كنوز سيرتا .. لقى أثرية تحفظها أروقة المتحف وغرفه
ينفتح المتحف الوطني سيرتا بقسنطينة، على بوابات تكشف عن تحف ولُقى أثرية أخفتها الأرض لقرون قبل أن تنقذها التنقيبات والصدف، ورغم تنوع المعروضات، إلا أن لبعض القطع خصوصية فريدة لأن هناك من اللقى ما توجد فقط في هذه البقعة من الأرض، أو نقلت إليها من ولاية أخرى، وكلها موجودات تشكل مجموعة متكاملة عالية القيمة.
روبورتاج: إيناس كبير
ووفق رئيس مصلحة الاتصال بمتحف سيرتا عبد المجيد بن زراري، فإن المتحف يمتاز عن باقي المتاحف الجزائرية بعدد مهم من التحف النادرة سواء التي تواجدت في قسنطينة بمدينة «تيديس» الأثرية، أو التي جيء بها من ولايات شرقية، أو التي كشفت عنها أشغال البناء خلال الاحتلال الفرنسي، حيث انجلت طبقات الزمن عن مدن كاملة تؤرخ لحضارات مختلفة، وذكر بأن مجموعة ثمينة من التحف الرومانية نُقلت آنذاك إلى متحف «اللوفر» خلال الاستعمار، لتعمد طمس كل ما له علاقة بالهوية الجزائرية.
وأضاف بن زراري، بأن العدد الهائل من اللقى، فرض على المجموعة الأثرية الأولى إنشاء متحف لحفظها، وبعد الاستقلال حرصت الدولة الجزائرية على تثمين هذا الموروث وإبرازه، و فتح فضاءات جديدة لإعادة قراءة أجزاء من التاريخ الذي كتب بلغة وفكر فرنسيين، و تكريس قراءة جزائرية تبرز عناصر الهوية من خلال مختلف الآثار.
«فوستين» التي تخفي إكسير الحياة الأبدية
استقبلتنا الجميلة «فوستين»، الزوجة الأولى للإمبراطور الروماني «أنطونيو لوبيوس» أو «أنطونيو التقي»، عند مدخل رواق الحياة اليومية لتيديس، أين جمعت أدوات وآثار من الفترة «النوميدورومانية»، كانت تقف شامخة بكامل أناقتها، تلتحف رداء طويلا يغطي جسمها الممشوق بداية من أعلى الرأس، وبحسب الملحق بالحفظ ورئيس مصلحة النشاطات، وليد مرّاد، فإن التمثال الذي وُجد بمنطقة جميلة بولاية سطيف يعد من أجود التماثيل عبر العالم لأن الزمن لم يغيره، فبقي محافظا على هيئته الكاملة، حيث يعد دليلا دامغا على العبقرية الإنسانية و براعة الرومانيين وتفوقهم في فن النحت على الرخام الأبيض.
لاحظنا أثناء وقوفنا أمامه، بأن طيات الرداء تأخذ شكل كل جزء من الجسد، فتأتي دائرية عند منتصف الرأس، فتكشف فوستين عن جزء من شعرها المرفوع، فيما تنسدل خصلات لتتزاحم فوق جبينها الصغير، ثم ينجلي الرداء قليلا ليكشف عن رقبتها و وجهها هادئ الملامح.
ثم يأخذ الرداء الطويل شكل حركة الذراعين فتتقاسم تفاصيله مهمة حماية الجسد، يسقط جزء منه نحو الخلف، بينما يتموج جزء حول ذراعها، وقد بدت الطيات حقيقية بشكل مقنع جدا.
وداخل واجهة زجاجية في القسم ذاته، يعرض عليك «سفينكس» متعة تحرير مخيالك، والتمعن في أجزائه المكونة من جسد أسد مجنح ورأس إنسان، ويؤرخ المجسم للقرن السادس قبل الميلاد وقد استوحي من أسطورة إغريقية قديمة.
وُجد بمدينة «تيديس» الأثرية سنة 1898، ووفقا لرئيس مصلحة الاتصال بالمتحف الوطني سيرتا، عبد المجيد بن زراري، فإن هذا الكائن الخرافي الذي يشبه تمثال أبي الهول في مصر يعد من أقدم التحف الموجودة في شمال إفريقيا، وحسبه، فإن التحفة تدل على مكانة سيرتا في ذلك العصر وامتداد جسورها الثقافية إلى الحضارة الإغريقية والمصرية، و ازدهار الحركة التجارية بها، وأضاف المتحدث، بأن هذه اللقى هي شواهد حية تثبت أن سيرتا واحدة من أقدم المدن في العالم وجودا.
فخار سيرتا الفخم
فيما تضيء المسرجة جناح الحياة اليومية بمنطقة «تيديس»، مصفوفة وفق ترتيب «كرونولوجي» يبرز تطور المصابيح الزيتية عبر العصور، فقد تنوعت أشكالها حاملة خصائص كل مرحلة، من البونية، إلى الرومانية، فالمسيحية، والإسلامية.
وشرح وليد مرّاد، بأن المصباح البوني، كان يتميز بشكله البسيط الخالي من الزخارف وفوهته العريضة، وقد خلد الرومان آلهتهم عبر رسومات و شعارات نقشت على المسرجة، فضلا عن إبراز ولعهم بممارسة الرياضة كما نُقشت على المصابيح المسيحية كذلك، رموز دينية مثل الصليب، الحمامة و السمكة، أما المسارج البسيطة ذات البريق المعدني فتعود إلى الحقبة الإسلامية.
و تعد قاعة الخزف والأواني الفخارية بالمتحف، شاهدة على تطور وازدهار الصناعة الفخارية في الحقبة الرومانية، ومن أهم معروضاتها وأكثرها جودة الأواني الخزفية المصنوعة من الفخار «السيجيلي»، بأسلوب يعكس الكثير من الإبداع والإتقان، وحسب رئيس مصلحة النشاطات، فإن أحد الأحياء الكبيرة بمدينة «تيديس» الأثرية، كان بمثابة مصنع لإنتاج أفخم وأرقى أنواع الفخار الروماني، كاشفا بأن قسنطينة كانت تصدره إلى الدول الأوروبية.
قطعة نقدية واحدة ل «ماسينيسا»
تتوزع داخل الواجهات الزجاجية في قاعة المسكوكات، الكثير من العملات النقدية الأثرية مختلفة الأحجام، و التي كانت تُستخدم في المعاملات الاقتصادية خلال حقب زمنية مختلفة، كما تشير إلى مرور حضارات عديدة على هذه الأرض، منها البيزنطية والوندالية والرومانية والنوميدية و الرومانوبونية كذلك.
يتسيد هذه المجموعات إرث ثمين يعود للملك ماسينيسا، وهي قطعة نقدية صُنعت من البرونز، يحمل وجهها صورة واضحة للملك، كُتب أسفلها «ميسينسن ملك» باللغة البونية القديمة، أما على ظهرها فتوجد صورة فيل، وأوضح الملحق بالحفظ و رئيس مصلحة النشاطات وليد مرّاد، بأن رمزية العملة تعود إلى «حرب زاما» عندما تحالف الملك ماسينيسا مع الرومان ضد القرطاجيين، وانتصر، وقد قيل بأن الفضل في الانتصار يعود لقوة الفيلة التي استغلت في الحرب، وأضاف بأن هذه العملة ذات القيمة الأثرية الكبيرة جدا، توجد في متحف قسنطينة فقط.
خرجنا قاصدين القاعة «النوميدوبونية»، الغارقة في السكون الذي يعكس نوعية المحفوظات، وكانت أهمها بقايا عظمية وجدت بالغرفة الجنائزية لصومعة الخروب، فضلا عن نصب نذرية منتشرة على طول أرضيتها.
وعلمنا من مرافقنا، بأن الحفريات التي قام بها الباحث الفرنسي «بونار» بضريح ماسينيسا سنة 1915، كشفت عن العديد من اللقى، أهمها هذه البقايا العظمية، وأعقب بأن التحاليل المخبرية التي أجريت عليها في ألمانيا بواسطة «كربون 14» المشع، الذي يستعمل في معرفة عمر البقايا العظمية، أثبتت بأنها تعود إلى شخص في الستين من العمر، أما البقايا الأخرى فتعود لطفل صغير، حيث نفى ما تتداوله مصادر عن أن هذه العظام تعود للملك ماسينيسا الذي توفي في التسعين من عمره، وقال بأن دراسات أثرية أخرى رجحت بأنها تعود إلى واحد من أبنائه قد يكون «ميسيبسا»، فيما ذكرت أخرى بأنها عظام لشخصية عسكرية كبيرة في المرحلة النوميدية.
وتعد النصب النُذرية المعروضة في الغرفة بمثابة مكتبة حجرية تؤرخ للقرنين الثاني والثالث قبل الميلاد، وقد أوضح لنا، بأنها كانت تكرس لعبادة الآلهة القرطاجية في تلك الفترة، وأفاد بأن النقوش المنحوتة عليها تحتوي على العديد من المعطيات، التي بينت جوانب من الحياة اليومية لتلك الفترة مثل الجانب العسكري، و الوسائل المستخدمة في الحرب فضلا عن الجانب الاقتصادي، وأردف بأن هذه النصب، وُجدت بمعبد الحفرة في منطقة جنان الزيتون بقسنطينة، أثناء الحفريات التي أجريت هناك سنة 1850، وقد كشفت عن حوالي ألف نصب وأجزاء نصب أخرى، نُقل منها 750 نصبا إلى متحف سيرتا، فيما يحتوي متحف اللوفر بفرنسا على 250 نصبا.
الأسطرلاب قطعة فريدة من نوعها في الوطن العربي
تُبهر قاعة الفن الإسلامي الزائر بالإنتاج الفكري والمادي المتواجد الذي تزخر به، وبالتحديد الآثار واللُّقى التي جيء بها من قلعة بني حماد، حيث أطلعنا رئيس مصلحة الاتصال بالمتحف، عبد المجيد بن زراري، على قطعة فريدة من الزليج محفوظة في خزائن زجاجية مضيئة، مدمجة في الحائط، وقد وُجدت القطعة كاملة في قلعة بني حماد، وأضاف بأن الحماديين برعوا في تصميمها وزخرفتها، إذ كانوا يستخدمونها في تزيين بلاط الأرضيات فضلا عن الجدران.
وكشف، بأن الحضارة الإسلامية أنصفت الجزائر، حيث أكدت على أن الزليج صناعة جزائرية خالصة تعود إلى الحضارة الحمادية، وأردف بأنه توجد قطع أخرى منه في متحف سطيف.
بجانبه تُعرض مجموعة من الحلي الجزائرية داخل واجهة زجاجية، من بينها دبابيس وخواتم وأقراط تزينت بهم المرأة الحمادية، وهي قطع لا تزال تحافظ على شكلها و بريقها وكأن الزمن توقف عندها.
لفتت انتباهنا أيضا، مشمسية متواجدة في القاعة، تتزين بقطع زجاجية صفراء وخضراء اللون، قال لنا محدثنا بأنها كانت جزءا من الهندسة المعمارية لقصور بني حماد، وفي هذا السياق علق بن زراري :» إن التعريف بالتراث يسهل على الإنسان الاقتباس منه، وإعادة إنتاجه للمساهمة في الحفاظ على مقومات الهوية، خصوصا المتواجدة في المتاحف الكبرى مثل متحف سيرتا».
تتواجد في الجهة المقابلة للقاعة الإسلامية، آلة «الأسطرلاب» التي شغلت العالم وحازت على إعجابه، وهي آلة فلكية مصنوعة من النحاس الأصفر، استعملها الفلكيون العرب قديما لتحديد مواقيت الصلاة، فضلا عن الاتجاهات الأربعة، وترافق هذه الآلة أقراص منفصلة.
أخبرنا وليد مراد، بأن لكل قرص مهمة مختلفة، و يوجد منها بمتحف قسنطينة ستة أقراص كاملة، علما أنه لا يتوفر في العالم العربي بأسره سوى نموذجين اثنين من الأسطرلاب، آلة في المتحف العمومي سيرتا وهبتها له عائلة باشتارزي، وأخرى في ولاية تلمسان.
« لوحة الطبيعة الميتة» ألوان عمرها ربع قرن
ختمنا جولتنا في المتحف، بزيارة قاعة الفنون الجميلة، أين عُرضت على الجدران لوحات زيتية لفنانين عالميين، أقدمها لوحة الطبيعة الميتة ذات الألوان الباهتة، التي رُسمت سنة 1634، فضلا عن لوحة فتاة تجلس بكل هدوء فوق غطاء من المخمل الأخضر مطرز بزخارف صفراء، بشرتها حليبية اللون و فستانها حريري تعلوه شارتان مرصعتان بحجارة بيضاء، تلاحقك عيناها بشكل غريب بفضل طريقة رسمهما وفق تقنية ثلاثية الأبعاد، فتبدو وكأنها تراقبك. تعود اللوحة إلى الرسام العالمي «أنطوان غابون»، وقد رسمها سنة 1888.
في آخر المعرض العالمي، علقت لوحة من لوحات المستشرق «إيتيان ديني» تجسد مشهدا لمسنتين جزائريتين، تجلسان القرفصاء مرتديتين اللباس التقليدي، وعن هذه اللوحة قال رئيس مصلحة الاتصال عبد الحفيظ بن زراري، بأن الفنان الفرنسي الذي اعتنق الإسلام واتخذ اسم نصر الدين فيما بعد، هو الوحيد الذي استطاع الحفاظ على التراث الجزائري ومقومات المجتمع في فنه، حيث ألهمته الصور والمشاهد التي عايشها في بوسعادة، فتحولت لوحاته إلى عين على الحياة اليومية هناك، ونمط العيش في تلك السنوات.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 18/12/2023
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : إ ك
المصدر : www.annasronline.com