هذه سطور تفرض نفسها في الذكرى الثلاثين لاستشهاد محمد الصديق بن يحيى في 3 مايو 1982 على مرتفعات الحدود التركية الإيرانية.
كان وزير الخارجية محمد بن يحيى سياسيا جزائريا عرفه المسرح الديبلوماسي الدولي منذ مشاركته في محادثات إيفيان، وكان بعد استرجاع الاستقلال رجلا يحظى باحترام الشخصيات المدنية والعسكرية، ويعتبر من خبراء الدبلوماسية المرموقين، وظل دائما موضع تقدير كل من عرفوه.
لكن علاقاتي به اتسمت بتحفظ يقف عند حدود الاحترام المتبادل، فقد كانت له، بحكم ظروف معينة، تحفظات على حملة الحرف العربي بوجه عام، والذين درسوا في المشرق العربي بوجه خاص، لكن هدوء الرجل ورزانته كانت حماية للعلاقات من أي صدام، خصوصا وأن مجالاتنا كانت متوازية، فكان هو في التعليم العالي عندما كنت أنا أشغل مهمة المستشار الإعلامي برئاسة الجمهورية، لكن طرقنا تقاطعت في نهاية التسعينيات، عندما عين وزير للشؤون الخارجية.
وما أقدمه هنا هو شهادة تعطي للراحل الكريم ما يستحقه من احترام وتقدير، وبالدليل العملي المؤكد.
كان أول احتكاك بيننا بمناسبة حديث الرئيس الشاذلي بن جديد مع التلفزة الفرنسية، بعد حديثه الموفق جدا مع صحيفة لوموند الفرنسية، وكانت أمامي ثلاث طلبات استجواب، اخترت من بينها القناة الفرنسية الثالثة، لأنها تهتم بشؤون المهاجرين وتقدم لهم برنامجا أسبوعيا، وكان الرئيس قد توجه للمواطنين عبر التلفزة الوطنية، وهكذا يتوجه لأبناء الوطن في الغربة عبر قناة تقدم لهم برنامجا خاصا.
وحقيقي أن القناة الثالثة هي أقل انتشارا، وكان هذا على وجه التحديد هو نقطة الضعف التي رأيتها نقطة قوة في المساومة مع الصحفيين الفرنسيين، حيث لوحت لهم بطلبات قنوات أخرى، ومن بينها القناة الأولى، وكان هذا يعطيني إمكانية الضغط على الصحفيين لانتزاع ما أريده.
وكان من أهم العناصر التي شجعتني على اعتماد هذه القناة إمكانية بث اللقاء في أكثر من تلفزة فرانكوفونية في وقت واحد، من بينها بلجيكا وكندا
ولم تكن المساومة سهلة، وكنت أتصلب في نقاط معينة لأضمن تساهل الفرنسيين في نقاط أخرى، خصوصا ومحاوري كان واحدا من أهم عناصر التلفزة الفرنسية وهو جان ماري كافادا، وكان للنقاش معه أهميته في كشف خلفيات معينة بالنسبة لبعض الأسئلة، وهكذا وجد الرئيس أمامه تصورا كاملا للعملية، بما في ذلك احتمالات الأسئلة المفاجئة.
وفي اليوم المعد للتسجيل كان كلٌّ في موقعه ينتظر نزول الرئيس إلى القاعة السفلية من مقر رئاسة الجمهورية، حيث وضعت أجهزة التصوير المرتبطة بالجهاز المتنقل للتسجيل التليفيزيوني، والتي كانت تعليماتها عدم القيام بأي إرسال مباشر إلى غرفة التسجيل المركزية بمقر الإذاعة والتلفزة، احتياطا لأي التقاط من جهة ما غير جزائرية، كانت تسعى للتعرف على الرئيس الجديد.
وذهبت إلى مكتب الرئيس لأراجع معه الرتوش الأخيرة على السيناريو الموضوع، ولأقول له بأن كل شيئ جاهز في انتظاره، وإذا به يفاجئني بالقول بأن وزير الخارجية محمد الصديق بن يحيى ضد إجراء الحديث، بحجة أن إجراء أكثر من حديث مع مؤسسات إعلامية فرنسية في وقت واحد تقريبا فيه مبالغة، وبالتالي فإن من الخير أن يُترك الاستجواب مع التلفزة إلى توقيت آخر، وسألني برقة: .."هل يقلقك أن نؤجل الحديث ؟ وأجبته بأن : التأجيل ليس مشكلة، وسأتحمل أمام الصحفيين مسؤوليته، ولكن المشكل أنه لا بد من أن يُدلي الرئيس بحديث تيليفيزيوني مُطوّل في وقت ما، وأنا أعتقد أن الظروف اليوم مواتية لذلك، بل وتفرض أن نسرع بالإنجاز حيث من المحتمل ألا تتوفر نفس الظروف في المستقبل القريب، فنجد مجموعة تقبل شروطنا لإجراء الحديث.
وطلب الرئيس مهلة للتفكير، فخرجت من مكتبه إلى غرفة مدير التشريفات حيث وجدت هناك بن يحيى، وقلت له مباشرة بأنني لا أجد سببا مقنعا لتأجيل الحديث، وأنني أفهم مخاوفه جيدا، وأعتقد أنه، بذكائه المعروف، فهم تماما ما أعنيه (وما أشرت له بالتفصيل في كتابي أنا وهو هم) ولكنني أسيطر على العملية جيدا، وعملية التسجيل تتم تحت رقابتي المطلقة.
ودق جرس الهاتف، وكان المتحدث هو الرئيس الذي طلب وزير الخارجية، واتجه بن يحيى نحو باب الخروج وهو يقول لي بهدوء ..أنت تجازف مجازفة كبيرة، وتلعب برأسك..أنصحك..فكر ثانية، وأجبته وهو يجتاز الباب بأنني أشكره ولكنني أعرف جيدا ماذا أفعل.
واستدعاني الرئيس ثانية بعد أن خرج الوزير من عنده، وسألني بهدوء ....ماذا قررت ؟ وقلت له وأنا أبذل جهدا كبيرا للتحكم في توتري : القرار هو قرارك، ولكنني أرى أن نستكمل عملنا، وأجابني بقوة وثقة رفعت من معنوياتي : هيا ... بسم الله، فاصطحبته إلى مكان التسجيل وأنا أتحكم في توتري وأخفي قلقي وقدمت له الصحفيين، ثم جلس حيث كان يجب أن يجلس.
وبدأ التسجيل، وكنت أحس بأن ضربات قلبي تتسارع وتعلو، بحيث كدت أتصور أن صوتها سيطغى على صوت الحوار الدائر بين الرئيس والصحفيين.
وكان الرئيس رائعا في استيعابه لكل النقاط، وكان السؤال يطرح بالفرنسية وبمجرد انتهائه يجيب الرئيس بالعربية، ويتابع الصحفيون الإجابة بالترجمة الفرنسية عبر سماعة الإذن المعدة، والتي اخترت للقيام بها محمد العيد بو رغدة، وكان في مستوى الثقة.
كان كل شيئ مُعدّا بعناية فائقة، وحقق الاستجواب نجاحا فاق ما كنت أتوقعه.
وكان فضل النجاح الأول يعود للرجل الذي استوعب العملية كلها واستجاب لمتطلباتها، وهو الرئيس نفسه، الذي أعطاني الفرصة لأقوم بواجبي في جو بعيد عن كل تشنج أو توتر، ومع إعطائي الشعور بأنه قادر على حمايتي من تجاوزات مراكز النفوذ.
ولعلي أتصور أن وزير الخارجية، بذكائه وثقافته، بدأ يراجع نفسه بالنسبة للموقف منّي، فلقد تأكد له أنني أعرف تماما حدود قدراتي، وأتحكم في العمل الذي أتولى مسؤوليته، وبدأت أحس بأنه بدأ يغير وجهة نظره في "المُعربين" من أمثالي، وهذا الموقف من بن يحيى هو سر إسهابي في استعراض ما أراه إبرازا لقوة شخصيته وموضوعية أحكامه.
وكان هناك احتكاك جديد، خلال الجولة الإفريقية للرئيس.
كان على الرئيس أن يلقي ما لا يقل عن 12 خطابا في حفلات العشاء الرسمية، بالإضافة إلى ما تيسر من تصريحات صحفية، ومن رسائل التحية الموجة إلى رؤساء البلدان الذين تجتاز طائرة الرئيس أجواء بلدانهم، وكانت مشاريع الخطب قد أعدت بنفس الأسلوب الروتيني في الإدارة المختصة بوزارة الخارجية، وباللغة الفرنسية، وكان لا بد إذن من ترجمة كل شيئ إلى العربية وإعداد نسخ تظل في الجزائر وترسل إلى وكالة الأنباء بمجرد تلقي ما يُفيد بأن الخطاب تم إلقاؤه طبقا للمتفق عليه.
وكانت العقبة الرئيسية هي إمكانية تعامل الرئيس مع هذا الحجم الهائل من الخطب المُطوّلة، ووجدنا الحل عبر حوار مطول دار بيني وبين الأخ مولود حمروش، ولا أعرف كيف نبتت الفكرة، التي يرجع الفضل في تنفيذها إلى مولود، واستقر الرأي على أن يُلقي الرئيس الكلمات الترحيبية الأولى للخطاب، ثم يتولى الأخ إدريس جزائري تلاوة النص كاملا بالفرنسية أو بالإنغليزية، ما عدا الفقرة الأخيرة التي يتلوها الرئيس بالعربية، ثم يقدم إدريس ترجمتها، وكان إدريس موفقا تماما في أداء مهمته بحيث يرجع له فضل كبير في نجاح الزيارة.
وفي نيجيريا حدث شبه صدام بيني وبين وزير الخارجية، إذ جاءني إدريس ليقول لي بأن الوزير يطلب إضافة فقرة في الخطاب الذي سيلقيه الرئيس هذا المساء أمام الرئيس شيغو شاغاري، وقلت له غاضبا بأنني لا أرى سببا طارئا يبرر إضافة جملة جديدة في آخر لحظة، وهو يعرف أساسا مشاكلنا مع الخطب، ولا أعرف ماذا نقل إدريس للوزير على وجه التحديد.
وبعد دقائق جاء من يبلغني بأن الرئيس يستدعيني، ودخلت غرفته فوجدت عنده بن يحيى، وبعد التحية المُعتادة أخذ الوزير الكلمة ليقول لي بكل هدوء وحزم بأنه هو الذي يتحمل مسؤولية الخطب الدولية للرئيس، وقد يجد نفسه مضطرا لأي إضافة أو تعديل إذا رأى ضرورة لذلك، وأجبته بنفس الهدوء بأن هذا أمر طبيعي ولكن غير الطبيعي هو أن تكون الإضافة قبيل ساعات معدودة من إلقاء خطاب توجد نسخته المعدة للبث إعلاميا على بعد عدة آلاف من الكيلومترات، وفي غياب وسائل اتصال مضمونة.
ولم ينطق الرئيس بكلمة واحدة، فاعتبرتُ المقابلة منتهية، وتركت لإدريس مهمة إضافة الجملة المطلوبة، لكن ما حدث بعد ذلك كان أكثر أهمية، ففي اليوم التالي وخلال لقائي المُعتاد مع الرئيس قال لي متبسطا: بالنسبة لقضية الأمس، أريدك أن تعرف أنه بمجرد خروجك قال لي بن يحيى أنك مُحق في موقفك، وأنه لولا الاضطرار لما لجأ إلى ذلك.
والواقع أنني أحسست بالتقدير والاحترام المُتزايدين لهما، فمن جهة لم يكن الرئيس مضطرا ليروي لي ما حدث مع وزيره للخارجية، وربما كان من الأنسب له أن نظل متنافرين لتكون السيادة له، ولكنه اتخذ موقف الرجولة والأخوة.
أما بالنسبة لبن يحيى فلم يكن مضطرا إلى تزكية موقفي المتنافر مع موقفه، ولقد أكبرت فيه ذلك بالرغم من أن أحد الرفقاء ممن قصصت عليه الأمر إثر عودتنا قال متشككا : ما كان وزير الخارجية ليفعل ذلك لولا أنه أحس بتقدير الرئيس لك، ومع ملاحظة أن الرئيس لم يقل لك كل ما سمعه منه بن يحيى، لكنك لم تسمع شيئا عن الأمر من الوزير نفسه.
ولم أتوقف عند ذلك، فقد ألفت تخصص البعض في إثارة الشكوك، وفضلت أن أظل على احترامي وتقديري للرجلين، لأن كليهما يستحق الاحترام والتقدير.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 02/05/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : محيي الدين عميمور
المصدر : www.eldjoumhouria.dz