الجزائر

لو أننا نعرف كيف نختلف!!


مقدمة: جال بفكري أن أكتب عن الاختلاف ، و عن ما نعانيه في هذا الزمن العجيب المليء بالرداءة ، وعن ثقافة الاختلاف التي خلقنا بها الله عز وجل ، حيث طغت تصفية الحسابات ، وفي بعض الأحيان لا وجود لهذه الحسابات والاعتبارات ومع ذلك نسيء إلى بعضنا، ونقذف في الأعراض والحرمات غير مبالين لتعاليم ديننا الحنيف البعيدين عنه كل البعد إلا من رحم ربنا من الخلق، و لا مبالين لما تقتضيه الأخلاق والقيّم الإنسانية، وهذا جراء الحسد و البغض والضغينة ، وبما أن هذا الموضوع قد ورد إليّ من طرف نشرية "مؤسسة الفكر العربي ببيروت" ولا يُعرف كاتبه ، رأيت أن أنشره لعل تعميمه قد يفيدنا لنتعلم كيف نختلف بدون أي خلفيات، وأن نتحضر في نقاشاتنا لنكون في مصاف الأمم المتحضرة ولا نبقى أضحوكة على مر الزمن مثلما هو الحال عندنا في وطننا العربي بصفة عامة وفي الجزائر بصفة خاصة .لو أننا نعرف كيف نختلف!!
لعلّ الظاهرة الأبرز في تاريخنا العربي كله أننا لا نعرف كيف ندير اختلافنا! ولهذا كم من فرص ضاعت.. وطاقات أهدرت.. ومرارات تراكمت.. ودماء تساقطت كثيراً وطويلاً على صفحات تاريخنا بسبب أننا لا نعرف كيف نختلف. ولربما يرى البعض إن الأمر ليس بهذه القتامة وان الاختلاف ظاهرة طبيعية ، وهو كذلك بالفعل. لكن المشكلة ليست هي الاختلاف في حد ذاته مهما بدا حاداً.. المشكلة هي في سوء إدارة هذا الاختلاف وشخصنته فأصبحت خلافاتنا لا تدور حول موضوع أو قضية بقدر ما أصبحت تنصب على شخص أو مصلحة خاصة . وبالتالي لم يعد حسم الحوار يحتاج إلى أدوات المنطق بأكثر مما يتطلب مهارات التجريح وفنون الوشاية.. وأصبح البعض يتباهى بقدرته على الكيد للآخرين وانتشر – في الثقافة العربية الشعبية - تعبير "عاملله ملف " وهو تعبير نشك في شيوعه على هذا النحو في الثقافات الشعبية للمجتمعات الأخرى، وتراجعت المصلحة العامة كهدف مفترض للاختلاف لتحل محلها مصالح ضيقة ونزعات تصفية الحسابات.. ولم يعد الناس يقنعون في الغالب بإمكانية التقاء المواقف ووجهات النظر المتباينة عند نقاط مشتركة بقدر ما أصبحت الغاية هي إنكار الطرف الآخر وإقصاؤه..
هذه الصور المتفرقة في حياتنا الاجتماعية تثير أكثر من سؤال: لماذا أصبح اختلافنا مقترناً بهذه الدرجة من الشجار والعنف؟ ولماذا اتسع ليشمل كل هذه المجالات ؟ هل لأن المجتمع العربي يمر بمرحلة تحول سياسي واجتماعي وثقافي وفي مراحل التحول تصبح الشعوب أكثر توتراً وقابلية للاستثارة ؟ أم لأننا أسرى تاريخ كان الاختلاف فيه وربما مازال سببا للاقتتال والعنف ؟ ولماذا لم تترسخ في تاريخنا بعد ثقافة الاختلاف رغم أن هذا التاريخ يزخر بالمفكرين المستنيرين الذين طالما دعوا لحرية الاختلاف ودافعوا عنها؟ ولدى فقهائنا القدامى مقولات عن حق الاختلاف ونسبية الحقيقة لا تقل بلاغة ولا عمقاً عن مقولات فولتير ومفكري الغرب.
ثمة رؤيتان في معرض الإجابة عن التساؤلات السابقة، إحداهما تبالغ في جلد الذات والثانية شديدة الحياد. الرؤية الأولى تلقى بالتبعة على التكوين العربي وتكاد ترى العنف سمة لمزاج عربي حاد إما مغرق في الهجاء أو مستغرق في المديح وفي الحالتين نفتقد الموضوعية والعقلانية. ويدلل البعض على ذلك بمقولة أن عدد من قتل من العرب على أيدي العرب في حروب ونزاعات عربية- عربية يفوق عدد من قتل من العرب في حروب خارجية مع أعدائهم. وبصرف النظر عن مدى صحة أو دقة هذه المقولة فإنها تبدو (حقيقة كانت أم مبالغة) مروّعة ومحيرة.. وبصرف النظر أيضاً عن قصد من أطلقها في الإساءة إلى العرب فإنها تبقى مقولة مثيرة للتساؤل جديرة باستخلاص الدلالات والعبر.
لكن ثمة رؤية ثانية مؤداها بكل بساطة أن أوروبا نفسها رائدة الحضارة الغربية الحديثة قد مرت بمراحل تاريخية دامية لم تخل بدورها من الاقتتال والعنف وهى تنتقل من مرحلة الدويلات والإمارات الصغيرة إلى طور الدولة القومية الحديثة. وما حدث لديهم يحدث لدينا. فحروب البروتستانت والكاثوليك فيما مضى تشبه ما شهده تاريخنا من صراعات دموية على خلفية دينية. كما ان جماعات الإرهاب السياسي التي عصفت بأوروبا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على يد "بادر ماينهوف" في ألمانيا والألوية الحمر في ايطاليا والعمل المباشر في فرنسا تشبه على نحو ما جماعات الإرهاب الديني التي عرفها تاريخنا المعاصر رغم الاختلاف في المنطلقات والأسس. وما زالت أوروبا تحمل مسؤولية اندلاع حربين عالميتين مدمرتين. المقارنة إذن بين العنف في التاريخ العربى والعنف في التاريخ الغربي تقودنا إلى التسليم بأن الصراع ظاهرة إنسانية.. وأن غرائز العنف كامنة في نفوس البشر جميعاً لا ينقصها أحيانا سوى لحظة تناقض المصالح لكي تعبر عن نفسها في شراسة.. ويستعيد الإنسان ذاكرة بدائيته الأولى.
لكن الملاحظ رغم ذلك أن الاختلاف في تاريخنا العربي يختزن خصوصية معينة.. حيث تبدو دورة التحول سريعة وغير مفهومة من مرحلة الاختلاف إلى مرحلة الخلاف ثم إلى مرحلة الصدام . والمصطلحات الثلاثة تعبير عن مستويات ثلاثة في عملية إدارة التنوع الإنساني. فالاختلاف لدينا (بما يحتويه من تعدد وتنوع ديني ومذهبي وسياسي وفكري) قلمّا تم توظيفه أو إدارته أو حتى ترويضه.. بل سرعان ما كان يتحول إلى خلاف.. هذا الخلاف هو إعلان عن نقطة التناقض بين أطراف ورؤى كنتيجة طبيعية للفشل في إدارة الاختلاف.. ثم لا يلبث هذا الخلاف أن يبلغ مرحلة الصدام.. وهى مرحلة يستخدم فيها العنف بوسائله المعروفة ودرجاته المختلفة. دورة التحول السريعة هذه من الاختلاف إلى الخلاف إلى الصدام لا تترك لدينا فرصة استخدام وسائل التصالح والتوفيق وأدوات فض المنازعات.. وجزء من مشكلتنا هو عدم الوعي بان هذه الوسائل والأدوات ليست سياسية أو قانونية فحسب، بل هي ثقافية في المقام الأول. ومن هنا فان جهداً كبيراً يتعين علينا بذله لتأسيس وتعميق ثقافة التصالح الاجتماعي كمظلة لإدارة الاختلاف . والمدهش أن العرب وهم مصنفون بأنهم عاطفيون بأكثر مما هم عقلانيون ما زالوا يفتقدون إلى ثقافة التصالح الاجتماعي التي تتطلب بالأساس استعداداً وجدانياً للصفح والتسامح !
ولو أننا عرفنا كيف ندير اختلافنا لتغير وجه التاريخ في بلادنا ! ولنتخيل كم كان يمكن إن نتفادى الويلات والمآسي والخسائر لو لم يقع غزو الكويت الذي أصبح تاريخاً فارقاً ومنتجاً لآثار وتداعيات ما زالت تعانى منها المنطقة حتى اليوم.. ولو لم تندلع الحرب الأهلية في لبنان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.. والتي لولاها لربّما تقدم النموذج الديموقراطي في لبنان ليلهم الخيال السياسي لشعوب المنطقة كلها.. ماذا لو أمكننا تجنب أحداث السودان في جنوبه وفي منطقة دارفور؟ ألم نكن في غنى عن تعقيدات وتداعيات سلبية كثيرة حدثت؟ ولو لم تسقط حركتا فتح وحماس في شرك الفتنة الوطنية.. وكيف كان يمكن نشئ من ذكاء إدارة الاختلاف بينهما تقوية الموقف الفلسطيني ككل.؟ ولماذ لم نتعظ ولو لمرة واحدة من عملية إدارة الاختلاف في إسرائيل.؟ وكيف كان هذا الاختلاف جزءاً من قواعد اللعبة السياسية الداخلية والتي لا تلبث أن تزول وتختفي حينما يتعلق الأمر بمصلحة الشعب اليهودي!! ولهذا لم يكن غريباً أن تشن إسرائيل حروبها على العرب والسلطة بيد حزب العمل وتدير مفاوضات السلام معهم والسلطة بيد الليكود !! إنه توزيع الأدوار وإدارة الاختلاف !! ولنصل إلى سؤال اللحظة: لماذا نصنع لأنفسنا المآزق عن إرادة واختيار؟! ونختار عن عمد الطرق المحفوفة بالأشراك والأشرار؟!!
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)