الإمام العلامة المجمع على إمامته أعلم خلق الله بفنون المعقول.
قال تلميذه الإمام المقري: هذا الإمام نسيج وحده، ورحلة وقته في القيام على الفنون العقيلة و إدراكه و صحة نظره قال ابن خلدون أصله من الأندلس من أهل إبلة من بلاد الجوف انتقل منها أبوه و عمه فخدما يغمراسن صاحب يتلمسان و تزوج أبوه بنت القاضي محمد بن غلبون فولدت له شيخنا هذا و نشأ في كفالة جده القاضي بتلمسان، فانتحل العلم فسبق لذهنه محبة التعاليم فبرع فيها و عكف الناس عليه في تعلمها فلما أخذ يوسف بن يعقوب تلمسان استخدمه فكرة ذلك و سار إلى الحج، قال: فلما ركبت البحر من تونس للإسكندرية اشتدت على الغلمة في البحر و استحييت من كثرة الغسل فأشير علي بشرب الكافور فشربت منه غرفة فاختلطت فقدمت الديار المصرية و بها ابن دقيق العيد و ابن الرفعة و الصفي الهندي و التبريزي و غيرهم من فرسان المعقول فلم يكون قصاراي إلا تمييز أشخاصهم فحججت و رجعت لتلمسان و قد أفقت من اختلاطي فقرأت المنطق و الأصلين على أبي موسى ابن الإمام ثم أراد أبو حمو صاحب تلمسان إكراهه على العمل ففر لفاس و اختفى هناك عند الشيخ: أما أنا فلا أقول شيئا فعرف الطلب ما وقع فيه فخجل قال: و قال لي كنت عند القاسم بن محمد الصنهاجي إذ وردت عليه رقعة من القاضي أبي الحجاج الطرطوسي فيها "خيرات ما تحتويه مبذولة و مطلبي فيها تصحيف مقلوبها" فقال لي: ما مطلبه؟ فقلت له تاريخ اهـ أي فإن مقلوبه تاريخ و تصحيفه نازيج قال أيضا: و سمعته يقول إنما أفسد العلم كثرة التأليف و أذهبه بنيان المدارس و كان ينتصف من المؤلفين و البانين و إنه لكما قال بيد أن في شرحه طوالا و ذلك أن التأليف نسخ الرحلة التي هي أصل جمع العلم فكان الرجل ينفق فيهل مالا كثرا و قد لا يحصل له من العلم إلا نزر يسير لأن غايته على قدر مشقته في طلبه ثم يشتري أكبر الديوان بأنجس ثمن فلا يقع منه أكثر من موقع عوضه فلم يزل الأمر كذلك حي نسي الأول بالآخر و أفضى الأمر إلى ما يسخر منه الساخر و أما البناء فلأنه يجذب الطلبة لما فيه من مرتب الجرايات فيقبل بهم على ما يعينه أهل الرئاسة للإجراء و الإقراء منهم أو من يرضى لنفسه دخوله في حكمهم و يصرفهم عن أهل العلم حقيقة الذين لا يدعون إلى ذلك و إن دعوا لم يجيبوا و إن أجابوا لم يوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم اهـ.
و قلت: و لعمري لقد صدق في ذلك وبر فلقد أدى ذلك لذهاب العلم بهذه المدن الغربية التي هي من بلاد العلم من قديم الزمان كفاس و غيرها حتى صار يتعاطى الإقراء على كراسيهم من لا يعرف "الرسالة" أصلا فضلا من غيرها، بل من لم يفتح كتابا للقراءة قط فصار ذلك ضحكة و سبب ذلك أنها صارت بالتوارث و الرياسات أعاذنا الله حتى خلت هذه الساعة ممن يعتمد عليه في علمه مصداق قوله ما ورد في ذلك.
قال المقري: و لقد استباح الناس النقل من المختصرات الغربية أربابها و نسبوا ظواهرها فيها لأمهاتها و قد نبه عبد الحق في "التعقيب" على منع ذلك لو كان من يسمع و ذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف و انقطعت سلسلة الاتصال فصارت الفتاوي تنقل من كتب لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها و قلة الكشف كان أهل المئة السادسة و صدر السابعة لا يسوغون الفتيا من "تبصره اللخمي" لأنها لم تصحح على مؤلفها و لم تؤخذ عنه و أكثرها يعتمد اليوم هذا النمط ثم انضاف إلى ذلك عدم اعتبار الناقلين فصار يؤخذ من الكتب المسخوطين كالأخذ من المرضيين بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفرقين و لم يكن هذا فيمن قلبنا حتى تركوا كتب البراذغي على نبلها و لم يستعمل منها على كره من كثير منهم غير "التهذيب" و هو "المدونة" لأبي محمد ثم كل أهل هذه المئة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات و شق الشروح و الأصول الكبار فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه و نزر حظه و أفنوا عمرهم في حل لغوزه و فهم رموزه و لم يصلوا لرد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح فضلا عن معرفة الضعيف و الصحيح، بل حل مقفل و فهم أمر مجمل و مطالعة تقييدات زعموا أنها تستنهض النفوس فبينما نحن نستكثر العدول عن كتب الأئمة إلى الشيوخ أتيحت لنا تقييدات للجهلة بل مسودات المسوخ فإن لله و إليه راجعون فهذه الجملة تهديك إلى أصل العلم و تريك ما غفل الناس عنه اهـ.
قال المقري: و سمعت العلامة الإبلي أيضا يقول لولا انقطاع الوحي لنزل فينا أكثر مما نزل في بني إسرائيل، لأنا أتينا أكثر مما أتوا يشير إلى افتراق هذه الأمة على أكثر مما افترقت عليه بنو إسرائيل و اشتهار باسهم بينهم إلى يوم القيامة حتى ضعفوا بذلك عن عدوهم و تعدد ملوكهم لاتساع أقطارهم و اختلاف أنسابهم و عوائدهم حتى غلبوا بذلك على الخلافة فنزعت من أيديهم و ساروا في الملك بسير من قبلهم مع غلبة الهوى واندراس معالم التقوى لكنا آخر الأمم أطلعنا الله من غيلانا على أقل مما ستر منا و هو المرجو أن يتم نعمته علينا و لا يرفع جميل ستره عنا فمن أشد ذلك إتلافا لغرضنا تحريف الكلم عن مواضعه الصحيحة إذ ذاك لم يكن بتبديل اللفظ إذ لا يمكن ذلك في مشهورات كتب العلماء المستعملة فكيف في الكتب الإلهية و إنما ذلك بالتأويل كما قال ابن عباس و غيره. و أنت تنظر ما اشتملت عليه كتب التفسير من الخلاف و ما حملت الآي و الأخبار عليه من ضعاف التأويلات قيل لمالك: لم اختلف الناس في تفسير القرآن؟ فقال: قالوا بآرائهم فاختلفوا. أين هذا من قول الصديق: أي سماء تظلني و أي أرض تقلني إذا قلت في كتابه عز وجل برأيي. كيف و بعض ذلك قد انحرف عن سبيل العدل إلى بعض الميل و أقرب ما يحمل عليه معظم خلافهم كون بعضهم علم فقصد إلى تحقيق نزول الآية بسبب أو حكم غيرها و بعضهم لم يعلموا ذلك تعيينا فلما طال بحثهم و ظنوا عجزهم صوروا المسألة بما يسكن النفوس إلى فهمها في الجملة ليخرجوا عن حد الإبهام المطلق فذكروا ما ذكروه تمثيلا لا قطعا بالتعيين بل منه ما لا يعلم أنه أريد لا عموما و لا خصوصا لكنه يجوز أن يكون المراد أو قريبا منه و ما يعلم أنه مراد بحسب الشركة و الخصوصية ثم اختلط الأمران و الحق أن تفسير القرآن من أصعب الأمور فالإقدام عليه جرأة و قد حال الحسن لابن سيرين: تعبر الرؤيا كأنك من آل يعقوب فقال له: تفسر القرآن كأنك شهدت التنزيل و قد صح أنه عليه السلام لم يفسر من القرآن إلا آيات معدودة و كذا أصحابه و التابعون بعدهم و تكلم أهل النقل في صحة ما نسب لابن عباس من التفسير إلى غير ذلك و لا رخصة في تعيين السباب و الناسخ و المنسوخ إلا بتوفيق صحيح أو برهان صحيح , إنما الرخصة في تفهيم ما تعرفه العرب بطبائعها من لغة و إعراب و بلاغة لبيان إعجاز و نحوها اهـ.
قلت و أخذ عن صاحب الترجمة من لا يعد كثرة من الأئمة: كإبن الصباغ المكناسي و الشريف التلمساني و الشرف الرهوني و ابن مرزوق الجد و أبي عثمان العقباني و ابن عرفة و الولي ابن عباد و ابن خلدون في خلق أجلاء اهـ.
و في "الجذوة" ما نصه: محمد ابراهيم بن أحمد العبدري التلمساني الشهير بالإبلي الإمام العلامة أعلم عصره بالفنون المعقولية قال ابن خلدون: أصله من الأندلس من إبلة من بلاد الجوف منها انتقل أبوه و عمه فاستخدم يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان و أصهر ابراهيم إلى القاضي محمد بن غلبون في ابنته فولدت له محمدا و نشا بتلمسان في كفالة جده القاضي فمال إلى محبة التعليم فبرع و عكف الناس عليه في تعلمها و قصد إلى الحج فلقا بالديار المصرية ابن الدقيق و الصفي الهندي و التبريزي و غيرهم و قرأ المنطق و الأصلين على أبي بموسى ابن الإمام بعد رجوعه لتلمسان ثم أراد أبو حمو إكراهه على العمل ففر إلى مدينة فاس و اختفى بها عند شيخ التعاليم مخلوف المغيلي اليهودي فأخذ فنونها و مهر فيها و لحق بمراكش في حدود عشر و سبع مئة و نزل على الإمام البنا فلازمه و تضلع عنه في العلم المعقول و التعاليم و الحكمة ثم رجع إلى مدينة فاس فانتقال عليه طلبة العلم فانتشر علمه و اشتهر ذكره ثم إن أبا موسى ابن الإمام مدحه للسلطان أبي الحسن المريني فاستدعاه من فاس و نظمه في طبقات العلماء فعكف على التدريس و التعليم و لازم أبا الحسن و حضر معه وقعة طريف و كان أبو عنان يقرأ عليه إلى أن هلك بفاس أخذ عن أبي الحسن التنسي بتلمسان و توفي سنة (757) اهـ.
و في "بغية الرواد" ما نصبه: شيخنا العالم الأعلى الشيخ أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم الإبلي المعلم الصغر من بيت نباهة في الجند أخذ ببلده عن الشيخين العاملين أبي زيد و أبي موسى أبني الإمام و بمراكش عن أبي العباس أحمد ابن البنا و ارتحل إلى العراق في زي الفقراء السفارة فلقي به و بغيره من بلاد المشرق العلماء و أخذ عنهم و عاد فاستخدمه السلطان أبوا حموا ابن السلطان أبي سعيد في قيادة ابن راشد من كور بلده ففر لذلك عنه و استقر بجبال الهساكرة عند علي بن محمد بن تاروميت و كان طالبا للعلم جماعة لكتبه فعكف عنده على النظر إلى أن فاق أهله زمانه في العلوم العقلية بأسرها حتى إني لا اعرف بالمغرب و إفريقية فقيها كبيرا إلا و له عليه مشيخة توفي رحمة الله عليه ورضوانه بفاس في ذي القعدة سنة سبع و خمسين و سبع مئة (757) اهـ.
و قد رأيت في "نفخ الطبيب"ما لا ينبغي إغفاله من الكلام على العبري التلمساني و على عبدريين آخرين رفعا للإبهام و الإلتباس و إفادة لبعض الناس و نصه: و لنختم فصل من لقيته بتلمسان بذكر رجلين هما بقيد الحياة أحدهما عالم الدنيا و الآخر نادرتها أما العالم فشيخنا و معلمنا العلامة أبو عبد الله محمد ابن ابراهيم بن أحمد العبدري الإبلي التلمساني سمع جده لأمه أبا الحسين بن غلبون المرسي القاضي بتلمسان و أخذ عن فقهائها أبي الحسن التنسي و ابني الإمام و رحل في آخر المئة و السابعة فدخل مصر و الشام و الحجاز و العراق ثم قفل إلى المغرب فأقام بتلمسان مدة ثم فر أيام أبي حم موسى بن عثمان إلى المغرب حدثني أنه لقي أبا العباس أحمد ابن ابراهيم الخياط شقيق شيخنا أبي عثمان المتقدم ذكره فشكا له ما يتوقعه من شر أبي حم فقال له: عليك بالجبل فلم يدر ما قال: حتى تعرض له رجل من غمارة فعرض عليه الهروب به فقال لي: إنما أسير بك على الجبل فتذكر قول أبي إسحاق فواطأته و كان خلاصي على يده قال: لقد و جدت العطش في بعض مسيري به حتى غلظ لساني و اضطربت ركبتاي فقال لي إن جلست قتلتك لئلا افتضح بك فكنت اقوي نفسي فمر على بالي في تلك الحالة استسقاء عمر بالعباس و توسله به فو الله ما قلت شيئا حتى وقع لي غدير ماء فأريته إياه شربن و نهضنا و لما دخل و لما دخل المغرب أدرك أبا العباس بن البنا فاخذ عنه و شافه كثيرا من علمائه قال لي: قد أبنت عن مرادي ثم سكن جبال الموحدين ثم رجع إلى فاس فلما افتتحت تلمسان لقيته بها فأخذت عنه فقال لي الإبلي: كنت يوما مع القاسم بن محمد الصنهاجي فوردت عليه طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها:
خـيرات ما تحـويه مبـذولـة
و مطلبي تصحـيف مقلـوبـها
فقال لي: ما مطلبه؟ قلت: نارنج
دخل على الإبلي و أنا عنده بتلمسان الشيخ أبو عبد الله الدباغ المالقي المتطبب فأخبرنا أن أديبا استجدى وزيرا بهذا الشرط "ثم حبيب قلما ينصف" فأخذته فكتبته ثم قلبته و صحفته فإذا هو: قصبتا ملف الشحمى و مر الدباغ علينا يوما بفاس فدعاه الشيخ فلباه فقال: حدثنا بحديث اللظافة فقال : نعم، حدثني أبو زكريا بن السراج الكاتب بسجلماسة أن أبا إسحاق التلمساني و صهره مالك بن المرحل و كان ابن السراج قد أتاهما اصطحبا في مسير فآواهما الليل إلى مجشر فسألا عن طالبه فدلا فاستضافاه فأضافهما فبسط قطيفة بيضاء ثم عطف عليهما بخبز ولبن و قال لهما: استعملا من هذه اللظاقة حتى يحضر عشاؤكما و انصرف فتحاور في اسم اللظافة لأي شيء هو منهما حتى ناما فلم يرع ابن إسحاق إلا مالك يوقظه و يقول قد وجدت اللظافة قال كيف؟ قال: ابعدت في طلبها حتى وقعت بما لم يمر قط على مسمع هذا البدوي فضلا عن أن يراه ثم رجعت القهقري حتى وقعت على قول النابغة:
بمخضب رخص كأن بنــانه
عنم يكاد من اللطـافـة يعقـد
فسنح لبالي أنه وجد اللطافة و عليها مكتوب بالخط الرقيق اللين فجعل إحدى النقطتين للطاء فصارت اللطافة و اللبن و إن كان قد صحف عنم بغنم و ظن أن يعقد جبن فقد قوي عنده الوهم فقال أبو إسحاق ما خرجت عن صوبه فلما جاء سألاه فأخبر أنها اللبن و استشهد بالبيت كما قال مالك و لا تعجب من مالك فقد ورد فاسا شيخنا أبو عبد الله محمد بن يحي الباهلي عرف بابن المسفر رسولا عن صاحب بجاية فزاره الطلبة فكان فيما حدثهم كانوا زمان ناصر الدين يستشكلون كلاما وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتاب فخر الدين و يستشكله الشيخ معهم و هذا نصه: ثبت في بعض العلوم العقلية أن المركب مثل البسيط في الجنس و البسيط مثل المركب في الفضل و أن الجنس أقوى من الفصل فرجعوا به إلى الشيخ الإبلي فتأمله ثم قال هذا كلام مصحف و أصله إن المركب قبل البسيط في الحس و البسيط قبل المركب في العقل و إن الحس أقوى من العقل فأخبروا ابن المسفر فلج فقال لهم الشيخ التمسوا النسخ فوجدوه بعضها كما قال الشيخ و الله يؤتي فضله من يشاء.
قال لي الإبلي: لما نزلت تازي بت مع أبي الحسن بن بري و أبي عيد الله النزرجالي فاحتجت إلى النوم و كرهت قطعهما عن الكلام فاستكشفتهما عن معنى هذا البيت للمعري:
أقول لعبــد الله لما شقاؤنا
و نحن بوادي عبد شمس و هاشم
فجعلا يفكران فيه فنمت حتى أصبحا و لم يجداه فسألاني عنه فقلت معناه: أقول لعبد الله لمـا و هي شقاؤنا و نحن بوادي عبد شمس شم لنا برقا.
فقلت: و في جواز مثل هذا نظر.
سمعت الإبلي يقول: دخل قطب الدين الشيرازي و الدنيران على أفضل الدين الخونجي ببلده و قد تزييا بزي القونوية فسأله أحدهما عن مسألة فأجابه فتعايا غن الفهم و قرب التقرير فتعايا فقال الخونجي متمثلا:
علي نحت المعاني من معادنها
و مـــا علي لكم أن تفهم البقر
فقال له: ضم تاء يا مولانا فعرفهما فحملهما إلى بيته قلت: سمعت الشيخ شمس الدين الأصبهاني بخنقاه قوصون بمصر يقول: إن شيخه القطب توفى عام أحد عشر و سبع مئة (711) و له سبع و سبعون سنة و هذا يضعف هذه الحكاية عندي سمعت الإبلي يقول: إن الخونجي و لي قضاء مصر بعد عز الدين بن عبد السلام فقدم شاهدا كان عز الدين أخره فعذله في ذلك فقال إن مولانا لم يذكر السبب الذي رفع يده من أجله و هو الآن غير متمكن من ذكره سمعت الشيخ الإبلي يحدث عن قطب الدين القسطلاني أنه ظهر في المئة السابعة من المفاسد العظام ثلاث: مذهب ابن سبعين و تملك التتر للعراق و استعمال الحشيشة سمعت الإبلي يقول: قال أبو المطرف بن عميرة.
فضل الجمال على كمال بوجهه
فالحق لا يخفى على من وسطه
و بطرفه سقم و سحر قد أتـى
مستظهرا بهما على ما استنبطه
عجبـا لـه برهانـه بشروطه
معـه فما مقصودة بالسفسطه
قال: فأجابه أبو القاسم بن الشاط فقال:
علم التباين في النفوس و إنها
منها مغلطـة و غير مغلطـة
فئة رأت وجه الدليل و فرقة
أصغت الشبهات فهي مورطه
فأراد جمعها معا في ملكـه
هذي بمنتجة و ذي بمغلطـة
يعني قولهم في التام: هو ما تحمل فيه البرهان الفصل و أخبار الإبلي و أسمعتي منه تحتمل كتابا فلنقف على هذا المقدار
و أما النادرة فأبو عبد الله محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي المراكشي صحب أبا زيد الهزميري كثيرا و أبا عبد الله بنتيجان و أبا العباس بن البناء و أضرابه من المراكشيين و من جاورهم ورزق بصحة الصالحين حلاوة القبول فلا تكاد تجد من يستثقله و ربما سئل عن نفسه فيقول: و لي مفصود قلت له يوما كيف أنت؟ فقال: محبوس في الروح و قال: الليل و النهار حسيان أحدهما أسود و الآخر أبيض و قد أخذا بمجامع الخلق يجرانهم إلى القيامة و إن مردنا إلى الله تعالى.
و سمعته يقول: المؤدنون يدعون أولياء الله إلى بيته لعبادته فلا يصدهم عن دعائهم ظلمة و لا شتاء و لا طين و يصرفونهم عن الاشتغال بما لم يبين لهم فيخرجونهم و يغلقون الأبواب دونهم ووجدته ذات يوم في المسجد ذاكرا فقلت له: كيف أنت فقال: (فهم في روضة يحبرون) فهممت بالانصراف فقال:أين تذهب من روضة من رياض الجنة يقام بها على راسك بها التاج و أشار إلى النار مملوء الله اكبر مر ابن شاطر يوما على أبي العباس أحمد بن شعيب الكاتب و هو جالس في جامع الجزيرة طهره الله تعالى و قد ذهب به الكفرة فصاح به فلما رفع رأسه إليه قال له: انظر إلى مركب عزرائيل و أشار إلى نعش هنالك قد رفع شعاره و نودي عليه الطلوع يا غزي و أكل يوما مع أبي القاسم عبد الله بن رضوان الكاتب جلجلانا فقال له أبو القاسم: إن في هذا الجلجلان لضربا في طعم الموز فقال ابن شاطر: و هل الجلجلان إلا لوزة دقت؟ وسئل عن العلة في نضارة الحداثة فقال رقب عهدها بالله فقيل له: فبخر أفواههم؟ فقال: من كثرة ما تفل الشياطين فيها. و كان يسمى الصغير فار المصطكى قال لي ابن شاطر: لقيت عمي ميمونا المعروف بدير لقرب موته و قد اصفر و جهة و تغيرت حالته فقلت له ما بلك؟ و كان قد خدم الصالحين و رزق بذلك القبول فقال: انسدت الزربطانة فطلع يعني العذرة يشير إلى الإحتقان للطبيعة. أنشدني ابن شاطر قال: أنشدني أبو العباس بن البناء لنفسه قصدت إلى الوجازة في كلامي الأبيات. و أخبار ابن شاطر عندي تحتمل كراسة فلنقنع منها بهذا القدر.
فصل و لما دخلت تلمسان على بني عبد الواد، تهيأ لي السفر منها فرحلت إلى بجاية فلقيت بها أعلاما درجوا فأمست بعدهم خلاء بقلعا فمنهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحي الباهلي عرف بابن المسفر، باحثته و استفدت منه و سألني عن اسم كتاب الجوهري فقلت له من الناس من يقول "الصحاح" بالكسر و منهم من يفتح فقال: إنما هو بالفتح بمعنى الصحيح كما ذكره في باب: صح قلت: يحتمل أن يكون مصدر كحنان و كتب إلي بعض أصحابه بجواب و رسالة صدر هذين البيتين:
و صلت صحيفتكم فهزت معطفي
فكأنما أهـدت كـؤوس القرقف
و كأنها ليـل الأمـان الخائـف
أو وصـل محبـوب لصب مدنف
و منهم قاضيها أبو عبد الله محمد بن الشيخ أبي يوسف يعقوب الزواوي فقيه ابن فقيه كان يقول من عرف ابن الحاجب أقرأ به "المدونة" فقال: و أنا أقرأ به "المدونة" و منهم أبو علي حسين بن حسين إمام المعقولات بعد ناصر الدين. و منهم خطيبها أبو العباس أحمد بن العمران و كان قد ورد تلمسان و أورد بها على قول ابن الحاجب في حد العلم صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض الخاصة إلا أن يزاد في الحد: " لمن قامت به" لأنها إنما توجب فيه تمييزا لا تمييزا، و هذا حسن و منهم الشيخان أبو العزيز و أبو موسى بن فرحان و غيرهم من أهل عصرهم.
العبدري التونسي: قال في "الإكليل" في ترجمة أبي عبد الله مجمد بن علي بن عمر العبدري التونسي الشاطبي الأصل ما نصه: غذي نعمة هامية و مريع رتبة السامية صرفت إلى أسفله الوجوه و لم يبق من إفريقية إلا من يخافه و يرجوه و بلغ هو مدة ذلك الشرف الغاية من الترف ثم قلب الدهر له ظهر المجن و اشتد به الخمار عند فراغ الدن و لحق صاحبنا هذا بالمشرق بعد خطوب مبيرة و شدة كبيرة فامتزج بساكنه و قطانه و نال من اللذات به ما لم ينله في أوطانه و اكتسب الشمائل العذاب و كان كابن الجهم بعث إلى الرصافة ليرق فذاب ثم حوم على موطنه تحويم الطائر و ألم بهذه البلاد إلمام الخيال الزائر فاغتنمت صفقة وده لحين وروده و خطبت موالاته على انقباضه و شروده فحصلت منه على درة تقتنى و حديقة طيبة الجنى أنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببره فقال:
لكل أنـاس مـذهب و سجيـة
و مذهـب أولاد النظـام المكارم
إذا كنت فيهـم ثاويا كنت سيدا
و إن غبت عنهم لم تنلك المظـالم
أولئك صحبي لا عدمـت حياتهم
و لا عدموا السعـد الذي هو دائم
أغني بذكراهم و طيب حديـثهم
كما غردت فـوق الغصون الحمام
و قال:
أحبتنــا بمصر لــو رأيتم
بكائي عنـد أطراف النهـار
لكنتم تشفقون لفرط و جدي
و ما ألقاه من بعـد الديـار
البدري الغرناطي: و قال لسان الدين رحمه الله في ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن بيش العبدري الغرناطي ما صورته معلم مدرب و مسهل مقرب له في صنعة العربية باع مديد و في هدفها سهم سديد و مشاركة في الأدب لا يفارقها تسديد لخاص للمنازع مختصرها مرتب الأحوال مقررها تمييز أول وقته بالتجارة في الكتب فسلطت منه عليها أرضة آكلة و سهم أصحاب من رميتها الشاكلة أترب بسببها و أثرى و أغنى جهة و أفقر أخرى و انتقل لهذا العهد الأخير إلى سكنى مسقط رأسه و منبت غراسه و جرت عليه جراية من أحسابها و وقع عليه قبول من ناسها و بها تلاحق به الحمام فكان من ترابها البداية و غليها التمام.
و له شعر لم يقصر فيه عن المدى و أدب توشح بالإجادة و ارتدى أنشدني بسبتة تاسع جمادى الأولى عام اثنين و خمسين و سبع مئة (752) يجب عن بيتي ابن العفيف التلمساني:
يا سـاكنـا قـلبي المعني
و ليس فيـه سـواك ثـان
لأي معنى كـسرت قلبي
و مـا التقى فيه سـاكـنان
نحلـتني طـائعـا فـؤاد
فصار إذ حـزتـه مـكـاني
لا غروا إذ كان لي مضافا
إني على الكسـر فيـه بـاني
و قال يخاطب الشريف أبا العباس و أهدى أقلاما:
أنا ملك الغر التي سيب جودها
يفيض كفيض المزن الصيب القطر
أتتني منها تحفة مثـل عـدها
إذ انتضيت كانت كمرهفة السمر
هي الصقر لكن تعلم البيض أنها
محكمة فيهـا على النفـع و الضر
مهذبة الأوصـال ممشوقة كما
تصوغ سهام الرمي من خالص التبر
فقبلتهــا عشرا و مثلت أنني
ظفرت بلثم في أنـاملـك العشر
و قال في ترتيب حروف الصحاح:
أسـاجعـة بالـواديين تبـوئي
مارا جنتها حـاليـات خواضب
دعي ذكر روض زاره سقي شربة
صباح ضحى طير ظماء عواصب
غرام فؤادي قـاذف كل ليلـة
متى ما نـأى و هنا هواه يـراقب
مولده في حدود ثمانين و ست مئة (680) و توفي بغرناطة في رجب (753) اهـ. قلت: رأيت بخط الجلال السيوطي على الهوامش جوابه عن بيتي أبي العفيف التلمساني ما صورته:قلت: في هذا البيت تصريح بأن المضاف إلى الياء مبنى على الكسر و هو رأى مرجوح عند النحاة ذهب إليه الجرجاني و الصحيح أنه معرب على أن ذاك لا يحتاج إلى جواب كما يظهر بالتأمل قاله عبد الرحمن السيوطي انتهى و يعني بذلك أن الساكنين إنما يكسر أحدهما لا محلهما و الله سبحانه أعلم اهـ.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 28/10/2010
مضاف من طرف : soufisafi
المصدر : تعريف الخلف برجال السلف