الجزائر

كيف كان الريفيون يواجهون الثلج في الماضي؟



 عرفت الجزائر سنة 1942 موجة ضخمة من تهاطل الثلوج، ويسمي الناس هذا (فرة) وكلمة قرة عربية من القر وهو البرد الشديد. الفلاحون لا يحتاجون لمؤونة تأتيهم من الخارج، بل عندهم غذاؤهم مخزّن، حبوبا في المطامير تحت الأرض أو في ''الرّوني'' بزاوية البيت، وهو وعاء من الحلفاء المظفورة يحمل أكثـر من خمسة قناطير من القمح. تطحن النساء القمح برحًى صغيرة، وتعجنها وتنضجها على طاجين من الطين، اللحم مخبأ في شكل قدّيد بمزود، أو مسلّي في زير، الدّهان في عُكّة، والكليلة التي هي لبن مجفف بالشمس على شكل حبيبات في حجم الحمص تستعمل في طهي الكسكسي بدل الحمص مخبأة في مزاود، الأسرة تحتفظ بما يكفيها سنة كاملة أو أكثـر، ويسمى (العوين). كانت المرأة هي اقتصاد الأسرة تعد غذاءها وتنسج قشاشيبها وبخانيقها ومفارشها وأغطيتها. وقد عشتُ هذه السنة وسردْتُها في رواية لي عنوانها (وشْم على الصدر) نشرتها دار الأمة سنة 2006. نص ما ورد بالرواية عن فرة الثلج فيما يلي: 
جاء الخريف ممطرا في هضبة ثازبنت التي تقع على ارتفاع 1500 م في ولاية تبسة. وسقط شتاء بارد هذه السنة (1942) لم تعرف المنطقة أكثـر برودة منه، فقد استمر الثلج مغطيا الأرض مدة ستين يوما ارتفع إلى أمتار، كان المواطنون ينامون والمجارف داخل الحجرات وفي الصباح يجدون الأبواب وقد أوصدها الثلج المتراكم، فيقومون على إبعاد الثلج عن أبواب الغرف من الداخل، ويساعدهم الجيران على إزاحته من الخارج، وبعد ذلك يصعدون إلى سطوح المنازل فيقومون برمي الثلج المتراكم عليه إلى خارج أسوار الحوش حتى لا يؤثر ثقله على جدران المنزل.
أما الماء فقد غُمرت كل الآبار بالثلج، ولم يبق لسكان المشتى إلا إذابة الثلج في قدور كبيرة توضع على نار حامية. وبسبب استمرار هذه الفرّة الثلجية نفدت أكداس الحطب، ومن حسن حظ السكان أن مشتاهم (مشتى أولاد مسعود) يقع على بعد مئات الأمتار من الغابة، ونظرا لعدم استطاعة ذوات الحوافر السير في الثلج المرتفع، فإن الرجال هم الذين يتوجهون للغابة على أقدامهم فيقطعون قطعا طويلة من الحطب يحملونها على ظهورهم إلى بيوتهم، حيث يقومون بتقطيعها.
ينتعل المواطن نعلا يسمى (الفُركْ) وهو عبارة عن قطعة من جلد البقر يخاط بخيوط من الجلد، وتلف القدم بقطعة قماش أو جراب، ثم تدس به القدم، وهو الذي يصلح للثلج، فيتيح لمنتعله التنقل بسهولة فوق الثلج المتراكم دون أن يغرز فيه أو يتزحلق عليه.
يتوجه الرجال للغابة شبانا وصبيانا، فيقومون بقطع أجزاء طويلة من سيقان شجر الصنوبر أو البلوط، يحملونها على أكتافهم ويعودون بها للمنازل.
ومرّ هذا الشتاء في صراع قاس مع الطبيعة، ستون يوما بين ديسمبر ويناير وفبراير لم يشاهد فيه وجه الأرض، كل شيء كان مغطى بالثلج، الأشجار، البيوت، الوديان لم تشاهد زرقة السماء، كانت قطعان الأغنام قد نقلت إلى الصحراء، لتقضي الشتاء هناك، أما الأبقار فتطلق بالغابة المجاورة التي هي عبارة عن تلال ووديان عميقة مغطاة بالأشجار، أعماقها وطبقاتها دافئة تلجأ إليها الأبقار بالشتاء، وكلما تعمقتْ نحو عمق الوادي كلما قلت الثلوج، وهي مكسوة بأشجار البلوط والصنوبر والطاقّـة والعرعار ونبات الحلفاء والديس، تجد فيها الأبقار غذاءها. بل إن قطعان الأغنام والماعز القليلة التي لم توجه إلى الصحراء قضت هذين الشهرين بوديان الجبال بعنكوب ''تلّ'' الطريق، وعنكوب العين، والعنكوبة القصيرة، ترعى من أعشاب الوديان وتتقي بدفئها برد الثلج، وقد غض حراس الغابة البصر عن ذلك بسبب ظروف هذا الشتاء، بل إن هؤلاء الحراس يقيمون في أكس وتبسة ويتنقلون بين هذه الجبال على بغال أو خيول وهي لا تستطيع السير في هذا الثلج المتراكم. ويجد الأطفال متعة في صيد الأرانب بالثلج، يتعقبون أثرها إلى أن يصلوا لمخبئها فتهرب ولكن أقدامها تغرز بالثلج فلا تستطيع الركض فيسرعون وراءها ويمسكونها بأيديهم.
إن الريفي الجبلي كان يبني حياته على الاكتفاء الذاتي غذائيا ووقودا فيخبئ ما يكفيه لمدة سنة، وإذا اشتد الحال على أسرة هبّ الناس بالمشتى لمساعدتها، في تضامن وتكافل رائعين.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)