الجزائر

كلام آخر اعترافات مهزوم!



 قال درويش في إحدى قصائده الجميلة: إني اعترف وسأعترف بجميع أخطائي وما اقترف الفؤاد من الحنين.. ليس من حق العصافير الغناء على سرير النائمين.. والإيديولوجيا مهنة البوليس في الدول القوية..
من جهتي، وأمام ما يتكرّر في حياتي منذ أربعة عقود على الأقل، ويتكرّر هذه الأيام في مشهد سريالي لمسرحية ''بايخة'' ومُعادة مرات عدة، أعترف أنني من جيل عاش أحلاما كبيرة، وهُزم هزائم كثيرة.
نعم حلمت يوما أن الثورة حرّرتني وأبناء وطني من الاستدمار، وحلمت أنها ستحرّرني من التبعية في لساني وغذائي وملبسي.
حلمت أن بلدي لن يعرف الانقلابات، ولن يعرف الطغيان، لن يعرف العنف والاغتيالات، ولن يعرف المعتقلات والاعتقالات.. حلمت أن الثورة التي أنهضتني منصورا، لا يمكن أن تفجعني يوما وأكتشف أنني مهزوم..
حلمت أن شعب بلدي لن يجوع، ومؤسسات بلدي لن تباع، فالثورة أنشأتها والعدالة غايتها..
كنت من الذين ''يَتَسمَّرُون!'' أمام الشاشة الصغيرة عند كل خطاب لبومدين.. ومات الزعيم فبكيناه ونحن طلبة كما لم نبك حتى أحبّ أحبّ الناس إلينا.. واكتشفنا بعد موته أن الإنجازات فقعّات، وأن الصناعات التي تغنّينا بامتلاكها ليست سوى أدوات دفعنا فيها المليارات وتحوّلت بعد سنوات لخرداوات.. بحثنا عن المؤسسات فلم نجد سوى أجهزة وبيروقراطيات.. قصب هياكلنا وعروشنا قصب قال درويش..
قبل أن يتحوّل الحلم إلى كابوس حلمت أن الديمقراطية والإصلاح ستحميني من الهزيمة وتحمي الثورة من الانكسار.. واكتشفت أن عصب المال والجاه أقوى من المؤسسات وأقوى من الناس.. فغُدِرت في الثورة ثم غُدِرت في الديمقراطية.. لا نلت ديمقراطية اجتماعية ولا ديمقراطية ليبرالية.. ضاعت المكتسبات واغتِيلت الأحلام..
نعم أفقت لأرى المؤسسات مفلسة، والديون متراكمة، والمصانع بالية، والأرض بوارا، والثقافة فراغا، والذاكرة خاوية والسلطة غاوية، والديمقراطية هاوية، والإسلام فرقة، والوطنية تجارة، والاشتراكية وهما، والليبرالية وحشا بلا مشاعر..
أفقت، وإذا صندوق النقد مرجعي، وهو مُطعمي ومفقري.. أفقت لأرى أن فرنسا ما زالت تعتقل بن بولعيد وتغتال بن مهيدي.. أفقت وإذا فرنسا في كل دار وحاضرة، في كل قرار، وإذا الشعب مكبّلا محتارا.. وإذا بي عاجزا منهارا.. أفقت وإذا الرشاشة تغتال الكلمة، والدم ينتصر على الأمل..
مع ذلك قلت الحاكم وطني: إن فشل فلن يحرمني حق علاج فشله، وإن انهزم فلن يحرمني حق المقاومة بطغيانه، وإن كبّل البلاد بالديون فلن يتّهمني بأنني المبذّر، وإن تهاوت المؤسسات فلن يحمّلني مسؤولية ذلك، وإن أصبحت خزائن الدولة خاوية فلن يأخذ من جيبي الفارغ.. لن يكبّلني ولن يقمعني ولن يزيد لهزيمتي مآسيَ أخرى. وأن أبسط ما انتظره منه هو أن يحرّرني من أعدائي.. ولكنه تمادى في غيّه.. حرر أعدائي في الداخل والخارج وكبّلني.. كبّلني وحرّر التجارة وعصب المال والجاه، كبّلني وحرّر الأسعار، كبّلني وحرّر تجار السلع والذمم..
وأفيق على الانفجارات والاغتيالات وعلى القهر والترهيب.. وأفيق لأرى الجوع ينتشر والفقر يكبر والظلم يتبرّج.. أفيق وإذا الناس بطونهم خاوية وأعينهم معصوبة وأفواههم مكمّمة وأيديهم مكبّلة.. ترعرعت فيَّ الثورة، لكنني أحترم الدستور والقانون، حتى وإن لم يحترمه السلطان وحاشيته، وحتى وإن تجاوزه ''حماة القانون!!''.. فإذا أخطأ الإمام فلا ينبغي تدمير المسجد على من فيه.. ولكن مشكلتي ازدادت تعقيدا حين اكتشفت أنني لا أستطيع إصلاح حاكمي الفاسد ولا تغييره، وأن كل ما أعطاني هو الحق في أن ألومه..
حلمت وحلمت، وأفقت على سلطة تعبث بالدستور، تقيم قواعد لا تطبّقها، تعد ولا تفي بوعودها، تقرّب المفسدين وتؤثّث بهم مؤسساتها، تنحاز للمال والقهر وأصحاب الجاه والتجارة..
وهكذا الثورة التي حلمت أنها ستحررني اغتيلت أمام أعيني وعجزت عن صد الجريمة.. والديمقراطية التي حلمت أنها ستعيد لي حق التكفل بحالي وبمشاكلي ومواصلة نضالي، اغتصبت مني وعجزت مرة أخرى على حمايتها أو إنقاذها، وبعد كل هذا ما زال السلطان حتى اليوم يعدني أنه سيحل مشاكلي نيابة قصرية عني.. سيعدّل لي مرة أخرى الدستور، بل وقانون الإعلام وقانون الانتخابات، وغيرها، وغيرها من القوانين التي وضعها، أو عدّلها وتلاعب بها وأفرغها من أجمل ما فيها.. حينها أدركت أين هي مشكلتي..!!

mostafahemissi@hotmail.com


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)