رِحلتُنا إلى القَرن التاسع عشر في الجزائر عبْر "مأساة الرُّؤوس المقَطّعة" التي أصبحت حكاية وطنيّة إنسانية نَسْردها لأبنائنا وأحفادنا في المستقبل وللعالم، إنّها "الذّاكرة التي احتفظ بها الآخر العدوّ" فحياتك يحكيها الآخر الذي كان يريد طمسك وذوبانك، وذلك من مفارقات التّاريخ، لقد رَحلنا إلى القرن التاسع عشر عبر مَسْلك واحِد هو الاستقلال الذي كان ثمرة ثورة التّحرير في زمن حاول البعض أن يُفجّر الهويّة وتصبح مَرضاً وسبباً للفرقة ليس بالأسئلة العلمية والتجديدية ولكن بتأويل سياسي أو ديني أو عرقي ، وهي "أمراض الهويّة" التي لا تختلف عن "الهُويّة القاتِلة" بلغة أمين معلوف.رحَلنا عبْر رُوح جماجِم أسْلافنا المجاهدين ليجد الذين يُضيّقون متّسعاً حَرجاً وتِيهاً في البحث عن الأنساب العِرقية واللغوية والجهوية والقبليّة أو الذين قَبلجُوا من "القبيلة" مؤتمرات الثّورة التحريرية بين الآخذين بمؤتمر الصومام مقابل الذين يستندون إلى مؤتمر طرابلس، بين من يرفَع صُورة عبّان رمضان ويستنكر صُور الآخرين، بين الذي يرفع صورة بن بولعيد ويرفض صور مصالي الحاج، بين الذي يرى ابن باديس المرجعيّة الوحيدة والذي يرى التّصوف والطّرقية هويّة تاريخية في مقابل جمعية العلماء، هكذا كانت رِحلتنا في اليومين الأخيرين حضر فيها الشّوق عند الشّباب إلى معرفة "قصّة الجماجم" وحياة أبطالها، تذكّر النّساء والعجائز فلذّات أكبادهم المفقودة والشّهداء الذين لا قُبور لهم، تذكّرنا الجُرح والألم الذي قد يعود في أشكال جديدة زمن صفقة القرن وضمّ الأراضي الفلسطينية وعبث العالم بليبيا وبساحلنا الإفريقي للبحث عن "هيمنة جديدة".
مع إقبار شهدائنا في عيد الإستقلال أودّ أن اسجّل الملاحظات الأوّليّة التي تحتاج بسْطاً في المستقبل –بحول الله-:
1- على السّلطة السياسية أن تُدرك أنه بفضل هذه الرّحلة التّاريخية، رِحلة امتزج فيها الحزن بالسّعادة أنّها تستطيع نقل عواطِف المواطنين نحو "عاطِفة وطنية إيجابية" تساهم في الاستقرار والتبصّر بالمستقبل وإفشال كل مناورة تسعى لتفتيت البلد من خلال الذّاكرة، ولكن بالإخلاص وبالابتعاد عن الاستعمال السّياسي، وبلغة الحقائق وسَحب ذلك من المؤسّسات الفاشلة والجمعيات البزنسية، ولذا على وزارة الدّاخلية والمؤسّسات الرّسميّة المعنية منع أي جمعيّة باسم عائلي ( فادّعاء النّسب لموسى الأغواطي أو بوبغلة أو بن علال … إلخ) مثل ما حدث مع الأمير عبدالقادر وبوضياف وغيرهما، وتحوّلت بعض هذه الجمعيات التي تحتكر ميراث الشّخصيات الوطنية إلى سجّل تجاري وتشويه بالتقديس المبالغ فيه، وقمع كل باحث يحاول كشف الحقائق، وقد ظهر في بعض المنشورات ادعاء هذا النسب العائلي بهتاناً وجهلاً ببعض زعماء المقاومة منذ يومين في الوسائط التّواصلية، في حين أنّ هذا "ميراث مشترك" ولم تكن هناك وصيّة بالثلث، فهؤلاء ميراثهم للتاريخ والمستقبل، ( قصة زاوية وضريح الشّيخ الحدّاد والخِلاف العائلي مع المسؤولين المحليين في سنوات سابقة مثال ذلك).
2- تفاعل المواطنين في الميديا كان إيجابياً وتحوّلت صفحات الفيسبوك إلى تقاسم نصوص وصُور عن قصّة الجماجم (مع بعض الأخطاء التّاريخية والنّقل الحرفي لبعض النّصوص دون التبيّن) وهذه مهمّة المؤرخين والمثقفين في تصحيح المعلومة وتوجيهها، وبعض وسائل الإعلام أعطت صورة غير سليمة في التركيز على العَرش أو المكان الذي ننسبه إلى قائد من القيادات الرّوحية للمجاهدين، فمعظمهم ليس له انتماء قبلي واضح وهذه مسألة إيجابية تحول دون التوريث التجاري، فسور الغزلان محطة رحلة للشريف بوبغلة ولكن معظم مداشر وقرى زواوة كانت مسكنه وتصاهر فيها وأنجب، والقول نفسه عن موسى الأغواطي، والثّورات شاركت فيها العروش والجهات المختلفة، مثل الزّعاطشة.
3- لما ذا يخجل بعضهم من كون تأثير هذه "الزّعامات الرّوحية" كان في الأساس الانتماء للطّريقة الصّوفية وهنا علينا أن نقرأ الزّوايا والتصوف في مراحله ومميزاته في كل جِهة ونضعه في سياقه التاريخي، فموسى الأغواطي الدّرقاوي المدني كان ناشراً لطريقته الصوفية ويؤدّي مهام سياسية ومعادياً لأوربا وحضارتها التي تحاول تقويض "الخلافة الإسلامية" في تركيا، قبل أن ينظم إلى مقاومة الأمير عبدالقادر وينتهي به المطاف عند صديقه أحمد بوزيان، رغم أن شيخه بن عطية الونشريسي اعتبره خارجاً عن الدرقاوية (تناولنا ذلك في كتاب صدر 2015 عنوتنه: "الاستمدادات الربانية" بالاشتراك مع الدكتور محمد خاين، مثل ما كانت ثورة بوبغلة ولالا نسومر والحداد والمقراني "رحمانية –خلوتية)، ومحمد بن عبدالله بومعزة (الطّريقة الطيبية) والأمير عبدالقادر (الطّريقة القادرية).
4- عنصر المرأة الحاضر في المقاومة كزعامة روحية أيضاً ومشاركة ( مقتل 117 امرأة في معركة الزعاطشة 20 نوفمبر 1849) وقالت أخت بوزيان قصائد رِثاء ظلّت تُنشد في المآتم والأفراح إلى نهاية القرن، وأهازيج النّساء عن البطولات تحتاج إلى الجمع والدّراسة، مثل الشّعر الشّعبي الذي هو وثيقة تاريخيّة ونصّ للدراسة الأدبية والاجتماعية والسّيّاسيّة.
5- اختيار بعض "الزّعامات الرّوحية" عروش وقبائل معيّنة لأن بها جذوة المقاومة ورماد الحرب لم تنطفئ فبلاد زواوة ( تعبير استعمل قبل ثلاثة قرون ولازال في الغرب الجزائري) ثار بها مع بداية الاحتلال علي بن السّعدي الذي وصل إلى باب عزّون بجيشه، وتعاون مع محيي الدين بنعلال القليعي (تيبازة) وقتل شنقاً من طرف تريزيل (1832)، وتنقل موسى الأغواطي في بلاد الجزائر هو البحث عن هذه "الجذوة المشتعلة" بعد نهاية مقاومة الأمير عبدالقادر التي عثر فيها في رمال الزعاطشة.
6- الخيانَة التي كانت من بني جلدتهم ساعدت الاستعمار الفرنسي ولكن ربما من أحفاد هؤلاء الخائنين من قاوم وجاهد، ولذلك "الخيَانة فرديّة ومعزولة والإسلام والأرض للجميع)، لم أستعمل هنا "الوطنيّة" لأنها لم تتبلور بالشّكل الذي وصلنا من الحركة الوطنية وثورة التحرير، ولذلك قراءة القرن التاسع عشر بمعجم القرن العشرين له نتائجه السّلبية في الفهم والمنهجية.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 07/07/2020
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الشروق اليومي
المصدر : www.horizons-dz.com