قسنطينة عاصمة للتاريخ
بقلم /الحسين يختار
مهتم بالتراث الإسلامي - مستغانم
لما حل الورثلاني بقسنطينة عام 1118 هـ ، وكان رحالة شهيرا، صرح أن هده المدينة سراجها لم ينطفئ مند عهد إبراهيم الخليل عليه السلام ، و الغرابة التي قد تبدو للوهلة الأولى سرعان ما تتلاشى كلما اقتربنا من زخم الدراسات االعلمية والأكاديمية المشفوعة بركام الاكتشافات القديمة والحديثة التي اتخدت من الحفريات والنقوش وبقايا عظام الحيوانات والاواني بكل من مناطق أولادرحمون وهضبة سيدي مسيد والمنصورة وجبل الوحش وكهف الأراوي مادة وشاهدا وبرهانا على عمق الحضارات التي توالت على المدينة وأن الإنسان قد عمرها قبل مجيء البونيقيين–زمن العصر الحجري الرابع – وأما بعدهم فكان للحضارة الميغاليتية دلائل على وجودها بالمدينة ، لاسيما أن الباحث الفرنسي دبريج اعتبرأن :المقبرة المكتشفة بشارع الهوا تعود إلى عصور ماقبل التاريخ وأن الأواني الفخارية المكتشفة تعود إلى الحضارة الميغاليتية.
وقد أطلق على قسنطينة في مرحلة متقدمة من الزمن ''قرطاجة الثانية '' كما أطلق عليها - فيما بعد - 'سيرتا 'التي تعني '' المدينة ''.
ولما انهزم صيفاكس ملك البربر بمكان قريب من قسنطينة أمام النوميديين اتخد ماسينيسا من سيرتا عاصمة سياسية وثقافية في آن واحد، وأقام بها قصرا عظيما وخص به جناحا للإغريقيين الدين كان ماسينيسا شديد التأثر بفلسفتهم محبا لفنونهم وكانو ا هم ايضا أكثر الناس إقبالا على سيرتا أثناء المواسم وخارجها لعرض المنتجات الفكرية و الفنية وإقامة الحفلات.
ومعلوم أن نوميديا عمرت طويلا هناك ، واستمر الحكم بها إلى زمن الملك يوبا الأول نجل القائد المحنك يوغرطة ،ثم شقيقه يوبا الثاني الدي احتل الرومان على عهده المدينة وأطلقوا عليها الإسم الدي عرفت به إلى اليوم 'قسنطينة ' ودام وجودهم إلى غاية الفتح الإسلامي ، وكان للحماديين تأثير بارز بالمدينة بعد أن تأثل سلطان الفاطميين ، ومن الآثار الجليلة التي خلدوها بها قبل انهزامهم على يد الموحدين ، المسجد الأعظم الذي تم بناؤه عام 1136معلى يدآخر الأمراء يحي بن عبد العزيز .
وبسقوط دولة الموحدين ، خضعت قسنطينة إلى حكم الحفصيين حتى عام 1547م أين صارت عاصمة للإيالة الشرقية للدولة العثمانية .
ومع أن الدراسات التاريخية و الأكاديمية الدي حظيت بها مدينة قسنطينة لم تسعفنا إلى تحديد دقيق لعمر المدينة أو تاريخ تأسيسها وتركت الجدل قائما حول هذا الموضوع ، إلا أنها استطاعت - بمقارباتها - أن تلمح للأذهان أن معالم الحضارة والعمران ظلت - ولقرون من الزمن - راسخة و شامخة في قسنطينة وأهلها ، متأصلة ومتسلسلة في كل حلقات تاريخها .
ولم تكن قسنطينة بمنأى عن النشاط الإقتصادي والإجتماعي الذي عرفته مدن الجزائر خلال الوصاية العثمانية ، وقد بذل كل من الأستادين القديرين أبو القاسم سعد الله وناصر الدين سعيدوني جهودا مشكورة في الإحاطة بتراث المدينة وأعيانها وأعلامها خلال هده الفترة على الخصوص ،كما كان للباحثين الكريمين جهيدة مقروس ورشيد بورويبة وغيرهما من الأكادميين جهودا لا تنسى في ابراز جميع المراحل التي مر بها تاريخ المدينة .
وانتعش النشاط العلمي والثقافي بقسنطينة خلال حكم العثمانيين على نحو المستوى الذي كانت عليه الأسر القسنطينية المعروفة والعريقة والتي تقاسمت الزعامة الاجتماعية والدينية بالمدينة عند نهاية ولاية الحفصيين وبدايات الحكم العثماني ممثلة في الباديسييين الذين استقروا بالناحية الغربية من حي الطابية وكان الشيخ سيدي عمر الوزان الدي عاش في الفترة من 1500 – 1558 أحد أبرز هده الطائفة وكان من أهل السلوك والزهد والإنقطاع ، ومن الروايات التي سيقت في شأنه و مناقبه أن الخضر عليه السلام قد زاره بقسنطينة وأمره بالإشتغال بالحديث فصار ببركة ذلك أكبر حفاظ عصره.
و أل عبد المومن الذين كان لهم مسجد خاص باسفل المدينة بحي باب الجابية حيث الشيخ سيدي محمد بن عبد المومن .
وآل الفقون المستقرين بأعالي المدينة بجوار الجامع الكبير بالحومة المعروفة ببطحاء أولاد سيدي الشيخ.
و لايزال أحفاد كل هؤلاء قائمون بالمدينة وخارجها .
و عرفت قسنطينة حكم بايات صلحاء من الأتراك على غرار الباي أحمد القلي الدي استرجع السلم والإستقرار بالمدينة ،والباي حسان بوكمية الدي أمر ببناء مسجد سوق الغزل ،والباي حسان بوحناك الذي أسس مسجد سيدي لخضر ودفن به تنفيذا لوصيته
والبا ي رجب شعبان الذي أسس مسجد رحبة الصوف ودارا لزوجته عزيزة بالجزائر العاصمة
غير أن المصادر التاريخية تجمع على أن صالح باي هو أصلح البايات بالشرق الجزائري على الإطلاق ، و لاتزال ذريته باقية إلى اليوم ، وأنه كان رجلا فاضلا حتى 'طابق إسمه مسماه 'على حد نعت الشريف الزهار في مذكراته ، مضيفا 'أنه كان يرفق بالرعية ويحسن للفقراء محبا للعلماء والصالحين '.
وكانت له أعمال جليلة منها أنه بنى جامع سيدي الكتاني من أمواله الخاصة وجعل سواريه من الرخام و مدرسته وخصص بها بيوت للطلبة الداخليين ورتب لها جرايات وأوقاف ضخمة وجدد بناء الجسر الروماني الشهير بقنطرة الهواء وجلب لهذا الغرض نحو 100بناء أوربي يوجههم ويشرف عليهم مهندس إيطالي، و جمع حوله صلحاء الناس وخيرتهم من الوزراء والباشاوات فاستوزر محمد بن كوجك وقرب إليه العلامة محمد بن جلول وكان من وجهاء المدينة ومشاهيرها المشهود لهم بالفضل والصلاح، وجعله كاتبا ثانيا له واستأمر أحمد نعمون على الأوقاف الذي خلفه ابنه محمد نعمون وكذلك فعل مع الحاج أحمد بن لحرش والحاج مسعود بن زكريا وابن حميدة بن ستورة وغيرهم من أمثال هؤلاء.
وظهر بقسنطينة علماء أجلاء وأدباء مجيدون وفقهاء قل نظيرهم في الدنيا أمثال ابو محمد بركات القسنطيني المتوفى عام 982هـ والأديب المحدث عمار بن شريط 1250هـ والمؤرخ الكبير ابن قنفذ صاحب ''الوفيات '' والأستاذ عمار العربي المتوفى عام 1251هـ قال عنه أحمد توفيق المدني 'من أرق شعراء عصره ومن أكابر العلماء تولى خطة الإفتاء بقسنطينة ودرس بمدرسة سيدي الكتاني ' ، وقد تجد عائلات برمتها اشتهرت بالعلم والورع: على غرار الباديسيين الذين قال عنهم فايسات ' من أشهر البيوت القسنطينية وأقدمها' ونعت 'أفراد هده العائلة بالتقوى والورع والتبحر في العلم' وكان منهم الاخوان عبد اللطيف ال مسبح مفتي الحضرة القسنطينية وأبو العباس أحمد الذي كان من أشهر المدرسين بها
وقد نقل روكاي عن فايسات أن مساجد قسنطينة كان تعدادها عند بداية الإحتلال نحو مائة مسجد بمافي ذلك الزاوية التي أسسهاالشيخ سيدي محمد التلمساني عام 1040هـ و حولها المستعمر إلى معبد يهودي بإيعاز من المعمرين الأوربيين .
و وصف الرحالة الألماني هيبوليت الذي زار قسنطينة في مارس من عام1832 م مساجد قسنطينة بانها كانت جميلة ومزينة من الرخام الرفيع – المرمر –
كما وصف : قصر الباي الواقع وسط المدينة الذي تتوسطه شجرة السرو الضخمة التي هي بمثابة سارية للعلم وهو يتميز بقرميده الأخضر وبيوته الكبيرة المتصلة ببعضها '
ومن الملاحظات التي سجلها روسو – أحد ضباط الإحتلال الفرنسي - أثناء تجواله بقسنطينة وجود مؤسسات تعنى بتسيير الأوقاف ورعايتها على النحو الذي عرفته القصبة بالجزائر، على غرار مؤسسة الحرمين الشريفين ومؤسسة سبل الخيرات ومؤسسة أوقاف أهالي الأندلس ومؤسسة الشرفاء هده الاخيرة التي اتخدت من مسجدي بن مناد وسيدي الشريف مركزا لإدارة أوقافها .
وكان بقسنطينة مكتبات ضخمة ، اندهش لغناها حتى الكتاب الفرنسييون أنفسهم ،و صرح شارل فيرو بأن الكثير من العائلات القسنطينية كانت تحتفظ بمخازن من المخطوطات ، وكتب أبو القاسم سعد الله أن '... بربريجر قد رافق الحملة على قسنطينة وأخذ يجمع المخطوطات من المساجد وغيرها ، ومن أيدي الجنود ، بل حتى من الشوارع ، وقد جمع حسب التقارير مايزيد على ثمانمائة مخطوط وعاد بها إلى مدينة الجزائر .....ومن بين هذه المخطوطات مجموعة من الكتب للرياضيين الإغريق ومجموعة أخرى من علوم الفلسفة والطب وغيرها استفاد منها الفرنسيون فائدة عظيمة '.
واتفق ثناء الواصفين لقسنطينة بماحباها الله وخصها به،فلما حل بها أبو عبيد البكري منتصف القرن الهجري الخامس رأى بها اسواق جامعة ومتاجر رابحة .....'
و أثناء عودته من طرابلس وتونس وجد بها الرحالة الورتلاني: 'أسواق كثيرة ودكاكين طيبة ومساجد للجمعة نحو الخمسة وبعضها في غاية الإتقان .....'
و يبدو أن الحسين الوثلاني كان اكبر المعجبين بها لما رآها :'واسعة الارزاق كثيرة الارتفاق ممدودة الإنفاق كثير فيها اللحم والسمن والقمح والتين ماأحسنها من زرع ودرع وضرع تأتيها القوافل من كل النواحي قليلة الفواكه كثيرة المزارع محصنة ..'
هذا الذي جا ء في منثور الكلام، وأما منظومه وقافيته فقيل :
كم فقير أتاها و هو مكتئب فصار يزمل في جمع الحلل
كم فيها من عالم لعلمه ضربت من الأفاق أكباد الإبل
بلدة شمس السعود فيها طالعة والعز عن أرضها ليس بمرتحل
واجتمع لاهالي قسنطينة حسنات الدنيا والدين ، وعلاوة على الثقافات التي ترسبت في حياتهم الفكرية وطبعت علاقاتهم الإجتماعية نتيجة توارث الحضارات جيلا عن جيل ، كان للقسنطينيين شأن فرض نفسه في سجل المحافل الخالدة ، تجلى على الخصوص في صمودهم العظيم والإستماتة في الدفاع عن المدينة منذ بداية الإحتلال ، الأمر الدي دوخ قادته الفرنسييين ولم يجدوا له مسوغا غير التعصب الديني الدي وسمهم به 'روسو ' في تقريره الصادر عام 1838م .
وقد أنصف التاريخ الحاج أحمد باي بوصفه بطل المقاومة بالشرق الجزائري وكان من أذكياء العالم في وقته ، كما كان من الفرسان المشهورين ومن الصيادين المهرة .
و تشير الروايات التاريخية أن ' الحناشة ' كانت تتكفل بتوفير نحو 2000 من عظماء جند الفرسان المجهزين وكانت من أشهر القبائل التي شاركت في الدفاع عن إقليم قسنطينة وأحوازها.
كما كان لكل من أولاد بن قانة وأولاد بوعكاز دور بارز وفعال، فقد كانت الأولى من أخوال الحاج أحمد باي ، وكانت الثانية من أشياخ العرب بإقليم الشرق الجزائري.
والخلاصة ان هذه السطور هي قطرة من بحر ليس إلا ، وأن الحديث عن قسنطينة وماضيها ومآثرها هو حديث في حد ذاته عن تاريخ الشعوب برمتها وحضارتها ،وليس كبير بأن تصبح قسنطينة عاصمة للثقافة العربية فهي بماذكرنا جديرة بأن توصف عاصمة للتاريخ كله في جميع الأحوال والمناسبات.
انتهى
تاريخ الإضافة : 15/12/2014
مضاف من طرف : aziz27
صاحب الصورة : الأستاذ الحسين يختار