الجزائر

لو كان الغباء معديا عتبات الكلام



لو كان الغباء معديا                                    عتبات الكلام
دعا مركز دراسات بإمارة الشارقة روائيا عربيا مشهورا يقيم في الخارج، لإلقاء محاضرة حول مستقبل الثقافة في بلده الذي هزته رياح ''الربيع العربي''.
شرع الروائي في الحديث دون الاستعانة بشيء مكتوب عن محاضرته، بل استسلم لتداعي الأفكار والانطباعات التي تعوّد عليها في لقاءاته بمعجباته ومعجبيه. ولم يدر أن جمهورا صعب المراس ينتظره. فبدأ بالقفز الحر من موضوع إلى آخر، ومن انطباع إلى آخر. فتحدث عن الإبداع ثم عن المثقف ليتطرّق إلى التكنولوجيا. وتذكّر، فجأة، موضوع محاضرته فتحدث عن ابن منظور، صاحب لسان العرب، الذي ولد في بلده وساعد أهل لغة الضاد على الحفاظ على لسانهم. ومنه انطلق في الإشادة بحكمة أبناء الصحراء، وفضّل حضارتها على اللغة العربية والهوية الإسلامية.
انتهت المحاضرة وفتح المجال للنقاش. فتساءل أحد المتدخلين قائلا: نحن الذين نشتغل في حقل العلوم الاجتماعية نرى أن التكنولوجيا الحديثة جاءت بجماليات جديدة وأشكال تعبيرية مبتكرة. والنظرة إلى الإنسان كضحية للتكنولوجيا ليست حديثة العهد، بل تعود إلى الكتابات الأولى عن ظهور وسائل الاتصال التي منحتها تأثيرا شموليا. والاعتقاد أن الإنسان كائن ساكن تمارس عليه وسائل الإعلام سحرها قد مات منذ زمان لأن البحوث الميدانية الحديثة أكّدت تأثير الإنسان على التكنولوجيا الحديثة، وبالتالي لم يفقد هذا الأخير روحه، كما جاء في المحاضرة، بل استعاد ذاته. واختتم المتدخل كلامه بالإشارة إلى أن المحاضر نسي التطرّق إلى فئة أخرى من المثقفين التي وقفت بجانب المستبدين وشرّعنت إيديولوجيا القهر والاستبداد.
امتعض الروائي من هذا الرأي، ورد باستهزاء: إنني أتعجّب من وجود باحث في العلوم الاجتماعية لا يرى الخراب الذي حل بالبشرية نتيجة التكنولوجيا. ثم انطلق في مدح الذات وقال، من باب التواضع الجمّ، أن له الفضل على بلده لأنها أصبحت تُعرَف به وليس العكس. وأن بلده كُرم عبر عشرات الجوائز الأدبية التي حصل عليها في العديد من الدول الأجنبية.
ثم تدخل أحد الحاضرين قائلا: إن موضوع المحاضرة التي جئنا من أجلها هي مستقبل الثقافة في بلدك، لكن ما سمعناه لا علاقة له بالموضوع، فنحن نريد أن نعرف رأيك في الوضع الثقافي في بلدك الذي هزّته رياح الربيع العربي وتقييمك له، ولماضيه الثقافي القريب. وذيل حديثه بسؤال لا يخلو من الاستفزاز فقال: هل لك أن تحدثنا عن علاقتك بالنظام البائد؟ فاستشط الروائي غضبا وقذفه بزجاجة ماء كانت بقربه على الطاولة. فرفعت الجلسة بعد أن حمدنا الله على أن الزجاجة كانت بلاستيكية.
لم أندهش من سلوك هذا الروائي مثلما فعل بعض الحضور. لذا لم أردّد ما قيل في القاعة، مثل ماذا سيفعل هذا الروائي بمن يخالفه الرأي لو كان وزيرا للدفاع في بلده؟ فاحتكاكي بالكثير من المثقفين في المنطقة العربية جعلني أميل للقول إنهم لا يختلفون كثيرا عن السياسيين في ازدواجية الخطاب. بل حزنت لأن روائيا بحجم المحاضر لازال يعيش بعقلية القرن الذي كان فيه الكتاب يتعالون عن وسائط الإعلام والاتصال ويعتبرونها ''مكبا للنفايات الثقافية''.
وتأسّفت لتشدّد صاحبنا في حكمه على التكنولوجية الحديثة إلى درجة كاد يحرم استخدامها. وبهذا يشترك مع الجماعات الدينية المتطرفة في نظرتها لوسائط الاتصال الحديثة. فلماذا يتجاهل هذا الروائي الواقع الذي يثبت أن الكثير من الشباب بنى جسور التفاعل مع الأدب والعلوم بفضل هذه التكنولوجية؟ ولماذا يغضّ البصر عن الروائيين المعاصرين الذين بنوا مجدهم من موضوعاتهم التي تتناول عالم التكنولوجيا الحديثة مثل الروائي الفرنسي ''أرليون بلونر'' الذي نشر روايته الموسومة: ''نظرية الإعلام''، والتي يعيش بطلها في قلب التكنولوجيا الحديثة؟ ولماذا تجاهل وجود كتاب الأنترنت الذي وصل إنتاجهم إلى المطابع على غرار رواية أرز باللبن لشخصين لرحاب بسام، صاحبة مدوّنة حواديت، و''عايزه اتجوز'' لغادة عبد العال، صاحبة المدوّنة التي تحمل العنوان ذاته. ورواية أما هذه.... فرقصتي أنا لغادة محمد محمود، صاحبة مدوّنة مع نفسي. بل لماذا لم ينتبه إلى أن رواياته ذاتها وصلت بلغات عديدة إلى أصقاع روسيا وأدغال إفريقيا وجبال آسيا وسهول أمريكا اللاتينية بفضل التكنولوجية الحديثة التي يدينها؟
هل هو مجرد نسيان أو غباء؟ فإذا كان هذا الأخير فأحمد الله لأنه غير معد. فلو كان معديا لمنعني من اللقاء بكم عبر هذه الصفحة التي تنقلها التكنولوجيا الحديثة، بل لحرمنا من قراءة الصحف لأن البشرية ستعود إلى الدواة واليراع وورق البردي.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)