كنت في حديث مع أحد الإعلاميين الغربيين المهتمين بالشؤون الشرق أوسطية، فقال لي: أريد أن أسأل سؤالا لماذا كل هذا الاهتمام عندكم بالمسألة السورية، وهل الموقف له علاقة فقط بالموضوع الطائفي؟ تمعنت فيه مليا قبل أن أجيبه بهدوء، قلت له: من حقك أن تصل إلى هذه الخلاصة بسبب الهراء المذهبي والطائفي المسموم الذي يصم الآذان ويعمي القلوب، ولكن الموضوع يتجاوز ذلك بكثير، ودعني أشرح لك. في الوجدان الشرقي عموما والعربي منه تحديدا، هناك مكانة خاصة جدا لبلاد الشام، وسوريا هي قلب هذه البلاد. بها أهم وأقدم مدينتين مأهولتين باستمرار عبر التاريخ وهما دمشق وحلب اللتان كانتا معبر التجارة للشرق والغرب، فدمشق كانت مصب رحلات التجارة من جزيرة العرب بقوافلها وحلب كانت مصب رحلات تجارة خط الحرير القديم الذي يصل إلى الصين. وكانت سوريا مهدا للحضارات بمعنى الكلمة؛ فيها أقدم دير في تاريخ المسيحية وذلك بمدينة معلولا التي لا يزال أهلها يتحدثون بالآرامية وهي لغة السيد المسيح عليه السلام. وفي حلب قام أحبار اليهود بتأسيس أهم تفسير للتوراة عرف لاحقا بشفرة حلب، وعرف المسلمون دمشق عاصمة لخلافتهم الأموية التي رأت انتشارا ومدا لدولتها وصل بها إلى الأندلس في أوروبا وأواسط آسيا كلها.عرفت حلب أول مطبعة في تاريخ الشرق الأوسط وكانت جامعتا دمشق وحلب منارتين للعلم في مجالات الطب والقانون والهندسة والتجارة، وخرجتا أهم النوابغ العربية في هذه المجالات. كذلك كانت قصص النجاح للسوريين في مجالات التجارة والصناعة تبهر سائر العالم العربي وخصوصا أنهم كانوا أهل هجرة، وأينما حلوا كانوا نماذج حضارية لافتة ومميزة يضيفون للبلاد التي حلوا فيها.كذلك عرفت سوريا بأنها السلة الغذائية الأكثر تميزا في العالم العربي؛ فالمطبخ السوري والمائدة السورية هما الأكثر حضورا وإبهارا وتميزا بلا منافس، والخيرات التي تأتي من تربتها من خضرة وفواكه تشهد بذلك. كذلك كان للفن والأدب والشعر والإعلام والطرب السوري بصماته وتميزه وأثره المهم ومنها خرجت أسماء عملاقة ومميزة في عالم الرواية والشعر والفن التشكيلي والدراما التلفزيونية والطرب الغنائي، وقدم السوريون نماذج في التصميم المعماري والنحاسيات والخشبيات والفضيات والصدفيات. وكذلك برعوا وتألقوا في مجال الغزل والنسيج حتى باتت بعض النقشات والتصاميم تعرف باسمهم وسجلت رسميا بها.سوريا هي جناح أساسي لكافة قصص النجاح التي عرفها العرب، فقد كانت جزءا من مشروع تحرير القدس الذي أنجز على يد صلاح الدين الأيوبي، فهو بعد اطمئنانه لصلاح مصر وصلاح سوريا خاض المعركة وانتصر، وكذلك الأمر في انتصار أكتوبر (تشرين الأول) 1973.سوريا بالنسبة للعرب بلد عظيم ينظر إليه بأنه بلد صاحب تراث عظيم وحضارة عريقة وشعب أبي وكريم وأصيل له الفضل على معظم العرب لما قدموه من خدمات في الطب والتعليم والهندسة والتجارة بإخلاص وأمانة وصدق وجدارة كان أثرها السمعة الطبية والمميزة.سوريا بلد متوازن عرف الحداثة مع حفاظه على الأصول والعادات والتراث والقيم والدين ولم يتحول إلى مسخ لا يمكن تعريف هويته ولا تميزها، لذلك يشعر العرب اليوم بمرارة شديدة جدا وحرقة في القلب وهم يرون هذا البلد العظيم يدمر وهذا الشعب الكريم يذل ويشرد ويقتل ويباد ويهان على أيدي عصابة تحكمه ومعهم مجرمون يؤيدونهم وسط صمت مخجل من المجتمع الدولي لا يمكن تفسيره سوى رضا ومباركة ومكافأة للنظام المجرم على جريمته. فسوريا هي مثال صريح على الكيل بمكيالين وفداحة التكلفة لذلك الأمر المهين.إننا أمام مشهد قبيح من مشاهد السياسة. كل ما ذكرته لك لا علاقة له بالطائفية ولا المذهبية ولا الإرهاب كما يتبادر لذهنك مما تطلع عليه، ولكني وددت أن أجيبك من نواحٍ إنسانية وخالصة، نواحٍ لا يمكن إلا أن يجمع عليها من في قلبه ذرة إحساس. سوريا ذبحت وشعبها الكريم دفع الثمن وسمح للمجرم أن يواصل مجزرته برضا القاضي والجلاد والشرطي.علمنا التاريخ أن للظالم نهاية وأن للظلم مهما طال مداه، فهو لن يستمر ولكن الثمن يبقى باهظا وكبيرا في ظل وجود حالة واضحة الملامح مثل الحالة السورية.تمعن في الرجل بعد أن أنهيت كلامي وقال: الآن فهمت! قلت له: للأسف فهمت متأخرا.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 12/08/2014
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : حسين شبكشي
المصدر : www.al-fadjr.com