غداة مجازر 8 مايو 1945 كلف حزب الشعب الجزائري محمد بلوزداد، بمعالجة مضاعفاتها السياسية والنظامية على مستوى عمالة قسنطينة كلها، وقد رافقته في هذه المهمة على مسوى ولاية سطيف ـ التي عاشت بداية المجزرة وذروتها في نفس الوقت ـ لمحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه، بعد الإعصار الاستعماري الحاقد.
وفي أول اتصال بالمناضلين بسطيف أشاروا علي باسمين، يمكن أن يساعداني في المهمة الخطيرة التي انتدبت لها، وهما محمد بوضياف والبشير بومعزة.
كان بوضياف آنذاك مسؤولا بناحية برج بوعريريج، حيث كان يعمل في مصلحة الضرائب، وعندما أعدنا هيكلة الحزب بالولاية قمنا بتجديد مجال النواحي الثلاثة: الصومام، البرج، المسيلة، وفي هذا الإطار، نصبنا بوضياف على رأس ناحية البرج بمساعدة محمد طالبي، وفي غضون 1946 مرض بلوزداد، فخلفته مؤقتا على رأس العمالة التي كانت تمتد جنوبا حتى مشارف الصحراء، وبناء على ذلك استخلفت بوضياف على ولاية سطيف ـ التي كان عضوا في مجلسها بحكم منصبه بناحية البرج.
وعندما قرر مؤتمر الحزب في منتصف فبراير 1947 تأسيس "المنظمة الخاصة" أشرفت على هذه العملية بشرق البلاد، رفقة أسماء أصبح لها شأن لاحقا، أمثال بولحروف، عصّامي، ديدوش، بن مهيدي، بن بولعيد إلخ.." وبعد اكتمال هيكلة المنظمة شبه العسكرية بعمالة قسنطينة، نصب على رأسها بوضياف لسوابقه السياسية والعسكرية.
وخلال هذه الفترة تكونت بيننا علاقات حميمية، جعلتني من أكثر المناضلين معرفة به، وقد لاحظت منذ البداية مقدرته الكبيرة على التنظيم.
التقينا بعد ذلك في أركان "المنظمة الخاصة" التي التحق بها في خريف 1949، عقب إسناد رئاستها إلى بن بلة خلفا لأيت أحمد، وأثناء أزمة القيادة بين مصالي والأمانة العامة للحزب في بداية 1945، اختلفت معه بسبب الموقف التاكتيكي الذي اتخذه إثر عودته إلى الجزائر، والمتمثل في التحالف مؤقتا مع الأمانة العامة بواسطة مسؤوليْ لجنة التنظيم فقد اعتبرت ذلك تجاوزا لاختيار الحياد الذي يدين عمليا الأمانة العامة، بقدر مايدين مصالي وأنصاره، ورأيت فيه شيئا من الضرر بهذا الاختيار، وبناء على ذلك راسلت بوضياف، أطلب منه الابتداع عن الأمانة العامة، كما انتقدته في رسائل إلى بعض المناضلين من العاصمة خاصة، غير أن الثورة مالبثت أن جمعت بينا من جديد، في بداية 1955 بسويسرا التي لجأت إليها بعد تضييق الخناق على بفرنسا، وكان يومئذ يسعى مع بعض المناضلين، لتأسيس اتحادية جبهة التحرير بالتراب الفرنسي.
وذات يوم كنت على موعد مع بوضياف في جنيف، فألقت مصالح الشرطة القبض علينا، لنبقى رهن الاعتقال نحو أسبوعين.. وقد أفرجت عنا بشرط مغادرة البلاد فورا، فاخترت القاهرة، بعد أن منعتني شرطة الحدود من دخول إيطاليا.
وفي القاهرة التقينا من جديد في إطار اجتماع موسع، بهدف إعطاء دفع قوي لعملية التسليح عبر الولاية الخامسة، وضمان التنسيق الضروري مع الداخل بصفة عامة، وكان الاجتماع بحضور بن بلة وآيت أحمد وبن مهيدي..
كان بوضياف قد كلف بالتنسيق بين الداخل والخارج، وكان المفروض تبعا لذلك أن يعود إلى الجزائر غداة فاتح نوفمبر 54، لكن أصيب بمرض حال دون ذلك، وبعد اجتماع القاهرة دخل المستشفى فعلا.
واختلفت بنا سبل الكفاح، عقب اختطاف طائرة الوفد الخارجي لجبهة التحرير في 22 أكتوبر 1952، ومع فجر الاستقلال وأزمة صائفة 1962 وجد كل منا نفسه في صف، كنت في صف بن بلة ـ بومدين ـ وكان مع كريم في صف الحكومة المؤقتة، لكن في خريف 1966 التقينا من جديد بفرنسا في نفس الصف: صف معارضة نظام بومدين.
كان بوضياف يومئذ على صلة بخيضر الذي كان بدوره على اتصال بجماعة من العاصمة، منهم محمد البجاوي ولخضر رباح، وكان ينشط حزبا قائما بذاته هو "ضرب الثورة الاشتراكية"، فلم يكن لذلك، بيدي حماسا كبيرا في تشكيل تجمع واسع للمعارضة، وكنا كذلك متباعدين ايديولوجيا وسياسيا، بالنظر لتأثر جماعة بوضياف بالاشتراكية الماوية إلى حد ما..
التقينا ثانية بالمغرب، بمناسبة انعقاد مؤتمر الاتحاد الاشتراكي، وكنت يومئذ أنشط في إطار "التجمع الوطني للدفاع عن الثورة" مع الزبيري وأحمد ڤايد، فعرضنا علينا الالتحاق بنا، لكنه اعتذر..
وعندما عاد إلى الجزائر في 16 يناير 1962 على رأس المجلس الأعلى للثورة، لم أتمكن من الإتصال به، كن مع ذلك كنت أتابع تحركاته، وكنت متخوفا عليه كثيرا.. كان بين الحين والآخر، يبلغني سلامه مع بعض المعارف الذين يستقبلهم، وكنت أرسلت إليه قائمة بأسماء الشخصيات التي ينبغي استقبالها، دون أن أدرج اسمي فيها..
غير أن بعض مساعديه كانوا يترددون علي، لتبادل وجهات النظر في قضايا معينة، وصادف أنني أدليت بحديث لصحيفة الوطن، فحاولت إرسال إشارات إليه من خلاله، ويبدو أنه فهم هذه الإشارات، فرد عليها في أحد تصريحاته..
معارضة.. في زمن صعب
حاولت إثر خروجي من الجزائر أن أشارك بفرنسا في تنشيط قطب جديد للمعارضة، إلى جانب أقطاب أخرى ينشطها آيت أحمد، بوضياف وخيضر.. وكانت المحاولة الأولى باسم "التجمع
الوحدوي الثوري"، مع عناصر أمثال محمد بودية وبن منصور وعبسي.. وكان التجمع يصدر نشرة دورية بعنوان "الميثاق"...
وفي سنة 1974 قمت بمحاولة ثانية، مع كل من الطاهر الزبيري وأحمد قايد باسم "التجمع الوطني للدفاع عن الثورة".. لكن هذه المحاولة لم تعمر طويلا مثل سابقتها، هذه التجارب الفاشلة في المعارضة ومتاعب الغربة، جعلتني أفكر في العودة إلى الجزائر، بدأت أمهد لذلك قبل وفاة الرئيس بومدين، وحذا حذوي العقيد الزبيري.
وشاءت الأقدار أن يرحل بومدين نهاية 1978، ويخلفه الرئيس بن جديد الذي دشن عهده بنوع من الانفتاح، ما لبث أن يسر سبيل عودتنا جميعا.
وخلاصة القول أن التربية الثورية التي نشأنا عليها في حزب الشعب الجزائري، جعلتني ارتبط بأحمد بن بلة، باعتبارنا من قدماء المناضلين، وكان وقوفي إلى جانبه سنة 1962، على أساس الاعتقاد بأننا نمثل روح الثورة أكثر من غيرنا. والواقع أن الظروف كثيرا ما تضع الإنسان، أمام ضرورة الاختيار اعتمادا على الحدس وحده، بمنأى عن الخبرة المعززة بالمعلومات الدقيقة والموضوعية.
قصتي مع آيت أحمد.. خلاف عقائدي عميق
كان شباب حزب الشعب الجزائري من جيلي يحمل اتجاها إيديولوجيا وسياسيا معينا، سبق أن تبلورت خطوطه العريضة ـ كفكر وطني ثوري ـ في حركة نجم شمال إفريقيا، ولسان حالها صحيفة الأمة، لكن عند احتكاكنا بحسين أيت أحمد ـ ابتداء من 1947ـ لمسنا أنه متشبع باتجاه مخالف، لذا لم يكن هناك ما يجمعنا به، غير ضرورة العمل النظامي داخل الحزب لا أكثر.
في غضون 1949، جاهر رفاق آيت أحمد قائد "المنظمة الخاصة" بنزعتهم البربرية. ومالبثنا أن اكتشفنا أنه طرف فاعل في مشروع "حزب الشعب القبائلي"، فكان ردنا، أن الرجل يقوم بعمل انفسامي خطير داخل حزب الشعب الجزائري، وكنت قد تحفظت على تعينيه مسؤولا "للمنظمة الخاصة" ـ خلفا لبلوزداد المريض ـ لنزعته هذه بالذات.
وعندما تولى قيادة المنظمة ـ سنة 1948 ـ اتهمني تقريبا بالتمرد عليه، بصفتي عضوا في أركان هذه المنظمة، بعد أن أبديت تحفظي على قرارات كان اتخذها ـ بالتشاور مع نائبه العسكري عبد القادر بالحاج الجيلالي (1) ـ رأيت فيها تهديدا بنسف التنظيم شبه العسكري ذاته، لأنها أدت باختصار إلى ترقيات وإقصاءات مشبوهة.
هذه القرارات مالبثت أن أحدثت أزمة في أركان المنظمة، جعلتني أقدم تقريرا لقيادة الحزب، ضمنته موقفي من الاتجاه الجديد الذي يحاول فرضه آيت أحمد، تولت لجنة من لحول وبودة وبن بلة (2) دراسة التقرير وانتهت عقب ذلك إلى حل وسط: أن أنقل إلى المفتشية العامة للحزب، على أن يعزل آيت أحمد بعد شهرين، وهذا ما حصل في صائفة 1949، بتعيين بن بلة على رأس المنظمة.
غداة إعلان ثورة فاتح نوفمبر 1954، جمعني بآيت أحمد إطار عمل نظامي جديد هو جبهة التحرير الوطني، لكن الخلافات الإيديولوجية السياسية ظلت قائمة بيننا، فقد كنت وفيا دائما لإيديولوجية حزب الشعب، وهي ايديولوجية وطنية تقدمية، واضحة في انتمائها العربي الإسلامي، وهو انتماء مؤسس على ضرورة الارتباط بكتلة جهوية متماسكة، تساعد الجزائر في تحقيق استقلالها، والحفاظ على كيانها بعد ذلك في محيط دولي معاد في الغالب.
وكانت منطقة الأوراس في البداية حاملة راية الثورة، ومشعل العروبة والإسلام، في نفس الوقت، وكنت وشيحاني على نفس الخط، كما تشير إلى ذلك رسالتي المحجوزة في معركة الجرف. غداة الاستقلال التقيت آيت أحمد سنة 1963 لقاء عابرا، لتجمع بنا ثانية حصة التلفزة الوطنية، بمناسبة عيد الثورة سنة 1990.
(1) الخائن الذي اشتهر ناحية عين الدفلى باسم "كوبيس" أثناء الثورة (1954 ـ 1958)
(2) كان بن بلة قد خلف يومئذ لفترة قصيرة بودة على رأس لجنة التنظيم للحزب.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 04/07/2012
مضاف من طرف : aladhimi