لا تزال جائحة كورونا تثير الجدل في تحمّل المسؤولية تجاهها، ولا يزال هذا العدوّ الخفيّ يجُوسُ خلال الدّيار بأرقامٍ مرعبةٍ في عدد الإصابات والوفيات المعلَنة وغير المعلنة، ولا يزال هذا الضّيف الثقيل يمارسه عادته السيّئة بإلقاء تحيّة الرّعب على الجميع، ولا يزال هذا الوباء هاجسًا عالميًّا مخيفًا وواقعًا حياتيًّا خطيرًا، إلاّ أنّ الأخطر من ذلك كلّه هو تصادم الإرادات وتبادل الاتهامات وحالة اللاّ مبالاة في مواجهته، ممّا أدّى إلى تميّع المسؤولية الفردية والجماعية أمامها، وخاصة أمام عجز الحكومات وانتقال المسؤولية إلى المجتمعات.ومع الإقرار بمسؤولية مؤسّسات المجتمع والدولة، إلاّ أنّ ذلك لا يُعفي من تحمّل المسؤولية الفردية: روحًا ثقافيةً وسلوكًا واقعيًّا، فهناك نمطٌ من التفكير عقيم، متمثّلٌ في التهرّب من المسؤولية الفردية والاختباء وراء المسؤولية العامّة، فترى انتظارًا لحلولٍ جماعيةٍ فوقيةٍ تمليها القيادات العليا في طغيانٍ صارخٍ للمركزية في تحمّل المسؤولية أيضًا، وهو ما يُغرِق الفرد في المنطق التبريري، ويجسّد عمق القصور في إدراك المسؤولية الفردية، مع أنّ الخطاب الإلهي يتّجه تكليفيًّا في الغالب إلى الفرد أكثر ممّا يتجه إلى الأمّة أو الجماعة، كما تزخر بذلك النّصوص الشّرعية، مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: "كلُّكم مسؤولٌ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيته.."، وقوله: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيّره.."، وقوله: "لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمر النِّعم"، وهو نفسُ ميزان العدل في الحساب يوم القيامة، كما قال تعالى: "وكلُّهم آتيه يوم القيامة فردًا." (مريم: 95)، وهو ما جعل استشعار المسؤولية الفردية لدى الجيل الرّباني الأوّل حاضرًا بقوّةٍ في التاريخ وفي مسارات صناعة الانتصارات والحضارات.
وعند التأمّل في قوله تعالى: "إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسِهم". (الرّعد: 11) تجد تلك الإرادة التراتبية في ارتباط إرادةِ الله في التغيير بإرادةِ الإنسان في نفسه، إذ تجعل من التغيير وظيفة الإنسان، وأنّه بإرادة الإنسان، وأنّ محورَه وساحتَه هو الإنسان، وما إرادة الله تعالى في ذلك إلا سُنَّةً متناغمة مع إرادته في ذاته، وأنَّ سُنَّة التغيير ناتجةٌ عن الفعل البشري في ممارسة أقصى طاقته الذّهنية والعملية، فالآية عامّةٌ في كلِّ إنسان يريد التغيير، وبالتالي فهي تعبّر عن قانونٍ إنسانيٍّ مجرّد، لا يُعفي أحدًا من تحمّل المسؤولية.1_ التوازن بين الحرّية والمسؤولية في أزمة كورونا: الآية الكريمة مفعمةٌ بالتمتّع بالإرادة والحرّية، ولكنها في نفس الوقت تنطق بفاعلية الإنسان في تحمّل المسؤولية، فهناك توزيعٌ في الإرادات في العملية الإصلاحية، هناك تغييرٌ إلهي وهناك تغييرٌ إنساني، وأنّ التغيير
الإنساني كواجبٍ فرديٍّ في عالم الأسباب (ومجاله النّفس) سابقٌ عن التغيير الإلهي كمكافأةٍ جماعية في عالم النتائج (ومجاله القوم/ المجتمع)، حتى يتحمّل الإنسانُ مسؤولية الفِعل والترْك، وهو ما يعني ارتباط الحرّية بالمسؤولية، فينسجم حقُّ الإنسان وهو التغيير الإلهي مع واجب الفرد وهو التغيير الإنساني، وأنّ الواجبَ مقدّمٌ على الحقّ، وأنّ المنطق الشّرعي والقانوني يفرض نوعًا من الالتزام الأخلاقي والأدبي اتجاه المجتمع والدولة والأمّة التي ننتمي إليها.
وهو ما يعني أنّ نعمة الحرّية في الأقوال والأفعال والأحوال في السّلوك الفردي أو الجماعي لا يُعفي الإنسان من تحمّل مسؤولية الوقاية والعلاج من هذه الجائحة تجاه النّفس وتجاه الغير، إذ أنّ حرّية الفرد تنتهي عند بداية حرّية الآخرين، وأنه مهما تميّز الإنسان بالخصوصية في السّلوك الفردي إلاّ أنه مُؤاخَذٌ في تحمّل المسؤولية عن الأثر المتعدّي لها دنيويًّا أمام القانون وأخرويًّا أمام الله تعالى.
2 – التوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية في أزمة كورونا: إنّ الآية تنطق بأنّ محراب التغيير هو النّفس البشرية، إلاّ أن هناك علاقةٌ تلازمية بين "ما بأنفسنا" وبين ما ينعكس على واقعنا ومجتمعنا، وأنّ الانطلاقة الحقيقية لأيِّ إصلاحٍ أو تغييرٍ أو نهضةٍ هي الاستثمار في الإنسان، إلاّ أنّ مصلحته لا تُختصر في حاجاته ومتطلباته الفردية فقط بل هي أعمق وأخطر، إذ تمتدّ إلى مصلحة المجتمع والدولة والأمّة ككل.
وفي أزمة كورونا تتصادم بعض المصالح الفردية، فتنازعه نفسُه إلى ضرورة رفع القيود وإجراءات الحجر عليها من أجل العبادة أو العمل أو التجارة أو النّشاط أو السّياحة أو الترويح وبين خطر الإضرار بمصلحة المجتمع والدولة بنقل العدوى والتسبّب في أزماتٍ جماعيةٍ متعدّيةٍ ومتعدّدة، وهو ما يفرض التوازن بين المصلحة الجماعية المقدَّمةِ على المصلحة الفردية مهما كانت.
3 – التوازن بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية اتجاه أزمة كورونا: الآية الكريمة تتحدّث عن التغيير كسُنَّةٍ اجتماعيةٌ وجماعية وليست كسُنَّةٍ فرديةٍ وخاصّة فقط، ولذلك جاء التعبير عنها بلفظة "القوم" ككيانٍ عامٍ وموحّد، وهي تشمل المجتمع أو الشّعب أو الأمّة بكلّ مكوّناتها: ذكورًا وإناثًا، كبارًا وصغارًا، مهتدين وضالّين، علماء وجهّالاً، وهو ما يرتّب المسؤولية التشاركية بين الفرد والمجتمع، وأنّ التغيير عملٌ جماعيٌّ وأنّ الإصلاحَ فِعلٌ تراكميٌّ، حتى يقع التناسب بين الكمِّ والنّوْع وبين الفرد والمجتمع، ويقع التوازن بين المسؤولية الفردية وبين المسؤولية الجماعية.
كما أنّ الآية تفجّر الوعي فينا باتجاه واجباتنا في الدّنيا بعيدًا عن الهروب إلى الآخرة، وبمسؤولياتنا في التعاطي مع الواقع بعيدًا عن الاختباء وراء الماضي، وبالتفاعل الإيجابي
مع المجتمع بعيدًا عن الخلاص الفردي، وأنّ مسؤولية التغيير في الدنيا مسؤولية جماعيةٌ، وأنّ الحساب عنه جزاءٌ فرديٌّ في الآخرة، وهو ما يعني تلازم المسؤولية الفردية بالمسؤولية الجماعية في مواجهة ما نتعرّض له من أزماتٍ أو مشكلاتٍ أو تحدّيات، ومنها: أزمة كورونا.
4 – التوازن بين المصلحة الدّينية والمصلحة الدّنيوية في أزمة كورونا: فقد جاءت هذه الجائحة لتضعنا أمام نوعٍ من التصادم الظّاهري بين تعطيل بعض المصالح الدّينية كغلق المساجد وتعطيل بعض الشّعائر وبين تحقيق بعض المصالح الدّنيوية مثل حفظ النّفس عن طريق الحُزَم الإجرائية الاحترازية، لكنّ المتأمّل فيها لا يجد فيها تعارضًا حقيقيًّا، وأنّ أيّ مصلحةٍ لا تأخذ وصفًا دينيًّا محضًا أو دنيويًّا محضًا، فهي كلّها من المصالح المعتبَرة شرعًا، وأنّ مراعاتها جميعًا هو جزءٌ من حفظ الدّين وليس تعطيلاً له، فحفظ الصّحة وحِفظ النّفس هي من صميم حفظ الدّين، وأنّ حفظ الدّين في حقيقته لا يتصادم مع المقاصد والمصالح الأخرى، وأنّ هذا التعطيل لهذه المصالح نسبيٌّ وجزئيٌّ وليس مطلقًا أو كليًّا. لقد أثبتت هذه الجائحة أنّها فوق طاقة الحكومات والمؤسّسات، وهو ما يفرض التوجّه بالمسؤولية إلى كلِّ فردٍ في المجتمع؛ باعتباره مسؤولاً عن نفسه في تصرّفاته وقناعاته، بعد أن عرف مواطن الخطر، واطَّلع على عمق المشكلة، ووقف على مكمن التحدّي، وشخَّص تأثير هذا الوباء، وانكشفت له تفاصيل حكايته.
وبعيدًا عن الجدل حول مسؤولية الفرد ومسؤولية الدولة، وجدلية التعارض بين المصالح الدّينية والدنيوية، فإنّ هذه الجائحة لا تفرّق بين ذلك، وأنّ المرحلة المقبلة تستدعي المزيد من تعميق دور المسؤولية الشّخصية في التعامل معها، وتأصيل روح المسؤولية المجتمعية اتجاهها، وتأكيد مبدأ المسؤولية الفردية والجماعية في التدريب الذاتي على الوقاية والعلاج منها، والتشجيع على خُلُق المبادرة والقدوة فيها.
إنّه قدر التعايش معها، فلا أحد يعلم غيب مستقبلها، ولا أحد يعلم خطر مآلاتها.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 18/07/2020
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الشروق اليومي
المصدر : www.horizons-dz.com