الجزائر

مجانية التعليم في خطر



تزايد حالات الانتحار واختفاء الأطفال بعد خروجهم من المدارس، وهروب التلاميذ لضعف نتائجهم المدرسية، وأمور أخرى، جعلت كثيرا من الأولياء يوجهون الأنظار نحو التعليم الخاص، حتى من الطبقات المتوسطة، باحثين عما يعتبرونه تعليما ذا جودة، ومحيطا آمنا للطفل... ولكن هل يحقق التعليم الخاص في الجزائر ما ينشده الأولياء؟ربَط كثير من الأولياء بين ظاهرة انتحار الأطفال بسبب لعبة "الحوت الأزرق" وهروب التلاميذ من المنزل بسبب ضعف النتائج المدرسية، وبين نوعية التعليم في المدارس العمومية، وهو ما جعلهم يٌفكرون في نقل أطفالهم إلى المدارس الخاصة، مقتنعين بأن معلم المدرسة الخاصة ومحيطها، أكثر اهتماما بالتلميذ وأمانا له من نظيره في القطاع العمومي.
دون نسيان طبعا، هامش الحرية الكبير الممنوح للتلميذ في القطاع الخاص، وما يتحصل عليه من امتيازات، كتضخيم النقاط والمعدلات بشكل ملحوظ، حسب تأكيد أساتذة درَّسوا بهذا القطاع، وكذا ممارسة الطفل لهوايات الرياضة والرسم بالقدر الذي يُريد، واحتضان المطرودين من المدارس العمومية... هذه الامتيازات وغيرها، جعلت الإقبال على المدارس الخاصة في تزايد في الآونة الأخيرة.
الظاهرة شجّعت رجال المال وحتى صغار المستثمرين على تشييد مدارس خاصة، لدرجة شاهدنا تشييد ثلاث مدارس دفعة واحدة في أحد أحياء بلدية القبة، وفي ظرف سنة واحدة فقط.

عائلات متوسطة الدخل يتلقى أبناؤها تعليما خاصا
وفي الموضوع، أخذنا انطباعات بعض الأولياء ممّن يدرس أبناءهم في القطاع العمومي، فتفاوتت إجاباتهم... "صبيحة" من القبة والدة لثلاثة أطفال يدرسون في مدارس عمومية، اعترفت لنا أنه لو كانت حالتها المادية ميسورة قليلا، لسجّلت أبناءها الثلاثة في القطاع الخاص، ومٌبررها في ذلك "أن المدارس الخاصة تهتم أكثر بالتلميذ من الناحية البيداغوجية والنفسية، وتعطيه هامش حرية للإبداع.."، أما "جميلة" من عين المالحة بجسر قسنطينة، فترى أن سبب تدني نتائج ابنتها في الطور المتوسط، هو وجود قرابة 50 تلميذا في قسمها، ما يٌشوِّش على تركيزها، ويٌصعّب مهمة المعلم في التلقين الجيد للدروس.
فيما لا يتقبل آخرون كلية فكرة المدارس الخاصّة، فهي بالنسبة لهم لا تناسب سِوى أبناء المسؤولين والميسورين، ممّن تنتظرهم الوظيفة بعد التخرج، "لأن مستوى التعليم بالمؤسسات الخاصة متدن جدا، ولن يٌخرِّج إلا الإتكاليين"، حسب تعبير أحد الأولياء. وسانده الطرح معلم متقاعد، سبق له التدريس في القطاع الخاص، حيث قال لنا "من تجربتى البسيطة مع هذه المدارس، تأكدت أنها تشجع الانحراف، فهي تعطي التلميذ حرية مٌطلقة في التصرّف داخل القسم وخارجه.."، فالأخير أكد لنا تدريسه بمدرسة خاصة لمدة 3 سنوات، لم يستطع خلالها التحكم في سلوك التلاميذ، فمنهم من يمضغ العلكة داخل القسم، وأخرى تتحدث في الهاتف، وثالث نائم... وعندما كان يؤنِّبهم، تتدخل المديرة مٌحذِّره إيّاه أنهم ابن وابنة فٌلان وعِلان، وأمام الضغوطات ترك محدِّثنا العمل.
فيما أخبرتنا احدى المعلمات التي تعمل بمدرسة خاصة بالقبة، أن زميلتها التي تٌدرِّس للطّور الابتدائي كانت تٌضخم النقاط لأحد التلاميذ "الضعفاء" بالقسم الخامس، نظير الهدايا الطّائلة التي كانت تتلقاها من والدته، وعندما اجتاز التلميذ شهادة "السانكيام"، تحصّل على مٌعدل 3 من 10 وأعاد السّنة، وهو ما أثار غضب والدته التي قصدت المدرسة في حالة غضب شديدة، مٌعتبرة أنّ ابنها تعرض للظلم... رغْم دفعها أموالا لتدريسه..!!

300 مدرسة خاصة في الجزائر تضم 60 ألف تلميذ
وبين قبول وإحجام، تتوسع المدارس الخاصة يوما بعد آخر، فبعد احصاء 117 مدرسة خاصة تؤطر أكثر من 20 ألف تلميذ بجميع الأطوار في عام 2008، قفز العدد إلى 300 مؤسسة معتمدة من طرف الدولة مسجل بها أكثر من 60 ألف تلميذ، والغريب أن هذه المدارس لم تعد حكرا على أبناء الطبقة الميسورة، فحتى عائلات متوسطة الدخل، صارت تدفع مليون سنتيم شهريا لتدريس أبنائها بالقطاع الخاص، خاصة المطرودين من الأقسام العمومية، فيما دفعت ال"موضة" والتقليد بعض العائلات للقطاع الخاص.
ويٌكلف التسجيل بهذه المدارس بين 8 آلاف و14 ألف دج، بينما يتلقى الأستاذ بين 800 و1200 دج للساعة الواحدة للتدريس، وكلما رفع القطاع العمومي الراتب الشهري للأساتذة، زادت المداس الخاصة في أعباء التسجيل على الأولياء حتى 20 بالمائة، ليستفيد أساتذتها من الزيادة، والغريب أن كثيرا من المدارس تطلب تسبيقا ماليا لسنة كاملة.

21 مليونا في الطور الابتدائي و27 مليونا للطور المتوسط
موظفة تقطن ببلدية باش جراح، سجّلت ابنتيْها في مدرسة خاصة بحي المنظر الجميل، الأولى تدرس في الطور الابتدائي دفعت عنها 21 مليون سنتيم، والثانية في المتوسط بمبلغ 27 مليونا سنويا، اضافة لمبلغ يقارب 3 ملايين سنتيم لشراء الكتب وبعض المصاريف، وتؤكد محدثتنا أن منهاج وكتب المدرسة الخاصّة يختلف عن القطاع العمومي ماعدا في كتب اللغة العربية المتشابهة، وحسب تعبيرها "في المدرسة الخاصة كتاب الفرنسية ثري بالنصوص ومثله كتاب الإنجليزية، كما يمارس التلاميذ نشاطات مختلفة من مسرح ورسم ورياضة وموسيقى، وحتى رحلات ترفيهية...". كما أن إدارة المدرسة في تواصل دائم مع الأولياء، ورغم ذلك تعقب محدثتنا "...هذا لا يعني أنني لا أبذل مجهودا في تدريس ابنتاي بالمنزل..".
وتعرف نسبة النجاح بهذه المدارس تذبذبا ملحوظا، فبعد تسجيل نسبة نجاح في البكالوريا لدورة 2013 مقدرة ب38.04 بالمائة، ونسبة نجاح لشهادة التعليم المتوسط ب32 بالمائة، فيما تحصلت بعض المدارس الخاصة بالجزائر العاصمة على نسب نجاح في البكالوريا قاربت 80 بالمائة، وهي نسب معتبرة... أصبح هذا الرقم في تراجع رهيب مؤخرا، وصل درجة تسجيل نسبة 3 بالمائة نجاح في البكالوريا مؤخرا، وهو ما حرّك وزيرة التربية الوطنية، نورية بن غبريط، التي قررت تنظيم هذا القطاع، وتشديد الرقابة على هذه المدارس، حيث نصّبتْ لجنة تقنية لدراسة طلبات فتح هذه المدارس، موازاة مع التقليص من صلاحياتها ونشاطاتها، في ظل التجاوزات المسجلة.

تلميذ مريض بالقلب يتعرض للضرب بمدرسة خاصة في عين البنيان
وفي الموضوع، اعتبر رئيس المنظمة الوطنية لأولياء التلاميذ، علي بن زينة ل"الشروق" أن كثيرا من المدارس الخاصة، هي المسؤولة على انحراف التلاميذ، فتجدها تبحث عن المدخول المادي أكثر من تعليم التلميذ الذي تٌضخم نقاطه، لدرجة أن كثيرا من العائلات – حسب تعبيره- "هرّبتْ" أبناءها من القطاع الخاص إلى العمومي، بعد تدني نتائجهم المدرسية، اضافة إلى الأعباء المالية الكبيرة التي تٌضاف الى حقوق التسجيل السنوية.
وحسب تأكيد بن زينة، بعضٌ هذه المدارس، تٌمارِس الاحتيال بالتواطؤ مع أولياء التلاميذ، حيث أكد بالقول "كثير من التلاميذ المطرودين من الطور المتوسط والثانوي بالمؤسسات التربوية العمومية، تسجلهم المدارس الخاصة، وبعد عام أو عامين يٌعادون إلى القطاع العام، باستعمال شهادات مدرسية مٌزورة". فيما نفى وجود فرق بين مناهج وكتب المدارس الخاصة ونظيرتها العمومية، والتي يشرف عليهما نفس المفتش التربوي ومدير التربية.
والمقلق في الموضوع، يقول بن زينة "أن تزايد أعداد المدارس الخاصة، يهدد بإلغاء مجانية التعليم بالجزائر، وفق ما ينص عليه الدستور".
وذكَر لنا حادثة أثارت استنكار أحد الأولياء، فالأخير سجّل ابنه المريض بالقلب بمدرسة خاصة بعين البنيان، ليتلقى معاملة حسنة، ليتفاجأ الولي بتعرض ولده للضّرب رغم حالته الصحية الحرجة، وعندما اشتكى للمدير، لم يتحرّك الأخير، بل ولم يعد مبلغ التسجيل للوالد الذي أخرج ولده من تلك المدرسة، رغم مضي 20 يوما فقط من بدء الدراسة، حيث يؤكد بن زينة "الوالد تلقى 5 ملايين سنتيم فقط، من أصل 15 مليونا دفعها تسبيقا في بداية السّنة المدرسية".

مطالب بتغيير دفتر شروط انشاء المدارس الخاصة
وبدورها، دقت النقابة الوطنية لعمال التربية "الأسانتيو" ناقوس الخطر من ظاهرة الانتشار "الرهيب" للمدارس الخاصة مؤخرا، والمؤسف في الموضوع، يقول القيادي والمكلف بالتنظيم في النقابة، قويدر يحياوي ل"الشروق" أن "رجال أعمال لا علاقة لهم بالتربية والتعليم صاروا يستثمرون أموالهم في المدارس، باحثين عن الربح السريع"، وهو ما جعله يطالب وزارة التربية بفرض شرط وجود شريك من قطاع التربية، في دفتر شروط انشاء هذه المدارس.
ويُؤكد، أن القطاع العمومي متفوق وبأشواط على التعليم الخاص "فلا يغرك ما تدّعيه كثير من هذه المدارس في إعلاناتها، بأنها نموذجية تضمن الجودة والرفاهية في تعليمها، وتضم النخبة"، مضيفا "كثير منها صارت ملجأ للرّاسبين والمطرودين من الأقسام".
والإشكالية في هذا النوع من التعليم، حسب محدثنا "هو في نظرة المجتمع لهذا النوع من التعليم، فينشدون فيه الحرية وغياب الانضباط ، في وقت يحتاج التعليم الى تربية وصرامة مثلما نجده في القطاع العمومي".
وحفاظا على المستوى العام للتعليم في الجزائر، وعلى مصداقية الشهادة، لطالما ناشدت نقابة "الأسانتيو" وزارة التربية، بتشديد الرّقابة على هذه المدارس، التي تحولت حسبه إلى "مصانع تستثمر في المال وليس العقل".

رئيس الجمعية الوطنية لأولياء التلاميذ أحمد خالد:
60 بالمائة من متقاعدي التربية موظفون بالمدارس الخاصة
فيما عدّد رئيس الجمعية الوطنية لأولياء التلاميذ، أحمد خالد بعض مميزات المدارس الخاصة، بعد ما أكد أن كثيرا من اطارات الدولة، درَسوا بالتعليم الخاص سنوات السبعينات، بسبب عدم هيكلة التّدريس العمومي آنذاك، ويرى حسب تصريح ل"الشروق" أن التعليم الخاص، ساهم في التقليل من ظاهرة التسرب المدرسي ومحو الأمية، باستقطابه أكبر عدد ممكن من التلاميذ الذين فاتهم قطار التعليم العمومي لظروف معينة، أو مطرٌودين بغير رغبتهم، بسبب العٌمر والرسوب المستمر، خاصة بالطّور الثانوي. كما أن المدارس الخاصة، وفرت جو الاطمئنان للعائلات التي يشتغل فيها الزوجان، فهي تعلم وتراقب وتتكفل بأطفالهم الأقل من 12 سنة، خاصة في ساعة الظهيرة، كما أن تلاميذ المدارس الخاصة ممن نجحوا في شهادة "البيام" بإمكانهم التحويل إلى القطاع العمومي.
ومع ذلك، لم ينف خالد، وجود سلبيات في القطاع، وأهمها يقول "أحيانا يضخمون نقاط التلاميذ بتواطؤ أو بجهل من الأولياء، وأحيانا تلميذ راسب في السنة 1 ثانوي، يسجل في القطاع الخاص مباشرة في السنة 2 ثانوي، وهذا غير مقبول".
فيما برر طلب إدارة المدارس الخاصة، تسبيقا ماليا لسنة كاملة، أن بعض الأولياء يحولون أبناءهم في منتصف السنة الدراسية نحو القطاع العمومي، فتجد هذه المدارس صعوبة في دفع مستحقات أساتذتها لقلة المداخيل، والظاهرة جعلت وزارة التربية، تدرج بندا في دفتر الشروط، يقضي بإبرام عقد بين ادارة المدرسة والولي، بعدم تنصل أي طرف من التزاماته.
ويؤكد محدثنا، أن 60 بالمائة من متقاعدي المدارس العمومية يشتغلون بالقطاع الخاص، و90 بالمائة منهم هدفهم تحسين مستواهم المعيشي، "وإن كانت الظاهرة لها ايجابياتها من حيث ضمان الخبرة في التدريس، لكن المناهج التربوية الجديدة تحتاج لمتخرجين جدد يحملون شهادات الماستر والماجيستير".
وأكد خالد أن وزارة التربية أغلقت مؤخرا 9 مدارس خاصة على المستوى الوطني، بسبب تضخيم النتائج المدرسية وتزوير الشهادات المدرسية، والنتائج الضعيفة، وكذا عدم احترام بعض بنود دفتر الشروط، على غرار توفير النظافة والأمن ومخالفة التوقيت والبرامج، كما أن البعض كان يقوم بتدريس البرنامج الفرنسي، وهو ما حذرت منه الوزارة الوصية.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)