أحداث ورقلة، غرداية، البيض، تيڤنتورين ثم أخيرا النزاع الدموي بين القبائل ببرج باجي مختار، كلها راحت من جديد تحفر في يوميات الجزائري لتنخرط ضمن لعبة الميديا المتوضعة في فضاء الوجه المتعدد، الإيجابي والسلبي، المحرر والمقيد، والمنشىء والمدمر لحركة العولمة باعتبارها لحظة تكثيف وتوزيع للدلالات على الساحة الدولية من حيث الفعل المادي وتداعياته المتشابكة وفيضه الرمزي وما يتبعه من إدارة الصراع على السلط والسيطرات..وفي الجزائر ظلت واجهة الصراع على السلطة وإعادة تشكيل مناطق السيطرة والنفوذ محصورة في المخيال الجزائري على الدائرة المركزية الممثلة في واجهة الشمال، بينما ظل الجنوب يشكل داخل مناطق المخيال الجمعي دائرة شبه مهملة، شبه منسية، شبه مجهولة وشبه لا تاريخية ولا تظهر إلا في لحظات محددة تحكمها متطلبات الخطاب السياسي العابر التواق للشملنة والجمعنة ذات البعد الأحادي المعيد لإنتاجية "اللوغوس" الوطني ذي الطراز اليعقوبي المختزل للجماعة الوطنية في النظرة العصبوية للعصبة المسيطرة وأساطيرها الجديدة التي راحت تتشكل ضمن مأسسة متنامية تتدثر بشرعية التاريخ المقدس "الثورة" التحريرية المؤسسة للوطن الجديد والذي لا يعني في لغتها سوى النظام المهيمن ومنظوماته الفوقية.. وظل ما يحدث في الجنوب مجرد ظلال ترمي بحضورها على الأطراف الداخلية للمعبد.. وفي أحسن الحالات وفي اللحظة الصاعدة للوطنية الشعبوية أخذ الجنوب ملامح صورة تحدث داخل المعبد، لكنها في الوقت ذاته تتمظهر وكأنها بعيدة عن المعبد الوطني وتشكلت هذه الملامح للصورة في التمظهرات الفلكلورية، وفي انبثاق أناس الجنوب في لحظة الزيارة الرسمية للمسؤول الكبير الشمالي إلى تلك المناطق وفي التمثيل الصوري لصوت الجنوب وتحت راية الحزب الحاكم تحت قبة البرلمان.. وحتى عندما انفجرت الأحداث الكبيرة المدوية في أكتوبر 88، كان الجنوب خارج اللعبة، وهذا ما جعل المخيال الجماعي الشعبي ينتج خطابه المازح حول افتراضية قيام المطالب الاجتماعية في الجنوب، فيما الذي يمكن ابن الجنوب أن يقوم به من حرق المنشآت والمؤسسات كالذي قام به شباب الشمال في إعلانه عن امتعاضه وغضبه من السلطات.. فالجنوبي لم يكن أمامه سوى حرق الجمال.. لكن هذا المخيال سرعان ما تعرض لأولى الصدمات عندما راح هذا الجنوب المنسي يجرب بروفته الاحتجاجية داخل السيرورة التي أنتجتها أحداث أكتوبر وما بعدها عندما مارس هو كذلك عقابه ضد الأفلان عندما خرج على طاعة الأخاموخ الممثل الرسمي للسلطة الرسمية وأدلى بأصواته لجبهة الإنقاذ آنذاك، فخلق لحظة البالوتاج، أي لحظة ميلاد قوة احتجاجية صاعدة توسلت في الإعلان عن نفسها بالتصويت على جبهة الإنقاذ، ثم راحت الأحداث تعرف وتيرتها بشكل متسارع عندما تحول الجنوب أو مناطق في الجنوب إلى معاقل جديدة للجماعات الإسلامية التي انخرطت في لعبة العولمة تحت ماركة القاعدة، وبالتالي تحول الارهاب في الساحل إلى فصل جديد من الكتاب الكبير للإسلام المسلح الذي أخذ أبعادا دولية وتوجهات مهددة لأسس الدولة الوطنية الناشئة التي تنازعت قياداتها المجموعات المتصارعة على السلطة.. وكان التموقع الجديد للكتلة الجنوبية كفضاء وكمجموعات سكنية وكدلالات ثقافية ورمزية في هذه المحطة ذات الطرق المفترقة والمصائر المتعددة والمخاطر القابلة للتحقق تحت واجهة عولمة العنف، وعولمة المطالب الاحتجاجية التي قد تتخذ النزاعات الانفصالية وإعادة التدشين الجديد للهوية، وبالتالي إعادة تدشين للمطلبية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.. ومن هنا يكون التعامل الرسمي التقليدي محكوما عليه بالقصور إذا ما لم ينتبه إلى هذا المعطى الجديد ذي التعقيدات والتعابير الجديدة المنبثقة من زمن غير زمن السيادات التقليدية.. المسألة، لا يمكن إن أردنا فهمها، وبالتالي استيعابها والانطلاق منها من أجل إعادة بناء الوطنية على ضوء المتغيرات الكونية الجديدة والتحولات الإقليمية، حصرها على السياسة، بل على أصعدة أخرى، منها صعيد الفن والثقافة، وربما انطلاقا من هذا الكونستا تتبع أهمية العمل/ السبيكتاكل الذي قدمه لنا شباب الأغواط في افتتاح الدورة 46 لمهرجان مسرح هواة المسرح بمستغانم الذي حمل عنوان "سريع الجنوب".
أزمنة نامية وجنوب متحول، أول دلالة لعرض "سريع الجنوب" أن صاحبه المسرحي الكاتب والمخرج هارون الكيلاني، من مواليد 6 أكتوبر 1968، ميلاده رمزيا يختزل حدثين مهمين يندرجان في عملية المطالبة بالتغيير وفي تدشين احتجاج من طراز جديد، وهما ثورة أكتوبر الروسية وأحداث أكتوبر الجزائرية، وثورة الشباب في أوروبا وخارجها عام 1968 التي كانت تسعى إلى التمرد على نظام البورجوازية والحكم البطريريكي..
ويقول هارون عندما سألته عن تجربته المسرحية إنه بدأ بعمل رديء جدا كشاب هاوٍ في 85، وكان يتمنى لو نهض جمهور مستغانم آنذاك وأشبعوه ضربا، لكن هذه البروفة الرديئة في حياته المبكرة حيث لم يكن يتجاوز ال17 من عمره، انفتحت على محطة ثانية عندما غامر باقتباس رواية "الغريب" لألبير كامو التي لم تكن عملا ناجحا بالمقياس الفني إلا أنها كانت الخطوة التي قادته إلى الاشتغال على عرض للمراهقين بمسرح عنابة، وكان هذا الوعي المتنامي لضرورة الذهاب إلى ما وراء الأشياء بفضل صديقه وشيخه الروحي سعيد بن جدو الذي كان شاعرا وكاتبا باللغة الفرنسية، واكتشف هارون وهو على طريق البحث عن الذات ليس فقط كجوهر بل كدلالة شعرية، هجينة ومسكونة بالسؤال المفتوح على الجديد الكامن في بطن ما وراء العادي والمعهود، خاصة مع عمليه في عنابة وسيدي بلعباس، وهما "وادي الخير" و«ماذا سنفعل الآن".. سلالته التي تتشابك مع أسماء جعلت من التمرد الصوفي بلغاته المختلفة التي جعلت من الرؤية المغايرة أساسا في عملية الحفر في الجسد، جسد القول وجسد الفعل المكونين لروح العرض المسرحي.. ومن هنا كان التعاطي مع الزمن على أساس أنه أزمنة متعددة، متحركة، وليس زمنا واحدا، قارا وثابتا.. ويبدو هذا الوعي بجدة الأزمنة وتعددها ظاهرا وواضحا منذ اللحظة الأولى لعرض "سريع الجنوب"، مجموعة من الشباب يقطنون الجنوب، يتسارعون إلى امتطاء حافلة تنطلق بهم من الجنوب إلى الشمال، من الأغواط إلى مستغانم، حيث شمس الشمال وحيث البحر.. وحيث الحرية المفترضة وحيث إمكانية التعارف واللقاء والمغامرات.. سائق الحافلة؟! من الشمال ويبدأ الصراع بين إيه وواه.. معركة اللهجة؟! يقبل شباب الجنوب باستيعاب لهجة الشمال، والشمال هل هو مستعد لاستيعاب لهجة الجنوب؟! على الركح، الحافلة، صورة، قماش، قطعة فنية تحملنا مباشرة إلى اطلاق خيالنا، واختلاق داخلنا رحلتنا الخاصة كجمهور مستعد لخوض المغامرة وتقاسمها مع الممثلين والممثلات.. ثم تبدأ الرحلة التي يقترحها علينا هارون، ليس من وجهة نظر خطية، وواقعية سطحية، بل رحلة مجاز يتشابك مع الزمن الحقيقي ليشكل زمنه الخاص به، زمن متعدد، مليء بالألوان والأصوات ومفتوح على خيميائية الأنواع، نحن هنا أمام شباب من الجنوب مضاد للجنوب الكارتبوستالي، جنوب يلج الشمال ليتحول إلى شمالات ذائبة في جنوبات وذلك بتسول موسيقى الراب، والهيب/بوب ولا يبقى من وجود فصيح ودال، إلا الجسد الطالب للحرية، حرية الحب، حرية اللقاء، حرية الاكتشاف، حرية المغامرة، حرية تجريب الضحك وحرية استعادة أشلاء الجسد المفكك إلى تربة الجسد الغني بتنوعه وجماله ونزقه.. شباب يتجه من الرمل، رمل الصحراء إلى البحر بحيث يتلاقى البحر بالرمل والرمل بالبحر، وكل من البحر والرمل بالإنسان.. هذا الإنسان المدجج اليوم بعالم الفايسبوك والأنترنت والعالم المتحرك بكل خيالاته وأصواته وهوجه وجنونه ورغباته العميقة في علبة سحرية منتجة في أقصى عزلة الفرد لمغامرات من طراز آخر عالم ألف ليلة وليلة.. ضمن تلك السنفونية الضاجة، الصاخبة، الضاحكة يتحايل هارون الكيلاني على الهامش عبر التوظيف المسرحي لثقافة الراب والهيب بوب ليجعل منه قلبا حقيقيا للمركز المتفكك، للمركز المخدوع بأوهامه واستكباره..
لم يعد هذا التوظيف لثقافة الجسد والغضب والفرح للراب والهيب بوب ثقافة الشمال الكبير/ أوروبا، ولأطراف الشمال الكبير الممثلة في الشمال الصغير، ثقافاتهم هم.. بل ثقافتنا جميعا ونحن نستولي عليها مثلما استولوا هم في ذات زمن على خيراتنا وعقولنا وأجسادنا وأوطاننا.. وبالتالي فهذه المقاومة التي اقترحها علينا هارون كيلاني هي دعوة لنا جميعا لاكتشاف باهر وهو تحول الجنوب/ بات. لكنها دعوة في أحسن الأحوال، ليست بالدعوة البريئة، بل هي دعوة شيطانية تغرينا بارتكاب المعاصي، معاصي تخريب ثقافة وايديولوجيا الزمن الثابت، مدعي التفوق ضد أزمنة الحراك وأزمنة الولادات الجديدة التي لا تتوقف أمام أساطير انتصار الموت والسكون التي ينتجها ويعيد إنتاجها سحرة المعبد العتيق..
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 25/08/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : احميدة عياشي
المصدر : www.djazairnews.info