في ذلك السن لا نموت، ولكن نحب الحياة أكثر. تتشبث بالفرح أينما وجد. في ذلك السن ننظر إلى زرقة السماء ونملأ أعيننا بكل تدرجات ألوانها الزرقاء. في ذلك السن نحب بجنون، وعندما نحب نتماهى كليا في الحياة. هذا ما انتابني يوم أخبرني إبن عمي إبراهيم لعرج، بوفاة صديقي الأقرب والأثمن محمد براندو.لم أصدق إبراهيم في الوهلة الأولى. وكأنه قرأ علامات الشك والدهشة في عيني، أضاف بأنه زاره أيام مرضه وأنه كان جاره في حي اللوز (Les amandiers). طبعا لم أشك في كلام إبراهيم ولكن محمد براندو كان يبدو لي أنه فوق الموت. الذين نحبهم لا يطالهم الموت. لم يكن من الطينة التي تموت أو تقبل بالموت. لا أدري كيف حدث ذلك كله. لم أسأل زوجته وهي صديقة غالية دسنا ثلاثتنا بنفس السنوات في جامعة وهران- السينيا. كنت أريد أن أحتفظ بالصورة الجميلة لمحمد في وهران وهو مشرق في ضحكاتك الأنف جارية أو ابتساماته السمحة. كان حفنة شمس من المحبة والطيبة. كان النموذج الأسمى للمسيردي الطيب. لاحقا، عندما كتبت المجموعة القصصية: أحميدا المسيردي الطيب، أعتقد أنه كان في الخلفية الذهنية التي كنت أكتب بها. لهذا موته لم يكن موته حالة عادية يمكن أن أقتنع به بسهولة. لم أصدق لأنني بعد قرابة العشرين سنة غياب بين الشام والجزائر العاصمة، وبفترة قليلة من وفاته، التقيت به مصيفا على رأس جبل شائب راسو المطل على المدينة والبحر والسعيدية المغربية. كنت وقتها مخيما في بيتي البحري في سفح نفس الجبل على بعد مسافة قليلة بالسيارة من مكان مخيمه. في المدينة الساحلية مرسى بن مهيدي (port Say) وقضينا صيفا جميلا لن يتكرر، لأن محمد سينسحب بعدها بسرعة من هذه الدنيا. كان محمد براندو مثقفا وصافيا نشيطا في جريدة الجمهورية. لم يواصل دراسته الأكاديمية بعد أن تخلى والده عن العائلة، كان عليه أن يدخل في الحياة العملية. التحاقه بالجمهورية أسعدني لأنه مثل صديق آخر هو صالح رويبي، كانا، قبل الاحتراف الصحفي، ثمرة من ثمار قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة السانية وهران، ومن الذين أرسوا دعائم اللغة العربية في الجريدة، في يوم من الأيام جاءني بمقالة أحدهم كنا نعرفه. كان أستاذنا، المقالة نشرت في جريدة عربية والجمهورية. ثم بدأ يقرأ على مسمعي ونحن نمشي في شارع مستغانم: بربك هذه لغة وإلا قطع خشبية من الزبوج، قلت ضاحكا وكانت أسناننا تصطك من شدة البرد: إذا كانت قطع خشب أشعلها ودعنا نتدفأ عليها. نزع المقالة من الجريدة ثم كورها في كف يده، ثم أخرج البريكي (الولاعة) وانزوى حيث لا مارة، وأشعل الورقة. اندهشت ولكني لم أتمالك من الضحك: محمد؟ يا مهبول واش راك دير؟ قال ضاحكا. جربت أن أشعلها لأسخن لأسخن بمقالة أستاذنا الرعديد في اللغة العربية؟ شفت يا صديقي في هذا البرد لا تنفع حتى للتدفئة. خلى جدها تولي لأصلها، رمادْ. سألته في ذلك الصباح المثلج، ونحن نمر على المكتبة للسؤال عن مجلات الأقلام العراقية، والموقف الأدبي والكاتب هل وصلت؟ ثم واصلنا باتجاه حميدة سنوسي حيث مقر الجريدة. ترك مقالته عن اللغة العربية في مكتب رئيس التحرير الذي لم يكن قد وصل بعد. ثم خرجنا باتجاه درب اليهود ومقتى المسرح. في الطريق سألته: واش كتبت؟ أجاب وهو يضحك. كتبت عن اللغة العربية. نحيت لها جدها. قلت له أعرفك عاشقا للعربية. لا يمكنك أن تؤذيها. ضحك مرة أخرى. من الحب ما قتل يا صاحبي. بجد. كتبت عن العربية لكن بقلق شديد عليها. شفت واش راه صاير في الجريدة؟ ما رأيناه من تصفيات لغوية أقلقني، بل أخافني. كيف تتحول لغة العب التي نكتب بها إلى لغة للقهر والضغينة. لهذا صممت أن أكتب شيئا عن هذا. لسنا في النهاية إلا طلبة اعتدوا على الصحافة. لكن عرفنا عن قرب ما لم يعرفه الآخرون. أعتقد أن ما حدث في الجمهورية من تصفيات لغوية لابد أن يكون قد حدث في مؤسسات أخرى. لا خطة ولا تخطيط. كوّر واعطِ للأعور. لا الفرانكفوني يبذل جهدا قليلا نحو العربية وكأنه يشوف من فوق. الكثير منهم تربى على فكرة جنس الأخيار la race des seigneurs إو اللي حاسبين أرواحهم (هكذا كان يفضل ترجمتها) وأنا وأنت نتلقى نيران الرصاص الطائش من الجهتين. ولا المعرب رمى جبة الفقيه وانتبه إلى أن اللغة العربية كغيرها من لغات الدنيا عليها أن تنزل إلى الأرض، وتعيش بين الناس. الطرفان يعيشان داخل فونتازم لغوي: لغتي أنا وأنا لغتي. لغتي الحياة، وفي هذا ينتصر المعربون على المفرنسين، كما قال أحد الأئمة في التليفيزيون الوطني في عز حملة التعري: لقد علم آدم الأسماء كلها. سينتصر المعرب على المفرنس لأن لغته هي لغة الملائكة والله ويوم القيامة. في الوقت الذي سيعرف فيه المعرب كيف يدافع عن نفسه أمام الملائكة التي تسأله عن ذنوبه، والله، سيقف الفرانكفوني المسكين، عاريا بلا لغة. حاني الرأس. وتسأله الملائكة باللغة العربية، فلا يعرف كيف يجيب. والذي لا يعرف كيف يجيب، جهنم وبئس المصير. كان محمد براندو محقا في كل ما قاله عن اللغة العربية. على هذه اللغة أن تتغير. نتحدث بلغة ليست ابنة زمانها. هذه لغة الذين مضوا. نحتاج إلى لغتنا نحن ابنة الزمن الذي نعيشه. تدخل إلى القلب بلا استئذان. تؤثر في القاريء بقوة. تمنحنا الحياة وتقوله ما نريده وليس ما تريده. ثم يخرج محمد فجأة عن جديته ويميل نحو السخرية: أحيانا أسأل نفسي إذا لم يكن من الضروري الكتابة بالفرنسية. الكثير من أصدقائنا خاصتهم غير الفوقية والشاشية والبليغة التلمسانية ليصبحوا فقهاء. كان براندو مثلي، متحمسا للغة العربية، ولكنه كان يعرف أيضا مصدر الضرر وكيف يمكن تغييره. كان يدرك جيدا أيضا أن اللغة العربية لن تتجدد بالذين حنوطا اللغة، وفي كل مناسبة يمنعون في قتلها بربطها بالمقدس. اللغة العربية ليست لغة المقدس، وليست لغة الدين ولكنها في الأصل لغة الشعر والمعلقات. لا يعرفون أن للعربية كما لكل اللغات رئتين تتنفس من خلالهما. إذا توقفتا ماتت. في ذلك الوقت المبكر كان محمد براندو مقتنعا بضرورة التجديد: يجب فصل اللغة عن الدين. الدين قناعة وإيمان. اللغة كائن يتحرك باستمرار ويحتاج إلى أن يتجدد باستمرار. والتجدد يعني بالضرورة قبول التكسر والبناء. هناك صيغ بالية في العربية أصبحت اليوم معطلة ويجب أن تزول نهائيا. تحتاج العربية إلى إعادة تنظيم قواعدها والتقليل من شاذها، وضرورة انفتاحها على اللغات الأخرى ومنها العامية التي عليها أن تأخذ منها بلا تردد لتكون لغة حية في التواصل. وتتوقف عن أن تكون لغة مخبرية تعلم كما تعلم اللغة الاسبانية والانجليزية؟ قلت له يا محمد وكأنك تقول نتعلم العربية كما نتعلم اللغة الأجنبية. ضحك ثم أضاف: وهل تعتقد أننا نتعلم العربية اليوم كلغة أم؟ نحن لا نتعلم الكتابة فقط كما هي في حالات اللغة الأم، نتعلم أيضا المحادثة. في القسم نتعلم نتعلم لغة، وفي الخارج نتعامل بلغة أخرى. نتعلم في الداخل كيف نفتح النافذة وفي الخارج كيف نحلّ التاقة؟ نتعلم صيغة التساؤل: ماذا بك؟ وفي الخارج واش بيك؟ السؤال هو كيف نقرب الهوة ونزوع الحياة في اللغة العربية وإلا سيهجرها أهلها قبل أن تموت. لو بقي محمد براندو حيا لعرف أن كلامه في السبعينيات كان جواهر وحقيقة. اليوم لولا بركات شركات البرمجة اليابانية والغربية لكنا أمة بلا لغة كمبيوتر. جيد أننا 300 مليون نسمة وبالتالي نحن رهان تجاري يشجع الآخر على العمل لنا وبيعنا منتجه. على أصحاب ملتقيات اللغة العربية والوعادي والزردات كما كان يسميهم، أن ينتبهوا. بعد القهوة عدنا إلى الجريدة. كان محمد ينكت على كل ما يمر بالقرب منه، ويضعه تحت مجهر بصره ولا يلتقط فيه إلا خصائصه الساخرة بتضخيمها والانفجار ضحكا. ينتزع الضحكة من لا شيء. لكنه براندو يومها أنهى نهاره مكفهرا. دخلنا إلى الجريدة. صعدت نحو غرفة التحرير بينما توجه هو نحو مكتب رئيس التحرير ليرى معه إذا كانت هناك تصليحات يجب أن تجرى على مقالته. كنت قد بدأت مقالة عن المبرات الموسيقي الأندلسي بنوباته المختلفة، الضائع منها والمحفوظ والرحلة التي قطعتها، من شبه جزيرة إيبيريا حتى الجزائر، وتلك قصة تستحق أن تحكي. وقف براندو عند رأسي. ثم زحلق نقالته تحت عيني. لم أر منها إلا ما خط بالأحمر بشكل كبير على صفحتها الأولى: مقالة مرفوضة. عندما رفعت رأسي كان محمد براندو قد غادر المكان.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 24/12/2018
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : واسيني الأعرج
المصدر : www.eldjoumhouria.dz