الجزائر

ليلة الكنز، وهرم من غبار



ليلة الكنز، وهرم من غبار
بقلم: الأديب القاص ذكريا تامر
إدّعينا أننا نواظب الحفر في أرض باحة أحد بيوتنا باحثين عن كنز مدفون حتى استحالت الأرض حفراً متباعدة تشبه حفر القبور، وتنقلنا من مقهى إلى مقهى، وادّعينا أيضاً أننا قد عثرنا على كنز لا تقدر قيمته بمال، ولم نبعه منتظرين أغلى سعر، وعدنا إلى البيت الذي زعمنا أننا قد عثرنا في أرضه على الكنز لنباغت قبل صلاة الفجر بأن الرجل المشهور في حارتنا بتقواه وورعه وزهده هو الذي تسلل إلى بيتنا يبغي السطو على كنزنا، فأمسكنا به، وأوثقناه بالحبال،…
وسألناه عمّا يفضّل أن نفعل به، فقال لنا : إمّا أن تستدعوا رجال الشرطة وتسلموني إليهم، وإمّا أن تنسوا ما حدث وتطلقوا سراحي فوراً. فقلنا له : أنت تطالب بتسليمك إلى رجال الشرطة لوثوقك بأن صديقك رئيس المخفر لن يخذلك ولن يعتقلك لحظة واحدة، وقد يعتقلنا بتهمة أننا أقدمنا على سرقتك. وسارعنا قبل أن يتكلم إلى عصب فمه حتى لا تبدر منه أية صيحة، وضربناه بالعصيّ ضرباً مؤلماً، ثم حملناه متذمرين من ثقله، ورميناه في أكبر الحفر في باحة البيت، وحملنا الرفوش، وأهلنا فوقه تراباً كثيراً ثم جلسنا على ذلك التراب ندخن السجائر ونحتسي الشاي على مهل ونتخيّل صوت المدفون يتناهى إلينا خافتاً متضرعاً، فنتبادل النظرات المرحة، وننتظر لصوصاً آخرين .
هرم من غبار
في بلد محب للفكاهة، يُعتبر فيه كل مدرس أدب أديباً، وكل مدرس للفلسفة فيلسوفاً، سطع نجم سيادة الدكتور الأستاذ الجامعي، وتألق بوصفه مفكراً وكاتباً وناقداً ومحللاً وباحثاً ودارساً وجهينة الذي عنده الخبر اليقين عن كل شيء، وعومل كأنه قنبلة العرب النووية.. الأمنية المشتهاة. وسيادة الدكتور نشيط في المجالات الإعلامية والثقافية نشاطاً يثير الحنق والغيرة والدهشة والشك والريبة، فهو موجود في كل عرس عريساً مقداماً وعروساً شهية ومطيعة. إذا تألف منتدى ثقافي في بلاد الأسكيمو، نطّ سيادة الدكتور على حين غرة من العتبة إلى الصدارة كأن الجنرال رومل مجرد تلميذ صغير له، وردّ على برقيات التهنئة والمؤازرة كأنه الأم الرؤوم والأب الحنون للفكر والثقافة في كل زمان ومكان. وإذا تعرض أحد الكتّاب لمحنة مع السلطة، بادر سيادة الدكتور إلى امتداح السلطة بجرأة وشجاعة وانتقاد الكاتب بجرأة وبسالة. وإذا توقفت مجلة ثقافية عن الصدور، ولا علاقة له بها، تقبل سيادة الدكتور التعازي بالفقيدة دامع العينين كأن المجلة زوجته وحبه الأوحد. سيادة الدكتور موجود في كل مؤتمر أدبي وكل ندوة فكرية وكل مهرجان شعري. سيادة الدكتور موجود في مؤتمر الأمن الغذائي، وموجود في مؤتمر الأمن الزراعي، وموجود في مؤتمر الأمن الجنائي، ولو عقد مؤتمر لمكافحة الجراد أو الجرذان لكان سيادة الدكتور أول المدعوين وأول المتكلمين، والمتكلم في كل جلسة. وسيادة الدكتور مشهور بآرائه السديدة المؤيدة لأية سلطة راهنة، فكل سلطة هي دائماً على صواب حتى يتوارى رجالها. وسيادة الدكتور يغضب ويفقد صوابه واتزانه إذا سمع شائعات عن مشاجرة نشبت بين عربي وعربي، ويندد بها باعتبارها امتداداً لتراث عريق دموي من التخلف والجهل، ولكنه إذا بلغته حقائق عن أجانب قتلوا عرباً، هلل وكبر وزغرد ورحب أو تجاهلها تجاهل المؤيد المرغم على السكوت. وسيادة الدكتور يصول ويجول يمنة ويسرة كأنه وحده مالك مخازن تبيع بأسعار مخفضة الشوامخ الفكرية والبدائع السياسية والروائع الاجتماعية، ولا يترك موضوعاً لا يتكلم عنه من مستقبل الرقص الشرقي وسلبيات العمل السياسي العربي ومضار حبوب منع الحمل إلى الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني. سيادة الدكتور يصول ويجول من المحيط الهادر إلى الخليج الغاضب سابقاً، ولا يتيح لساحة ثقافية أو منبر إعلامي الفرار من براثنه، وكل يقوله شفوياً وكتابياً ليس أكثر من زقزقة في بقبقة وكلام أجوف متهافت يتصنع وقار أكابر المفكرين، ولا مسوغ مقنعاً ووجيهاً لانتشاره، ولا مفر من الاعتقاد بدور القوى غير المرئية المتعددة الجنسيات اعتقاداً عابساً بعيداً عن الهزل. وكثيرون من المثقفين العرب باتوا حريصين على ألا يمسوا طعاماً أو شراباً معبأين في علب من الصفيح، ويفضلون ما هو معبأ في الأواني والقناني الزجاجية التي تمكنهم من معرفة ما في داخلها قبل الإقدام على فتحها، وعداؤهم لعلب الصفيح لا سبب له صحياً بل يكمن في خشيتهم من أن يفتحوا إحدى علب الصفيح، فيقفز منها سيادة الدكتور، وينقض عليهم قاتلاً أو مقتولاً بينما هم غافلون، فالحرب خدعة، والنصر من عند خالق العباد والأودية والقمم ورازق الأعمى والكسيح.
شارك:
* Email
* Print
* Facebook
* * Twitter


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)