الجزائر

كيف نسف انقلاب بومدين "اتفاق 15 يونيو" بين الجبهتين مذكرات محند آكلي بن يونس



كيف نسف انقلاب بومدين
مع بوضياف وآيت أحمد في المعارضة المبكرة
في الحلقة الثانية من عرض مذكرات (*) المناضل محند آكلي بن يونس، نتوقف عند رود الفعل العنيفة للأمن الفرنسي على عمليات 25 أوت 1958، التي نفذها فدائيو اتحادية جبهة التحرير في فرنسا ذاتها.. والتي كانت تحذيرا للرئيس دوغول العائد إلى الحكم فوق دبابات جيش الإحتلال بالجزائر من أوهام "الحسم العسكري" للقضية الجزائرية..
وقد تجلى عنف الأمن الفرنسي مرة أخرى، في رده الشرط على المظاهرات السلمية التي دعت إليها اتحاديات جبهة التحرير في17 أكتوبر1961، احتجاجا على قرار مدير الشرطة بباريس المجرم الشهير موريس بابون حظر التجول ليلا على الجزائريين دون سواهم.. وارتأينا أن نتوقف أيضا عند:
نموذج من اختراق الأمن الفرنسي لهياكل اتحادية الجبهة بفرنسا، نموذج كان ضحيته وبطله في آن واحد سي مراد!
تفكك قيادة "الولاية السابعة" تحت تأثير وهجم السلطة ومغرياتها، أسوة بقية الولايات الأخرى داخل الجزائر وكيف كان مسؤولو الاتحادية يتسابقون على الترشح لإنتخابات المجلس التأسيسي، بعد اتفاق إطاراتها في ندوة مولان على المقاطعة!
حبس بن يونس رفقة بوضياف وآخرين في صحراء أدرار صائفة 1963، بعد تجربته القصيرة والمبكرة في حزب الثورة الإشتراكية.
تجربته في "جبهة القوى الإشتراكية، ومشاركته في اتفاق 15 يونيو 1965، بين جبهتي التحرير والقوى الإشتراكية، هذا الإتفاق الذي نسفه انقلاب بومدين بعد 3 أيام من الإعلان عنه!..
تحذير دوغول من وهم "الحسم العسكري"
كان رد السلطات الفرنسية عنيفا على عمليات 25 أوت 1958، التي غطت معظم مناطق التراب الفرنسي، من "لوهافر" شمالا إلى "موربيان" جنوبا، والتي أرادتها جبهة التحرير الوطني جوابا مبكرا للجنرال دغول، العائد إلى الحكم بأوهام الحسم العسكري للقضية الجزائرية.
وتمكن الأمن الفرنسي فعلا، في رده العنيف من زعزعة بعض الهياكل القيادية لاتحادية فرنسا على مستوى 3 ولايات من أربعة، ولم تنج من هذا الإعصار الأمني غير الولاية الثانية التي كانت تغطي ضواحي العاصمة باريس.
بعد هذا الإعصار ومخلفاته، اضطرت قيادة اتحادية الجبهة بفرنسا إلى إعادة ترتيب البيت، بدءا بتقسيم التراب الفرنسي إلى 7 ولايات بدل خمسة وفي إطار الهيكلة الجديدة التي صاحبت هذا التقسيم عين المناضل محند آكلي بن يونس مسؤول منطقة بولاية باريس الأولى التي تغطي الضفة اليمنى، مقابل باريس 2 التي تغطي الضفة اليسرى الشهيرة، وتضم منطقة بن يونس الدوائر17، 18 و19 من العاصمة الفرنسية. غير أن مسؤوليته في هذه المنطقة لم تدم طويلا، إذ مالبت أن عين على رأس العمالة الجنوبية من ولاية شرق فرنسا التي كان على رأسها المناضل علي بوداود، وتمتد العمال من "لالزاس" شمالا، إلى "لابورڤون" جنوبا.. ويعتبر الشاهد هذه الترقية نوعا من التضحية، لأن الكفاح، في باريس العاصمة الكبرى أفضل من الناحية الأمنية قياسا بالمدن الداخلية، حيث من السهل ترصد الوافد الجديد عليها وتحييده.
دخل المسؤول الجديد عمالته، من بوابة مدينة "ميلوز" في 20 ديسمبر 1958، وتحديدا من نافذة إقامة للعمال تابعة "لودادية المغاربة المقيمين بفرنسا"، بفضل مدير هذه الإقامة على ڤومغار ونائبه عمار مختاري، فقد كان هذا السيد على علاقة باتحادية الجبهة، عكس نظرائهم في إقامات المنطقة من ستراسبورغ إلى "بوزانسن" الذين كان أكثرهم من ضباط "الصاص" العائدين من الجزائر! ما يعني أن كثيرا من تلك الإقامات كانت أوكارا لمراقبة الجزائريين والتجسس على مناضلي الاتحادية خاصة.
انطلاقا من هذه الإقامة، أخذ المسؤول الجديد يساهم في توسيع نظام الاتحادية ومد نفوذها، وتحصيل ما تيسر من الإشتراكات لدعم المجهود الحربي، وتمويل ميزانية الحكومة المؤقتة.
وقد وجد بالعمالة نعم السند من مناضلي اشتهروا لاحقا، نذكر منهم عبد العزيز بالعزوڤ وآيت وازو (1)..
وكان المناضل العربي يوسف من المشرفين على "الودادية العامة للعمال الجزائريين" بستاسبورغ التي كان بها كذلك عدد من الطلبة المناضلين، أمثال طلبة كلية الطب محمد عبادة ومحفوط بن حبيلس وبلقاسم أرقم.. وصادف أن أسر قائد الولاية علي بوداود في 10 مايو 1960، فعين بن يونس خلفا له..
واصل قائد الولاية الجديدة مهامه بنفس الحماس، مركزا جهوده لتحسين مردود الإشتراكات التي كانت محددة بداية الثورة ب 10 فرنكات شهريا لتقفز عشية الإستقلال إلى 30 فرنكا..
وكان المهاجرون الميسورون نسبيا لايكتفون بهذه الإشتراكات، بل يتطوعون بتقديم الهبات بمناسبة بعض التواريخ الرمزية خاصة، مثل فاتح نوفمبر، و5 يوليو، رمز الاحتلال البغيض يومئذ.
ويؤكد بن يونس، أن ولاية شرق فرنسا أصبحت بعد سنة من تولي قيادتها الثالثة في جمع الأموال، بعد ولايتي باريس وضواحيها.
يوضح في هذا الصدد أن نقل الأموال بواسطة الحقائب كان يتم داخل التراب الفرنسي، من مختلف العمالات إلى باريس في الغالب، أما تحويل هذه الأموال إلى خارج فرنسا فكان يتم عبر النظام المصرفي العادي، وقد لعب في هذا الإطار المناضل اليساري أمزي كوريال دورا هاما، علما أنه ابن مصرفي.

نموذج من الاختراق الأمني عميل مقابل %10!

اعتبرت وزارة الداخلية الفرنسية وممثلها على رأس الشرطة بباريس موريس بابون (2) مظاهرات 17 أكتوبر 1961 السلمية تحديا خطيرا آخر من جبهة التحرير واتحاديتها بفرنسا، فلم تكتف لذلك بتسليط قمعها الوحشي على المتظاهرين (3)، بل واصلت قمعها بشن حملة اعتقالات واسعة، طالت في 9 نوفمبر الموالي عددا من المسؤولين المركزيين والمحليين بباريس وضواحيها.
تبعا لهذه الحملة عين محند آكلي بن يونس منسقا للإتحادة، خلفا محمد الزواوي الذي كان في عداد المعتقلين، وكان قبل ذلك عين في أواخر أكتوبر على رأس ولاية ليون، حيث كلف المراقب مصطفى عمرون مساعد الزواوي بالتحقيق في موضوع اختفاء 20 مليون سنتيم في سبتمبر الماضي، أثناء نقل مبالغ مالية إلى باريس كشف هذا التحقيق عن قضية اختراق خطير أدت إلى اعتقال عدد من المسؤولين، فضلا عن حجز مبالغ مالية هامة.
ضحية هذا الإختراق البوليسي وبطله في نفس الوقت مراد (4)، قائد ولايتي ليون ومرسيليا سابقا..
كانت شرطة مرسيليا قد اعتقلت مراد، حين كان مجرد رئيس فوج مطلع 1959، واستغلت فترة حبسه لتراوده على الخيانة، ولما أنست منه استعداد لذلك، عرضت عليه الإفراج مقابل صفقة عمالة: يبلغ برفاقه وبشبكات جمع ونقل الأموال، مقابل تسيير عملية ترقيته في مناصب المسؤولية، فضلا عن تقاضي عمولة 10٪ من المال المحجوز، تودع في حساب بنكي باسم المحافظ "لوليتي" الذي منحه وكالة لسحب مستحقاته! وبفضل هذه العمالة تمكن مراد من تسلق سلم المسؤولية، حتى أصبح مسؤول ولاية.
أدت تحريات بن يونس ورفاقه إلى الاشتباه أولا في مراد، فاحتالوا لاستقدامه إلى باريس، بعد أن التحق بتونس غداة إيقاف القتال 19 مارس 1962 في باريس أقيمت محكمة للنظر في أمره، تضم مسؤولين في الإتحادية منهم: أحمد الدوم، علي هارون، أبو بكر بلقايد ومحمد عطابة.. وجد أعضاء المحكمة أمامهم عددا من التقارير التي تدين المتهم بكيفية أو بأخرى.. استمرت جلسات المحكمة شهرا كاملا، لكن بدون نتيجة، لأن الرجل ينكر التهم المنسوبة إليه..
استبد الخوف والقلق بمراد، فحاول أولا ارتشاء حراسه في مكان حجزه بمبالغ مالية مغرية.. ثم تبع ذلك ارتكاب خطأ، كان بمثابة الإعتراف الصريح بخيانته. طلب منه ذات يوم أحد الحراس وكان أميا، أن يساعده في ملء استمارة ضمان اجتماعي، لكن ذيل الإستمارة بالعبارة التالية: "أخبروا المحافظ "بوليتيي" أنني رهن الحجز.. إليكم هاتفه..".
أرسلت مصالح الضمان مساعدة اجتماعية بالإستمارة إلى العنوان المذكور، فدخلت تبحث عن صاحب الإستغانة، فلم تجد له أثرا.. استغرب الحضور موقف المساعدة لكن ما لبثوا أن عرفوا السبب في عبارة الإعتراف المسجلة بقلم صاحبها.. الأمر الذي جعل المحكمة تنجز عملها بإثبات الخيانة العظمى وأصدر الحكم المطابق لها.

وهج السلطة..
ينسف بقايا الاتحادية
بعد وقف القتال في 19 مارس 1962 التأم شمل قيادة اتحادية الجبهة بفرنسا من جديد، وفي إطار هذه القيادة واصل المناضل محند آكلي بن يونس مهامه، بدءا بالعاجل منها: استقبال آلاف السجناء المفرج عنهم، بموجب "اتفاقيات إيفيان" من السجون والمحتشدات الفرنسية، وكان ذلك يعني إيواء المحتاجين منهم ومساعدتهم ماديا بما تيسر ريثما يستأنفون نشاطهم بفرنسا أو انطلاقا من تونس والمغرب تمهيدا للعودة إلي الجزائر. وكانت المهمة الثانية تنظيم استفتاء تقرير المصير، وسط الجالية الجزائرية بفرنسا.
واستعدادا للمشاركة في ملحمة بناء الاستقلال الوطني، بادرت قيادة الاتحادية بتأسيس مدرسة إطارات بهدف تأهيل مناضليها لمهام ومسؤوليات "الجهاد الأكبر".. لكن زوابع الخلافات بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وتحالف بن بلة - بومدين، ما لبثت أن ضربت الاتحادية أيضا، أسوة باتحاديتي تونس والمغرب، فكانت ندوة الإطارات التي انعقدت بمولان شاهدة علي ذلك..
رأت الندوة أن تدعو عددا من الشخصيات من بينها محمد بوضياف من "الزعماء الخمسة" ومراد طربوش أول مسؤول على اتحادية الجبهة بفرنسا، فضلا عن العقيد صالح بوبنيدر قائد الولاية الثانية وثلاثة ضباط من الولاية الرابعة هم الرائد يوسف بو الخروف، الدكتور السعيد هرموش والملازم علواش الناطق باسم الولاية.
وقاطع الندوة طبعا أنصار "المكتب السياسي" الذي كان يسعى من صائفة 1962 لاستلام مقاليد الحكم بالجزائر.
كانت هؤلاء الأنصار قد أعلنوا عن أنفسهم قبيل إعلان الإستقلال باسم "لجان اليقظة" التي تحولت لاحقا إلى ودادية الجزاذريين بفرنسا".. اتخذت ندوة مولان جملة من القرارات منها:
- رفض عضوية المكتب التأسيسي القادم.
- الاحتفاظ بأموال الإتحادية، في إنتظار تسليمها الى السلطة الشرعية بعد انفراج الأزمة.
لكن "وهج السلطة" مالبث أن أبقى هذه القرارات حبرا على ورق:
- سارع أربعة من أعضاء قيادة الاتحادية إلى ترشيح أنفسهم، ثلاثة في قائمة الولاية الثالثة وهم عمر بوداود، قدور العدلاني، رابح بوعزيز، الرابع وهو علي هارون في قائمة الولاية الرابعة.
ولم يترشح خامسهم وهو عبد الكريم السويسي، لأنه لم يجد من يزكيه في الولاية الثانية -أو غيرها!
- سارع عمر بوداود يتسلم أموال الإتحادية إلى محمد خيضر أمين عام المكتب السياسي لجبهة التحرير.

اتفاق 3 أيام بين الجبهتين!
بدأ المناضل محمد آكلي بن يونس مبكرا تجربة المعارضة للنظام الجديد بالجزائر، بدأ مع أول معارض من "الزعماء الخمسة": محمد بوضياف الذي أعلن عن تأسيس "حزب الثورة الاشتراكية" في 20 سبتمبر 1962 أي يوم انتخاب المجلس التأسيسي.
لكن الانفضاض من حول بوضياف، تم بنفس سرعة الإتفاق حوله!
ويقول بن يونس في هذا الصدد: "قررنا التخلي عن بوضياف والعودة إلى الجزائر"!
غير أن مخابرات الرئيس بن بلة لم تأخذ هذا "التخلي" بعين الاعتبار، فاعتقل مساء 21 يونيو 1963 أمام البريد المركزي في العاصمة، وفي اليوم الموالي وجد نفسه في سفر إجباري باتجاه بشار، على متن طائرة تقل مناضلين آخرين: بوضياف، علواش وموسى قبايلي...
بعد توقف ببشار لم يدم طويلا، استقر المقام بهؤلاء المعتقلين في ضواحي أدرار بعمق الصحراء..
قضى بن يونس ورفاقه بالصحراء صائفة 1963، وجزءا من الخريف الموالي، ليفرج عنهم في نوفمبر، و"إذا الرفاق كل في طريق":
- اختار قبايلي وعلواش طريق العافية! فالتحق الأول بسوناطراك، وفتح الثاني مكتب محاسبة.
- التحق بوضياف بفرنسا، قبل الاستقرار بالمغرب.
- فضل بن يونس معاودة تجربة المعارضة، مع جبهة القوى الإشتراكية " التي أسسها في 29 سبتمبر الماضي حسين آيت أحمد من "الزعماء الخمسة".
قضى فترة المعارضة بفرنسا مرة أخرى كمسؤول للهجرة وناطق باسمها . وظل في منصبه هذا حتى 15يونيو 1965. في هذا التاريخ تم الإتفاق بين جبهتي التحرير والإشتراكية، على وضع حد لخلاف اكتسى طابعا دمويا أحيانا...
كان الشاهد ضمن الوفد المفاوض، رفقة العقيد سليمان دهيلس وعبد الحفيظ ياحا واثنين آخرين ... وكان وفد جبهة التحرير بقيادة عضو المكتب السياسي محند ويدير آيت الحسين وعضوية محمد البجاوي والزبير بوعجاج.
وبناء على هذا الإتفاق عاد بن يونس ورفاقه الى الجزائر في نفس اليوم، وفي اليوم الموالي نشرت بنود الإتفاق على صفحات يومية المجاهد.
لم يعمر هذا الإتفاق الموقع مع جبهةالرئيس بن بلة غير ثلاثة أيام، لأن الرئيس ذهب ضحية انقلاب في 19 يونيو، قاده العقيد هواري بومدين وزير الدفاع ونائب رئيس مجلس الوزراء.
وبعد أيام معدودة تولى أمانة جبهة التحرير بالقاسم الشريف من قادة "التصحيح الثوري"، فاستقبل بن يونس ورفاقه ليطمئنهم باسم النظام الجديد، وليقول لهم كذلك: الباب مفتوح للالتحاق بجبهة التحرير.
ويقول الشاهد: "عدت إلى الحياة المدنية عقب ذلك، مفضلا الإهتمام بعملي وعائلتي.. لأنني لم أعد أرى جدوى مواصلة نضال بلا أفق في جبهة القوى الإشتراكية"..
ويواصل اليوم نشاطه السياسي والمدني، بصفته عضو مجلس الأمة عن الثلث الرئاسي، ورئيس جمعية مجاهدي اتحادية جبهة التحرير بفرنسا.

هوامش
(*) طالع الحلقة الأولى في "الفجر" عدد 23 أكتوبر الأخير.
(1) الأول صحافي سابق والثاني رئيس سابق لوداد الجزائريين بفرنسا.
(2) كان بابون عاملا سابقا لعمالة قسنطينة قبل الثورة وعاملا فوق العادة لمقاطعتها أثناء الثورة، حيث أثرى تجربته في القمع التي كان اكتسبهافي عهد حكومة فيشي بفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية.
(3) ذهب ضحيتها زهاء 800 متظاهر، ألقي بالعديد منهم في نهر "السان".. وناهز عدد المعتقلين فيها 12 ألفا.
(4) اسمه الحقيقي عبد الله يونسي.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)