من القصص المتداوَلة عبر شبكات التواصل الاجتماعي وبعض مواقع الإنترنت، قصّةٌ تبدأ بهذا السؤال: “لماذا لا يرتدي ملك إسبانيا تاجاً؟”، ثمّ يتبعه سؤال آخر هو بمثابة تمهيد للإجابة: “هل تعلم أن الجزائر هي السبب؟”.
تقول القصّة إن شارلكان ( ملك اسبانيا )، وبعد هزيمته في الجزائر سنة 1541، نزَع التاجَ من على رأسه، ورمى به إلى البحر وهو يقول: “أيّها التاج أنا لست أهلاً لحَملك”. وتُضيف: “منذ ذلك الحين، لا يرتدي أيُّ ملكٍ من ملوك إسبانيا تاجاً”.
نقرأ في الرواية المتداولة بأن “الأسطول الحربي انطلق من جزيرة مايوركا الإسبانية متّجهاً نحو شواطئ العاصمة. لكن الحملة اصطدمت بمقاومة عنيفة من الجزائريين، وانتهت نهاية مأساوية للإسبان، حيث شوهدت جثثهم تطفو فوق سطح البحر لأيام بعد المعركة، إذ قُتل حوالي عشرين ألف جندي وتحطّمت أكثر من 250 سفينة حربية. واضطرّ الإمبراطور الإسباني إلى التخلّي عن 8000 جندي على شواطئ العاصمة، لعدم كفاية ما تبقّى من السفن”.
عدمُ استناد الرواية، التي يجري تناقلها على نطاق واسع، إلى مصادر تاريخية، وتداولها في فضاءٍ لا يخلو من الأخبار والقصص الزائفة والمفبركة، أو غير الدقيقة على أقلّ تقدير، يجعلاننا نتساءل عن مدى صحّتها.
سيكون علينا العودة إلى بعض المراجع التاريخية في محاولةٍ للبحث عن إجابة لهذا التساؤل. ولنبدأ بكتاب “حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا” لـ أحمد توفيق المدني، وهو أبرز مرجعٍ باللغة العربية وثّق لتفاصيل الحروب التي نشبت منذ نهاية القرن الخامس عشر وحتّى نهاية القرن الثامن عشر، بين إسبانيا والجزائر التي كانت، حينها، تحت الحكم العثماني.
تحت عنوان “غزوة شارلكان الصليبية الكبرى”، يُخصّص المدني فصلاً لحملة شارلكان، أو شارل الخامس (1500 – 1558)، على مدينة الجزائر، والتي أمدّه فيها “البابا يوحنّا الثالث بعونٍ أدبي عظيم، علاوة عن العون المادّي، إذ نشر في البلاد الأوروبية كلّها أمراً بابوياً، يُعلن فيه أن هذه الحملة إنما هي حملةٌ صليبية، وأن من واجب كلّ مؤمنٍ بالمسيح مخلصٍ للنصرانية، أن ينضمّ إليها، وأن يشارك في محاربة “الكافرين””.
ينقل الكتاب تفاصيل كثيرةً عن الحملة، من بينها المفاوضات التي أجراها شارلكان، قبل بدئها، مع خير الدين بربروس في استامبول (إسطنبول)، بواسطة رسلٍ سريّين، لإقناعه بالتخلّي عن السلطان العثماني مقابل تعيينه ملكاً على كامل الشمال الإفريقي تابعاً لإسبانيا. كما ينقل معلوماتٍ مفصّلةً عن الجيش الذي شارك فيه متطوّعون من إسبانيا وألمانيا وإيطاليا، وبلغ تعداده 24 ألف رجلٍ وألف فرس. وضمّ الأسطول البحري 450 سفينة، و65 سفينةً حربية كبرى، و12 ألف بحّار.
انطلق الأسطول “من مرسى ماهون يوم 18 أكتوبر 1541، وحلّ بجون الجزائر على السابعة صباحاً من يوم 20 أكتوبر، وأخذ يتجوّل أمام مدينة الجزائر، متباهياً بقوّته وعظمته. ذهب الأسطول حسب المنهاج الذي قرّره الإمبراطور ورجال حربه إلى طرف الخليج المقابل لمدينة الجزائر (رأس تاما نتفوس) وهناك خيّم مؤقّتاً، ثم عاد نحو ضفّة وادي الحرّاش اليسرى، وهناك أخذ يُنزل جنده إلى البر يوم الأحد 23 أكتوبر، عند مطلع الفجر”.
لم تكُن الموازين متكافئة بين الطرفين؛ إذ “لم يكن بالمدينة أكثر من 800 رجل من الأتراك، وخمسة آلاف من الأندلسيّين، أمّا المجاهدون العرب فكانوا مكلّفين بالإحداق بالعدو خارج الأسوار ومناورته عن طريق “حرب الكمين””. ويبدو أن ذلك فتح شهيّة شارلكان وأوهمه بتحقيق نصرٍ سريع، وربّما بلا قتال؛ إذ أوفد مبعوثين إلى محمد حسن آغا ورجاله يطلب منهم “تسليم المدينة وخضوعها للإمبراطور، حقناً لدماء أهلها”.
فُوجئ الجيش الأوروبي بقتالٍ ضارٍ، يُشبه “حرب العصابات”. غير أن عاملاً جديداً وغير منتظرٍ هو ما سيُغيّر مجريات المعارك على الأرض لصالح الجزائريّين؛ ففي ليلة 24 أكتوبر “أنزل الله السماء مدراراً على أرض المعركة وحواليها، وكانت تزداد شدّة وتهاطلاً كلّما تقدّم الليل. بينما هبّت ريح عاتية من الشمال الغربي، فتعالت الأمواج وتشابكت، وأصبح الأسطول الذي حمل السلاح والمدفعية والعتاد، في موقف جدّ حرج”.
استغلّ الجزائريون الموقف و”انقضّوا تحت قيادة البطل الشيخ البشير على ميمنة الخط الإسباني، وكانت مستقرّة أمام رأس تافورة… “، فأعملوا فيها تقتيلاً. واستمرّت المعركة حتّى أسفرت “يوم 25 أكتوبر عن نصر جزائري عظيم حقّقه ثبات وإيمان وتضحية المجاهدين الجزائريّين”.
لم تدم الحملة “إلا 12 يوماً من الأحد 23 أكتوبر إلى الخميس 3 نفامبر 1541”. وعلى عكس الرواية السابقة التي تذكُر بأن شارلكان غادر الجزائر من تمنفوست، يُفيد الكتاب أنه غادرها من بجاية (التي يديرها حاكم إسباني): “وقد “بقي الامبراطور 14 يوماً في بجاية، تفقّد خلالها حالتها، ورمّم حصونها وأسوارها، ووعدها بالعون والمدد السريع، ثمّ غادرها يوم 16 نفامبر 1541”.
وبالنسبة إلى خسائر الجيش الأوروبي، فكانت “تشمل 300 سفينة، من بينها نحو 30 سفينة حربية، و300 مدفع، وكلّ العدد والأسلحة والذخيرة والأدوات، و12000 رجل بين قتيل في المعركة، وغريق، وأسير”.
ماذا عن حالة شارلكان النفسية؟ يذكر المدني أن الإمبراطور الإسباني “عاد الى أوروبا جريح النفس، منكسر القلب”. غير أن المدني، الذي لم يترك شاردةً ولا واردةً إلّا وذكرها، لم يذكُر شيئاً عن الحادثة التي تزعم أن قائد الحملة رمى بتاجه إلى البحر وهو يقول: “أنا لست أهلاً لحملك”.
ثمّة سببان، على الأقلّ، يجعلان من تلك القصّة المتعلّقة بإلقاء الإمبراطور الإسباني تاجه في البحر فرضيةً مستبعدة الحدوث؛ فمن الناحية المنطقية، لا يُعقَل أن يقود شارل الخامس حملةً عسكرية ضخمة، ويُقاتل، وهو يرتدي تاجاً يبلغ وزنه بضع كيلوغرامات. على الأرجح، كان يعتمر خوذة كغيره من المحاربين.
سببٌ ثانٍ قد يكون مؤشّراً على عدم دقّة وصف شارلكان نفسه بأنه “ليس أهلاً” لتاجه. صحيحٌ أن هزيمة 1541 كانت قاصمةً بالنسبة إليه، لكن الإمبراطور لم يتنازل عن عرشه (وهي الخطوة المتوقّعة من ملكٍ يعتبر نفسه غير مؤهّل)، بل استمرّ في منصبه إلى غاية رحيله سنة 1558. وطيلة تلك الفترة، لم يهدأ ولم يستسلم، بل خاض حروباً أخرى جنوب البحر المتوسّط، فضلاً عن حروبه ضدّ فرنسا المتحالفة مع العثمانيين.
في مقالٍ بعنوان “لماذا لا يُتوّج الملك الإسباني فيليبي السادس؟”، نُشر عشيّة تنصيب الملك الإسباني الحالي فيليبي السادس الذي تخلّى له والده خوان كارلوس الأوّل عن العرش في حزيران/ يونيو 2014، يسرد موقع “بي بي سي” في نسخته الإسبانية مجموعةً من الأسباب التي تقف وراء عدم تتويج الملك الإسباني.
يذكر الموقع أنه، وخلافاً لبقيّة للأنظمة الملكية الأوروبية، تخلّى الإسبان عن تتويج ملوكهم، واستبدلوا التتويج الباذخ بإعلان الملوك أمام مجلس النوّاب، مضيفاً أن الدستور الإسباني الحالي “يتحدّث بدّقة عن الإعلان، وليس عن التتويج كما يحدث في ممالك أخرى، مثل إنكلترا”، وبأن مراسم الإعلان تُفسَّر على أنها اتفاق بين الملك والمملكة، على عكس تفسيرها القديم الذي يربطها بـ أمر إلهي”.
سببٌ عمليّ آخر يُفسّر غياب التتويج؛ وهو أن التاج الملكي الإسباني الحالي، يُوضّح المقال، كبيرٌ جدّاً؛ بحيث يستحيل وضعه على رأس الملك، مضيفاً أن “للتاج طابع رمزي، ولم يُصنَع ليتمّ وضعه على الرأس”. وبما أن فيليبي السادس هو قائد القوّات المسلّحة، فـ “لن يرتدي عباءة كبيرة أو ملابس فخمة، بل زيّ الجيش”.
وخلال حفل الإعلان، يظلّ التاج والصولجان على وسادة عقيق ٍمطرّزة بالذهب، ثمّ يُعرَض في معرضٍ دائم للجمهور داخل “قاعة التاج” في القصر الملكي في مدريد. وبالفعل، عُرض التاج والصولجان في حزيران/ يونيو 2014، لأوّل مرّة بعد عام 1980.
ويذكر الموقع معلومةً مهمّة لها علاقةٌ بالموضوع الذي نتناوله؛ وهو أن آخر ملك إسباني جرى تتويجه هو خوان الأوّل من قشتالة، في القرن الرابع عشر. ومنذ ذلك الحين، جرى إعلان الملوك لا تتويجهم.
وبما أن خوان الأوّل (1358 – 1390) كان ملكاً على ليون وقشتالة في الفترة بين 1379 و1390، أي قبل الإمبراطور شارل الخامس، فهذا يعني أن الأخير لم يُتوَّج أيضاً، وبمعنىً آخر، لم يضع تاجاً على رأسه.
يبدو أن القصّة المتداولة لم تأت من فراغ، بل هي مرتبطة برواية شعبية قديمة؛ ففي ختام دراسة مطوّلةٍ لها بعنوان “1541، يوم الجزائر: هزيمة الإمبراطور البطولية”، تُشير المستعربة الإسبانية مابال فِيّاغرا إلى أن مدينة الجزائر تحتفظ، إلى اليوم، بـ “أسطورتين محلّيتين” من الحملة؛ الأولى تعزو العاصفة “التي دمّرت 150 سفينةً” إلى استجابة إلهية لدعاء “وليّ مقدّس”، تقول إن اسمه سيدي والي دادا (لا نعرف المقصود بالتحديد)، مضيفةً أنه توفّي سنة 1554 ولا يزال الجزائريّون يزورون ضريحه؛ إذ يعتبرونه بطلاً قومياً.
أمّا “الأسطورة الثانية”، فتروي أن شارل الخامس، عندما غادر سواحل الجزائر بعد هزيمته، ألقى خوذته ودرعه في البحر، (تُشير مابال فِيّاغرا إلى أن البعض الآخر يقول بأنه رمى تاجه)، بينما كان بصره متعلّقاً بالمسافة التي تفصله عن مدينة الجزائر، وقال: “اذهب، فربّما يأتي ملك آخر أكثر حظّاً منّي يستردّك ويلبسك”.
تاريخ الإضافة : 29/06/2019
مضاف من طرف : patrimoinealgerie
صاحب المقال : محمد علاوة حاجي
المصدر : tribusalgeriennes.wordpress.com