بعد أن فرض الله -سبحانه وتعالى- على فريضة في العام الذي كثُرت فيه الوفود التي دخلت في الإسلام الذي وافق العام التاسع أو العاشر للهجرة النبوية الشريفة، عزم النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- على الحجِّ تلبيةً لأمر الله سبحانه وتعالى، وقد كانت تلك الحجّة هي الوحيدة التي حجَّها النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وفيها أسَّس النبي العديد من القواعد للأمة الإسلامية، يحتاجها الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.
وقد كانت تلك الحجّة بما فيها من أحداث ومواقف تُمثِّل نقطة انعطافٍ وتحوُّلٍ في تاريخ الأمة الإسلامية، فقد تسارعت الأحداث بعدها، كما خطب النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فيها خُطبةً مليئةً بالأحكام الشرعية والمسائل العملية التفصيلية، وقد فهم -رضوان الله عليم- من تلك الخطبة إخبار النبي باقتراب أجَله، فذرفت عيونهم الدموع، وحزنت قلوبهم، وتأثّروا بتلك الخطبة أشدَّ الأثر، فلماذا سُمِّيت تلك الحجّة بحجّة الوداع، وما الذي حصل فيها من أحداث؟
حتى يتمَّ التعرُّف على معنى حِجَّة الوداع ينبغي ابتداءً تعريف المصطلحات التي تتكون منها العبارة في اللغة، وبعد ذلك يتمُّ تعريف حجّة الوداع في الاصطلاح، وبيان المقصود منها، أمّا المصطلحان اللذان سيتمُّ بيان معنييهما اللغويّين؛ فهما الحجّ، والوداع:
كان من أبرز ما قام به النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في حجّة الوداع؛ تلك الخطبة التي هوت إليها القلوب والأفئدة، ومنها كما سلف استقى الصحابة اسم تلك الحجّة؛ حيث لمسوا فيها توديع النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لهم، وقد جاءت الخطبة بعدّة روايات متفرّقة، وقد جمعها بعض أهل العلم في روايةٍ واحدةٍ، أمّا نصُّ تلك الخطبة فهو على النحو الآتي:
(أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولي، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا، بِهذا الموقِفِ أبداً. أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليْكُم حرامٌ، إلى أن تلقَوا ربَّكم كحُرمةِ يومِكم هذا، وَكحُرمةِ شَهرِكم هذا، وإنّكم ستلقونَ ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالِكم وقد بلَّغْتُ، فمن كانت عندَهُ أمانةٌ فليُؤدِّها إلى منِ ائتمنَهُ عليْها، وإنَّ كلَّ رباً موضوعٌ، ولكن لَكم رؤوسُ أموالِكم، لا تظلِمونَ ولا تُظلَمونَ قضى اللَّهُ أنَّهُ لا رباً، وإنَّ ربا العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلبِ موضوعٌ كلُّهُ، وإنَّ كلَّ دمٍ كانَ في الجاهليَّةِ موضوعٌ، وإنَّ أوَّلَ دمائكم أضعُ دمَ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ المطَّلب- وَكانَ مستَرضَعاً في بني ليثٍ، فقتلتْهُ هُذيل- فَهوَ أوَّلُ ما أبدأُ بِهِ من دماءِ الجاهليَّةِ.. أمّا بعدُ أيُّها النَّاس، إنَّ الشَّيطانَ قد يئِسَ أن يُعبَدَ في أرضِكم هذِهِ أبداً، ولَكنَّهُ أن يطاعَ فيما سوى ذلِكَ فقد رضِيَ بهِ مِمَّا تحقِّرونَ من أعمالِكم، فاحذروهُ على دينِكُم. أيُّها النَّاسُ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً؛ لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ)، ويحرِّموا ما أحلَّ اللَّهُ، وإنَّ الزَّمانَ قدِ استدارَ كَهيئتِهِ يومَ خلقَ اللَّهُ السَّمواتِ والأرضَ، وَ(إنَّ عدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللَّهِ اثنا عشَرَ شَهراً منْها أربعةٌ حُرُمٌ)، ثلاثةٌ متواليةٌ، ورجبُ الَّذي بينَ جُمادى وشعبان. أمَّا بعدُ أيُّها النَّاسُ، فإنَّ لَكم على نسائِكم حقّاً ولَهنَّ عليْكم حقّاً، لَكم عليْهنَّ أن لا يوطِئْنَ فُرُشَكم أحداً تَكرَهونَه، وعليْهنَّ أن لا يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ، فإن فعلنَ فإنَّ اللَّهَ قد أذنَ لَكم أن تَهجُروهنَّ في المضاجِعِ، وتضرِبوهنَّ ضرباً غيرَ مبرِّحٍ، فإنِ انتَهينَ فلَهُنَّ رزقُهنَّ وَكسوتُهنَّ بالمعروفِ، واستوصوا بالنِّساءِ خيراً، فإنَّهنَّ عندَكم عَوانٍ لا يملِكنَ لأنفسِهنَّ شيئاً، وإنَّكم إنَّما أخذتُموهنَّ بأمانةِ اللَّهِ، واستحللتُم فروجَهنَّ بِكلمةِ اللَّهِ، فاعقلوا أيُّها النَّاسُ قولي، فإنِّي قد بلَّغتُ وقد ترَكتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُم بِهِ فلن تضِلُّوا أبداً، أمراً بيِّناً كتابَ اللَّهِ وسنَّةَ نبيِّهِ، أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولي واعقِلوهُ تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلمٍ أخو للمسلِمِ، وأنَّ المسلمينَ إخوَةٌ، فلا يحلُّ لامرئٍ من أخيهِ إلا ما أعطاهُ عن طيبِ نفسٍ منه فلا تظلِمُنَّ أنفسَكمُ، اللَّهمَّ هل بلَّغتُ؟ قالوا: اللَّهمَّ نعَم، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: اللَّهمَّ اشْهَدْ).
وقد كان الذين شهدوا تلك الخطبة في أفواج كبيرة، حتى إنَّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- اتَّخذ من الصحابة من يُبلِّغ ما يقوله للناس، فكان المُبلِّغ عنه يومها بجبل عرفة هو الجليل ربيعة بن أمية بن خلف، ومن الأسماء الأخرى لخطبة الوداع غير ما ذُكِر سالفاً؛ خطبة التّمام والكمال؛ لأن الله -سبحانه وتعالى فيها أتمَّ دينه، وأكمل كتابه العزيز، حيث نزلت فيها آخر آيةٍ من كتاب الله، وهي قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً).
استنتج الفقهاء وأهل العلم العديد من الدروس والعبر التي أرشدت إليها أحداث حجّة الوداع، فمنها أخذ أهل العلم خطوات الحج التفصيلية، وغيرها الكثير من الأحكام والدروس، أمّا خطبة الوداع خصوصاً؛ فيمكن تلخيص أبرز ما تُرشد إليه من دروس وعبر في النقاط الآتية:
تاريخ الإضافة : 03/07/2019
مضاف من طرف : mawdoo3
صاحب المقال : عبدالله الكسواني
المصدر : www.mawdoo3.com