الجزائر

ليبيا، بني وليد…من حصار التجويع والعزلة إلى حصار المليشيات



ليبيا، بني وليد…من حصار التجويع والعزلة إلى حصار المليشيات
لم أكن لأكتب عن معاناة بني وليد وصمودها الأبدي، لو لم يساورني الشعور بالمسؤولية إزاء ما يحدث لهذه المدينة الورفلية. وزاد إصراري على نقل واقع هذه المدينة التي تفتقد لأبسط المرافق أمام إصرار مستميت على طمس هوية شعب ينتمي إلى ليبيا وتتجذر أصوله في أعماق التاريخ الليبي… فمن غير العدل ولا من غير الإنسانية ولا من غير الأعراف والتقاليد والقوانين المتعارف عليها دوليا أن نبيد تاريخ مدينة وتاريخ شعب لأنه اتهم زورا وبهتانا بتمجيده لنظام القذافي، أو لأنه يرفض أن يركع في خشوع لسلطة الجور أو لفساد الفاسدين… لم أكن لأؤمن بقضية أهل ورفله لو لم أر تلك المحاولات البائسة من قصور في الرؤيا اتجاه هذه القبيلة التي تصمد في وجه كل أنواع التشكيك والعزلة ومحاولات طمس معالمها وحصارها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتجويعها وسلبها حقها للعيش الكريم… مشهد الحصار على غزة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية يتكرر في بني وليد لكن الحصار هذه المرة من بني جلدة واحدة…
أكبر قبيلة في بني وليد وهي قبيلة ورفله تعاني اليوم على جبهتين، تعاني الجور التاريخي المحرف وتعاني جور الوضع السياسي لما بعد القذافي… وبين الأول والثاني تنتصب حكمة عقلاء ورفلة في التصدي لهما. . مجبرون هم أهل بني وليد وليسوا مخيرين على التعاطي وفق إرهاصات المرحلة في حدود الاعتراف بالآخر كشريك وفي حدود نبذ العنف والقمع ونبذ الاستغلال وهم الذين رضوا واعترفوا بطرف مهم ومهم جدا في المعادلة السياسية لكن وفق شرعية القوانين وحكمة العقلاء ويبدو أن الطرف الثاني يعي جيدا أن بني وليد هي طرف في معادلة قد ترهن مستقبل البلد ليبيا بأسره، لذلك لم يكن التعامل معها وفق الأخلاقيات ولا النزاهة ولا حتى وفق العرف القبلي الذي يحكم جميع الليبيين بمختلف مشاربهم.
بني وليد ومنها قبيلة ورفلة، عانت جور النظام الراحل غير المعلن واتهمت بالولاء غير المجسد ووصفت بالخيانة غير مبررة وأصبح افتراء أجيال يلاحقها من أجل لا قضية حتى عندما استشرفت الوضع الليبي الحالي. لم يكن نظام القذافي شرعيا ولم يكن يتقن سياسة الولاء حتى لمن والوه. فكيف به يتقن الولاء للذين دبروا للإطاحة به من أهل ورفلة في العام ثلاث وتسعون تسع مائة وألف؟ سؤال مهم وجوهري والإجابة عنه يملكها وحدهم أهل بني وليد وأيضا يملكها أولئك الذين يدبرون المكائد بليل لأهل ورفلة. كان إيمان بني وليد بالتغيير، على شاكلة الديمقراطية والشفافية واستبدال النظام المستبد بأخر أكثر عدلا، من الطموح المشروع المؤسس على الرؤية الثاقبة لوجهاء وزعماء وخيرة رجالات أكبر القبائل في ليبيا، لكن إيمان وجهاء القبيلة بأن الفوضى التي ستحكم البلاد ستؤول لحرب دامية تعصف بليبيا إلى تسونامي دموي يأتي على الأخضر واليابس ويحصد المزيد من التضحيات ويعمق الهوة بين القبائل والسلطة أو المجلس الانتقالي الذي لم يؤخذ ذلك على محمل الجد، وأصبح حلم جسر الهوة يرابض السماء بدل أن يرابض الأرض.
فالإطاحة بنظام القذافي في نهاية الأمر لم يأت ببديل يمكن أن يوصف أنه أفضل من سابقه. اليوم نقف أمام وصول مجلس انتقالي في بلد يشهد من وشج التغيير الإذعان لسلطة مطلب الشعب، لكن لم يكن هذا المجلس الانتقالي بحجم المطلب الشعبي والمطمح الأمني الذي يؤسس لدولة القانون وقد يتحول إلى آلة لتصفية الحسابات وإملاء القوانين الجائرة التي تزيد من غبن الشعب وترهن مستقبل البلد وتطمس وجود قبائل وأمم. وقد رأينا كيف شرع هذا المجلس لقانون يمنع من تمجيد رموز النظام السابق وكان يهدف من خلاله ضرب العصب الوريدي لبني وليد التي مر بها القذافي في رحلة الهروب المعروفة. واحتضنته بني وليد لأنها رغم ما لقيته من القذافي إبان حكمه، لن بدواتها ونخوتها العربية أملت عليه ذلك وفرضت منطق لا يذل من كان عزيز قومه أو لا يذل في لحظات الضعف من كان رئيس دولة رغم دكتاتوريته واستبداده…
إنه ليس من قبيل وسواس المؤامرة ولا الارتجال الكلامي البوح بانحراف المسار الثوري في ليبيا الذي رسم معالمه ثوار القبائل التي اتحدت للإطاحة بنظام عمره الزمني شارف النصف قرن. وليس من قبيل الافتراء الكشف عن مؤامرات داخلية لأبناء جلدة واحدة تحبكها يد خفية خارجية استولت عليهم لغة السلاح وطغت عليهم حمية الانتقام ضمن سياق الجهد المحموم لإعادة تركيب ما تم تفكيكه في نسخة جديدة وأقصد هنا نسخة لنظام القذافي لكن برعاية الحكومة الانتقالية.
ما يحدث في ليبيا هو صورة مصغرة لتفكير وعقلية العربي في إدارة الأزمات… وهو صورة منمطة لسياسات تريد الإطاحة بأنظمة الفساد لكن بمنطقه ووفق منهجه، وإذا حاول الشعب الانحراف عن المسار فسوف يزج به في متاهات الفوضى الممنهجة وهو نفسه ما يحدث في المشهد الليبي.
ومن يقول أن حرب الميليشات وفوضى استعمال السلاح لا تؤثر على جلب البلد إلى متاهات وحرب أهلية فقد أخطأ، لأن الترابط النسيجي بين كل مكونات المجتمع الليبي فككتها فوضى الثورة التي آلت إلى قوة السلاح ولم تعبث بمصير البلد. نحن اليوم نرهن ثوراتنا العربية التي تناغمت في بداياتها ولكنها تحولت إما بقدرة الخارج وإما بقدرة الداخل إلى متاريس حرب تتقن فقط لغة السلاح وتغتصب في كل مرة إرادة التغيير التي يبغيها عقلاء القوم. ومثلما تكرر المشهد في أي دولة أسقط فيها النظام، مثلما تتعب الحناجر من البوح علنا بأن الديمقراطية والتغيير تكتبان من قبل كل الأطراف دون إقصاء ودون تمرد… ودون تجاهل ثقل ورفلة القبلي الذي لا يمكن التغاضي عنه لأنه هو الذي سيحدد مستقبل ليبيا عندما تكتمل كل أطراف المعادلة.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)