تحوّلت مصر إلى «خرابة» حسب وصفه!! وهل تولى حكمها وهي على هذا الحال، وإذا كان ذلك فماذا فعل لإعادة تعميرها طوال ثلاثين سنة، وهذه فترة تزيد مرتين عمّا أخذته بلاد مثل الصين والهند والملايو لكي تنهض وتتقدم!! ثم إذا كان قد حقق ما لم يستطعه غيره منذ عصر «محمد على» ــ إذن فأين ذهب هذا الإنجاز؟!! ــ وكيف تحوّل ــ تحت نظامه إلى «خرابة»؟!! ــ ثم لماذا كان هذا الجهد كله من أجل توريث «خرابة»، خصوصا أن الإلحاح عليه كان حقل الألغام الذي تفجّر في وسطه نظام «الأب» حطاما وركاما، ما زال يتساقط حتى هذه اللحظة بعد قرابة سنة من بداية تصدعه وتهاويه!! وكيف؟!! ــ وكيف؟!! ــ وكيف؟!! وهنا فإن التساؤل لا يعود عن الصور، وإنما ينتقل إلى البحث عن الرجل ذاته!! وعلى امتداد هذه الصفحات فقد حاولت البحث عن الرجل ذاته قبل النظر في ألبوم صوره، وعُدت إلى ملفاتي وأوراقي، ومذكراتي وذكرياتي عن «حسني مبارك»، ثم وقع بمحض مصادفة أنّني لمحت قصاصة من صحيفة لا أعرف الآن بالتحديد ما دعاني إلى الاحتفاظ بها ثلاثين سنة، لكني حين نزعتها من حيث كانت وسط المحفوظات ــ رُحت أقرؤها وأعيد قراءتها ــ متفكّرا!! وكانت القصاصة مقالا منشورا في جريدة «الواشنطن بوست» في يوم 7 أكتوبر 1981، وفي بداية المقال جملة توقفت عندها، وفي الغالب بنفس الشعور الذي جعلني أحتفظ بها قبل ثلاثين سنة!! والجملة تبدأ بنقل «أن الأخبار من القاهرة بعد اغتيال الرئيس «السادات» تشير إلى أن الرجل الذي سوف يخلفه على رئاسة مصر هو نائبه «حسني مبارك» ــ ثم تجيء جملة تقول بالنص: «إنه حتى هؤلاء الذين يُقال إنهم يعرفون «مبارك» هم في الحقيقة لا يعرفون عنه شيئا». والآن بعد ثلاثين سنة وقفت أمام هذه الجملة، وشيء ما في مكنونها يوحي بأنها «مفتاح» المقال كله، لأنّنا بالفعل أمام رجل رأيناه كل يوم وكل ساعة، وسمعناه صباح مساء، واستعرضنا الملايين من صوره على امتداد ثلاثين سنة، لكننا لم نكن نعرفه ولا نزال!! وكان سؤالي التالي لنفسي: ــ إذا لم تكن للرجل صورة معتمدة تؤدي إلى تصور معقول عنه، فكيف أتفرغ شهورا لجمع ونشر ما سمعت منه مباشرة خلال مرات قليلة تقابلنا فيها، أو ما قلته له بطريق غير مباشر ــ أي بالحوار والكتابة والحديث ثلاثين سنة؟! وتردّدت، لكنني بإلحاح أن تلك ثلاثين سنة بأكملها من حياة وطن، وهي نفسها ثلاثين سنة من المتغيرات والتحولات في الإقليم وفي العالم، قادنا فيها رجل لا نعرفه إلى مصائر لا نعرفها ــ فإن زمان هذا الرجل يصعب تجاوزه أو القفز عليه مهما كانت الأسباب، مع أن هناك أسبابا عديدة أبرزها أن التاريخ لم ينته بعد كما كتب بعض المتفائلين من الفلاسفة الجُدد»!! ثم كان أن توصلت إلى صيغة توفيق بين هذه الاعتبارات: من ناحية تصورت أن أحاول في مقدمة مستفيضة لهذا الكتاب، أن أترك ما تحويه ملفاتي وأوراقي، ومذكراتي وذكرياتي ــ تنقل بعض الخطوط والألوان عن «حسني مبارك» ــ معترفا مقدما ومسبقا أن هذه المقدمة مهما استفاضت ليست كافية لإظهار لوحة تستوفي شروط المدرسة الكلاسيكية لفن الرسم، لكنها ــ كذلك خطر لي ــ قد تستطيع مقاربة شروط مدرسة الرسم التعبيري. بمعنى أنها قد تكون صورة لا تحاول تقليد مدرسة «ليوناردو دافنشي» أو «مايكل أنجلو» وحيا موصولا بالطبيعة، وإنما تحاول تقليد مدرسة «رينوار» و«مانيه» ــ تلمس موضوعها بمؤثرات أجوائه الإنسانية، وتشير إلى الطبع والشخصية مما يبلغه الحس ولا يطوله البصر!! وراودني على نحو ما أن الجميع ــ ربما ــ أخطأوا في تصوير الرجل. لجأوا إلى الكاميرا تلتقط الصورة ومضا بالضوء، بينما كان يجب أن يلجأوا إلى الفرشاة واللون رسما بالزيت، ثم إنهم كرروا الخطأ حين اختاروا المدرسة الكلاسيكية في الفن، بينما كان يجب أن يلجأوا للمدرسة التأثيرية!! وأظن أن ذلك ما حاولت بلمسات ألوان على مساحة ورق، تنزل عليها فرشاة زيت تشبّعت به خفيفة وكثيفة، تومئ بالظل أو بالفراغ، وتوحي بأكثر مما تصيح، وتعبر بقدر ما هو مستطاع في زمن لم يعد فيه متسع لرقة «رينوار»، أو خيال «مانيه». ولقد ساءلت نفسي كثيرا عن السبب الذي دعا الجميع إلى هذا التقصير في البحث عن الرجل ذاته، وكيف تراكم التقصير فى التعرف عليه ثلاثين سنة؟!! وكان التفسير متعدد الأسباب وكلها منطقية، لكنها تاهت في الزحام: ــ بعض الناس تلقفوه حين وجدوه، ولم يتوقفوا أمام شخصيته وهي تقفز من المنصة إلى الرئاسة، فقد أخذهم هول ما وقع على المنصة، وتمسّكوا بمن بقي بعده!! ــ وبعضهم أخذه الظاهر من الرئيس الجديد واستخفّ بما رأى، واعتبره وضعا مؤقتا لعبور أزمة، وبالتالي فالإطالة في تحليله إضاعة للوقت!! ــ وبعضهم شدّته الوقائع التي ظهر الرجل طرفا في معمعانها، واستطاعت الصورة العامة للأحداث الكبرى التي دهمت المنطقة أن تستوعب دوره ضمن الأدوار، ومع قيمة مصر فإن الجالس على قمتها التحف برايتها، وساعده الطامعون في إرث الدور المصري على تحويل هذه الراية إلى برقع يستر ملامح متغيرة للسياسة المصرية!! ــ وبعضهم خصوصا من أجيال الشباب نشأوا وشبّوا ولم يعرفوا رئيسا غيره، وبالتالي فإن أجيالا تعوَّدت عليه، وتأقلمت بالتطبيع على وجوده. ــ وبعضهم رغبة في راحة البال تجاهل السؤال عن الرجل، واستعاض عنه بقبول جواب معبأ يصنعه إعلام يأتمر بالغلبة ــ غلبة السلطة ــ أو غلبة الثروة في مصر، وكان لسوء الحظ إعلاما فقد تأثيره، وإن بقي هديره!! ولعل.. ولعل.. وكلها علامات استفهام تحار فيها الظنون، لكن الواقع قبل وبعد أي شيء أن الرجل بقي على القمة في مصر ثلاثين سنة!!


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)