الجزائر

لا وقت للحداد والبكاء والوداع في القطاع


هل يحدّ الغزيّون على فقدان بيوتهم أو أرزاقهم أو آبائهم أو أطفالهم أو أطرافهم المبتورة؟ إن أرواحهم تحتاج الحداد وتستحقه بعد كلّ ما عاشته منذ السابع من أكتوبر الماضي، لكنهم يدركون أن لا وقت للحداد.لم يبكِ الغزيّون أحباءهم. فُجِعوا ولم يُتح لهم الوقت والظروف لتوديعهم وتذكّر تفاصيلهم. خلال الهدنة التي استمرت سبعة أيام، وانتهت في الأول من ديسمبر، كان عليهم الاستعداد للمرحلة المقبلة وتفقّد ما خسروه، وربّما محاولة النوم بهدوء بعيداً عن أصوات الطائرات الحربية والقصف المستمر. الموت يليه دائماً حداد على الميت، ومؤازرة من الأقارب والأصدقاء. وهذا ما لا يحدث في قطاع غزة. الموت يليه موت فقط. لا وقت للحزن والبكاء والوداع.
يقول شاب ثلاثيني من غزة: "خسرتُ منزلنا في حي النصر... وخسرتُ الكثير من الأصدقاء والأغراض الخاصة بي التي كانت موجودة في المنزل. أريد لهذه الحرب أن تنتهي، ليس لأن تصبح الحياة أفضل ويتوقف قتل المدنيين فحسب، بل أحتاج إلى استراحة بعد انتهاء الحرب لأعطي كل واحد من الذين خسرتهم حقّه في الذكرى". أكثر ما يحتاجه هو وقت للحزن، وهو ما لم يتحقق حتى خلال الهدنة.
حتّى هذه الأمنية تحولت إلى رفاهية. وقف الحرب والحداد هما رفاهية لا يملكها الغزيون. وكأن قدرهم دفن حبيب تلو الآخر... حفر ما تبقى من أرض وإغلاق الحفر.
نربي أطفالنا على أنهم مشاريع شهداء
بالخصوص، تقول مرشدة نفسية تربوية غزية، إن "دفن الأشخاص من دون وداع أو جنازة أمر فُرض علينا، وليست لدينا رفاهية الاختيار". تضيف: "بعض العائلات تربي أولادها على أنهم قد يستشهدون في أية لحظة. في المقابل، يحاول البعض تهوين الأمر على الأطفال، وإن كانوا يدركون هذا الواقع. ما يصبر الجميع أن أرضنا ستعود، ويبقى تحرير فلسطين بصيص الأمل. نقول دائماً: كل ما يحدث هو فداء لفلسطين والقدس وغزة".
وتتابع: "نحتاج عمراً فوق عمرنا لننسى أو حتى نتمكن من استيعاب ما يحصل، إذ لا يمكن أن ننسى. اعتدنا الحروب، لكننا كنا نبقى في بيوتنا. لم نتخيل ما يحدث اليوم حتى في الكوابيس. بعد انتهاء الحرب، سيبدأ الحزن الفعلي. نحن في الجنوب لا نعرف ماذا حل في مناطقنا وإذا ما دمرت بيوتنا. بعد انتهاء الحرب، سنتفرغ للجرح، بل ستظهر الجروح بشكل كبير. الناس التي لم تتمكن من تنظيم عزاء ستفعل. كل الشعب الفلسطيني يحتاج إلى من يواسيه ويُطبطِب عليه ويهون عليه ويخفف من حدة الألم الذي لن ننساه ما حيينا".
الموت في غزة مستمرّ. ولا يزال الغزيون يجمعون أشلاءهم وبقاياهم ويدفنونها. أطفالهم يدفنون أطفالاً آخرين. يبكون آباءهم ويودعونهم ثم يقولون إنهم شهداء. هكذا، يصبّرون قلوبهم ووحدتهم ويتمهم. طفل يطلب من شقيقه تلاوة الشهادة وهو يحتضر. يُعرّف أطفال عن أنفسهم بالقول: "أنا ابنة شهيد. أنا شقيق شهيد". بل هم أحفاد شهداء قتلهم الاحتلال الصهيوني ما قبل السابع من أكتوبر الماضي بكثير. يحملون في كيانهم ذلك الألم الذي ينتقل عبر الأجيال، وذلك التمسك بالأرض والهوية، مثل التطريز الفلسطيني.
القضية أقوى من الحزن
وفي النتيجة، تقول المرشدة النفسية، إن لدى الفلسطينيين والغزيين "مقاومة نفسية تمنعهم من الانهيار وتدفعهم إلى المقاومة. لا مجال للكبت. لا مجال يوميا ولحظويا. هم في حالة اضطهاد وحصار وإذلال دائمة. لذلك، ما يحدث ليس آنياً بل قديم ومرسّخ، فالصدمات والحزن تُتناقل عبر الأجيال. يعيش الغزيون حزناً دائماً وليس جديداً. لا مجال إلا للمتابعة لأن القضية أقوى".
وتضيف: "ليس الحزن لحظات عابرة في حياة الغزيين. بل إن الحزن كبير لأنهم يولدون في بقعة جغرافية لا أمل فيها. هكذا يتحول الموت إلى حياة، فمشروع الشهادة هو نتيجة الدفاع عن الوجود والأرض.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)