الجزائر

كلمة عن ''نادي الترقي'' بالجزائر العاصمة..‏



كلمة عن ''نادي الترقي'' بالجزائر العاصمة..‏
تنحنح بهدوء وأدب، واقترب من الطاولة الموضوعة على المنصة، ولم يحدق في الحاضرين، بل أسبل عينيه كأنما هو يسأل الله أن يكون في عونه، ومضت بعض الثواني وهو على هيئته تلك، ثم قرب راحتي يمناه ويسراه من أذنيه، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وغرقت القاعة الفسيحة في صمت مهيب.
كان ذلك هو الشيخ المقرىء عبد الباسط عبد الصمد في شهر رمضان من عام ,1967 وكنت ضمن الحاضرين لأنني كنت متعودا على الاختلاف إلى ذلك المكان منذ مطالع الصبا، وبالذات، منذ عام ,1953 حين تلوت على الحضور مقطوعة أدبية وطنية في نطاق النشاط الدراسي، وكان أن عادت بي الذاكرة إلى الوراء، وإلى الناس الذين كانوا يختلفون إلى تلك القاعة، وهم في معظمهم من مناضلي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
انطلق صوت الشيخ عبد الباسط بالتجويد، ولست في حاجة إلى أن أصف ذلك الصوت لأنه يدخل في قلوب المنصتين إليه دونما عناء، وكل واحد يتلقاه على سجيته وعلى هواه.
أذكر أن الشيخ الذي كلف بتقديمه على المنصة قال ما معناه: يجلس إلى يميني مقرىء يعرف العالم أجمع صوته العذب، فأنصتوا إلى القرآن الكريم لعلكم ترحمون! وسكت عن الكلام لأنه شعر بالعجز عن تقديم أي وصف آخر.
كان نادي الترقي الواقع بالعاصمة في ذلك الزمن البعيد، ومنذ بداية الثلاثينات من القرن الماضي قبلة جميع من يحبون العربية وينظرون إلى وطنهم بعين التقديس، كيف لا وهو يضم صورا للشيخ عبد الحميد بن باديس ولعدد من المناضلين الجهابذة الذين كانوا يتحركون في كل جهة من جهات الوطن لتوعية الناس بدينهم وبشؤون وطنهم وبضرورة الصمود في وجه الاستعمار الفرنسي؟
عندما انفض ذلك الحفل القرآني البهيج، خرجنا في صمت، لا يجرؤ أي واحد منا على التعليق، وما كان أشد دهشتنا حين عجزنا عن الهبوط من السلالم الضيقة المفضية إلى ساحة الشهداء، إذ أن الناس كانوا قد تجمهروا في كل مكان وقد أولوا آذانا صاغية لصوت المقرىء عبد الباسط، ومر الشيخ تحت أنظار الجميع مسلما عليهم، محييا البعض منهم بالمصافحة، ولولا أن الجو كان رمضانيا، لاقتربوا منه رافعين إياه على أكتافهم، لقد عاشوا مع صوته في الإذاعات العربية والإسلامية، وسبق له أن رافقهم خلال حرب التحرير فشد من أعضادهم جميعا وجعلوا منه نموذج المقرىء الذي ينبغي الإنصات له على الدوام.
ومررت قبل أيام بالقرب من نادي الترقي فما آنست فيه تلك الحركة الثقافية الرائعة التي ازدان بها في غابر الأيام، وقلت حينها في نفسي:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس، ولم يسمر بمكة سامر!
أتمنى أن يبادر أحد الطلبة إلى إعداد أطروحة عن هذا المكان الجليل، بدءا من عام ,1931 تاريخ إنشاء جمعية العلماء المسلمين، لكي لا يلقى نفس المصير الذي آل إليه معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة وغيره من أماكن العلم التي سالت وراءها دماء ودماء إبان العهد الاستعماري البغيض، حقا، هذا النادي جدير بأن يلتفت إليه الباحثون والمؤرخون.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)