الجزائر

ما بعد الطوارئ


 أطلعتنا الأنباء الرسمية، منذ أيام، عن وصول مسؤول أمريكي رفيع المستوى إلى تونس ليبارك لشعبها إنجازه، وليسند ظهر الحكومة. وصلها بعد أعياد الميلاد، وبعد احتفالات رأس السنة التي كانت صاخبة هذا العام، مما اضطر الرئيس زين الهاربين بن علي اللجوء إلى جدة.
في حين تشير الأنباء غير الرسمية إلى أن المسؤول الأمريكي لم يأت للسياحة، بل وصل قبل أن يقطف التونسيون ثـمار ثـورتهم. فقد حمل معه مخاوف إدارة أمريكا من رؤية النموذج التونسي يتحول إلى حلم ، يقوم على أنقاض الحلم الأمريكي، وهو ما يعني تهديدا لكل المخططات التي تسعى إلى حلب كل ناقة عربية ممكن حلبها، نفطا أو غازا، أو سندات..
والفزع الذي تحاول إدارة أوباما، هذه المرة، إخفاءه من الأحداث الجارية في مصر، يترجم حجم كارثـة حدوث تغيير عميق عربي على مخططات مستقبل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فهم يستبقون الزمن، ليس لوقفه بوقف الانتفاضات، ولكن بمحاولة.
وتبرز وثـائق ويكيليكس (وهي دليل آخر) نفاق سياسة واشنطن عندما تدّعي الدفاع عن القيم أو مبادئ الديمقراطية والحريات. فهي إن لم تكن أول بلد يهنئ زعيما عربيا، على نجاح (؟) انتخابات مزوّرة ، تكون ثـاني بلد. فقد عمدت لتكون على نفس خط باريس، عندما كانت القوى السياسية في الجزائر تندد بتزوير الرئاسيات. وحاليا، تحاول جاهدة المساهمة في استقرار مصر. لا تريد أن تفشل حيث فشلت باريس، عندما راهنت على نظام بن علي إلى آخر يوم. ولما هرب، عاقبه ساركوزي بطرده من الجو الفرنسي. وليس من المستبعد أن تكون فرنسا هي اليد التي ستعيد بن على إلى تونس.. معتقلا هذه المرة، ليكون مفتاح عودتها هي.
لقد تأثـر الشارع العربي كثـيرا بثـورة تكنولوجيات الإعلام. وتحولت هذه الثـورة، في غياب الانفتاح السياسي، إلى منفذ صغير، ثـم إلى مخرج للهروب من واقع، هواؤه ثـقيل. ونشعر بعد سنوات من التمرن على الطقوس الرقمية ، بأن شيئا جديدا أصبح يتحكم في سلوكنا. ومثـل التأثـيرالديني، أضحى للتكنولوجيا تأثـيرات وتوجيها يتجاوز الإرشاد، ويتجاوز التلاعب والتضليل . فقد أصبحنا نفكر من واقع اللاواقع، بواقع نعثـر عليه في عالم الرقمنة . أصبحنا كالذي يخضع لعملية تنويم مغناطيسي. يدرك أحلامه المنسية حين يفقد وعيه، ويفتقد ذوق طعم الحياة حين يستفيق، ليكون معبئا بالغضب والسخط على ما حوله.
لسنوات، أثـر علينا التلفزيون الجزائري من حيث لا يعلم. كان يتحدث عن البرازيل المنهارة، والبرازيل المفلسة والفقيرة، والمفتتة اقتصاديا واجتماعيا. لسنوات وهو يكرر، محذرا بشكل غير مباشر، الجزائريين من تكرار مسيرة هذا البلد. نفس الجهاز سينقل أخبارا عن انتخابات نظيفة ونزيهة أوصلت لولا إلى الحكم. وأكدت، وهي مبتهجة، بأنه يغادره بعد قرابة العقد من الأزمة، مرفوعا على الأكتاف، لأنه صنع مع شعبه وفي ظرف قياسي معجزة الانتقال إلى نادي الكبار في العالم. لقد أثـر فينا ذلك الخطاب الرسمي غير المقصود، وهو مشكور على ذلك، لأنه أثـبت، وعلى مر السنوات، بأن المعجزة البرازيلية هي عبارة عن مشروع واضح المعالم والأهداف، وحائز على التفاف شعبي . وأثـبت نفس الخطاب الرسمي بأن الأرقام لا تخلق معجزات، وبأن الحديث عن مال مخزن أو عن نمو اقتصادي لا نعثـر عليه في الصادرات، هو هروب وتفادي الاعتراف. وإلى اليوم، فإن صادرات الجزائر هي من المحروقات التي تصل إلى 97 بالمائة. أليس غريبا أن تظل نفس النسبة متواصلة لعقود متتالية؟   
من التعاليق التي قرأتها على الفايس بوك تعليق مواطن على منع مسيرة الأرسيدي. كتب يقول: في أي بلد في العالم رأينا شعبا يعيش دون إنتاج . ويدعونا ساخرا إلى مواصلة النوم،بدلا من الاحتجاج. فمادامت السلطة تدفع، لِمَ الهرج .
هذا جزء مما يعتقده جزائريون، يرفضون و يعصون العمل بجد، لأنهم، في قناعاتهم هم، محفورون . والصمود في وجه رياح مطالب تحسين ظروف العيش والحياة. والمطالب ككرة ثـلج. عندما تتجمع، تتحول إلى قوة جارفة.
ليس مستبعدا التفاف السلطة الجزائرية على مطالب الانفتاح السياسي، من رفع حالة الطوارئ، والعودة إلى الحياة السياسية الطبيعية. فقد تلجأ إلى تعديلات في الحكومة، وعلى بعض المناصب الإدارية. وقد ترفع مرة أخرى عذر مساوئ الدستور، داعية المجتمع إلى تعديله، وبالتالي تحميل الوثـيقة مسؤولية الفشل السياسي. وقد تلجأ إلى وعود من شكل نعم، ولكن ، وفي تقديرها أن تربح الوقت من أجل إدارة هذه المرحلة.
قد تلجأ إلى تكرار أخطائها التي لا تعتبرها هي أخطاءها، بل تدّعي عدم تقدير مجهوداتها.. مثـل تلك المجهودات التي جعلت من الجزائر سوقا وصندوقا ماليا لمكاتب الدراسات الدولية . فالأغلبية تأتي وكأنها تتعامل مع متربصين (؟)
وقد تفلح تدابير محتشمة في شراء الهدوء لأشهر. لكن، سيظل السؤال مطروحا: إلى متى هذا الشلل في المبادرة؟ .
والقائلون بعدم تشابه الأوضاع بين الجزائر وبقية الدول المجاورة لنا، أو تلك المجاورة للمجاورة لنا، لا يجتنبون الصواب. فلكل دولة خصوصيات تميز مجتمعها، ومؤسساتها، وتفاعلات العلاقات بينهما. لكن التشابه سنجده في الأنظمة نفسها، والتي تتقاسم الإكراه القسري، لدرجة التساؤل عن جدوى تنظيم انتخابات يتم انتهاك نتائجها.
لقد تبيـّن العالم، من خلال تجارب العديد من المجتمعات، بأن حرية السوق تفترض وجود حرية المنافسة. والأخيرة تكون حيث يكون انفتاح. والإصرار على فتح جزئي أو الوعد بتدرج لا يأتي، أقعدنا في تخلف مزمن. ولا يمكن للحال أن يستمر.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)