الجزائر

قراءة تأويلية في رواية «هجرة النار» للكاتب الجزائري محمد بن زخروفة


عتبة العنوان:
«هجرة النّار»، جملة اسمية من مبتدإ معرّف بالإضافة، وخبر مقدّر مفتوح على التأويل والرؤيا، فالنار تهاجر مع الريح ومع الحركة؛ إذ كلّما هزّها التيار كلّما هاجت وثارت وازدحمت ألسنتها، فأيّها يصّاعد أكثر وأيّها تقبره الفضاءات الضيّقة...؟ هجرة الاحتراق إلى الاحتراق، وهجرة الأمل الغامض، مختفِ خلف سياجات النبوءة.. ثمّ ماذا أيّتها النار؟ كيف يتوهّج الرمل وقت الهجير فينصهر مع ذهب الآسيرام والآهقار الشاهق؟ يذوب العسجد مع حرارة بطن النار؛ نار الترقب والتغيير من حال إلى حال..
«هجرة النار» عنوان رواية، والأرجح أنّه يخبرنا، وهكذا يمكن تقدير الجملة على أنّها مضاف ومضاف إليه في محل رفع خبر، لمبتدإ محذوف، يحدّده التأويل. فتقدّر الجملة: هذه هجرة النار، أو أيّ تقدير اسميّ يناسب السياق، لأنّ الهجرة تحمل إمكانية العدوى أو الإصابة بجنس ما أصبنا به غيرنا مثلا، كما تحمل إمكانية الشرّ الذي لا يرتكن إلى السكون أو المكان الواحد، فيهاجر وينتقل...وهكذا تكون عتبة العنوان توضيحا وإخبارا.
لماذا النار؟ :
هل يجوز فعلا الحديث عن نار مهاجرة، أو هجرة نارية؟ النار لا تملك أيّ مشروع روحيّ غير توهّج قلب الإنسان، فحرائقها لا تشفع لها، وهي على الأرجح امتياز جماليّ على الأرض فحسب؛ إذ كلّما اصّاعدت قلّ لسعها وهي غالبا لا تكترث بما حلّ بكلّ المحيطين بها. قد تكون النار نبوءة، وقد تكون دون أيّة نبوءة، فالقلب مركب الهجرة (أبكمت الدهشة لسانه فكان نفَسه المتصاعد كزبد البحر لا يعلو لمنفعة ولا يغنيه في مطلبه ولا يسعفه في انكساره، أخذ يتخبّطّ في مكانه وقد تناثر الجمر من حوله، أحسّ وهو في غشاوته بيدين تقوّمان ساقيه ثمّ تجرّانه، كان صراخه ينحدر عميقا داخله وظلّ يغور ويغور من غير أن ينبلج من شفتيه، فجأة استقرّ بدنه، ثمّ ضُمّت ذراعاه إلى جسده وتأبّطهما جسمان متصلّبان وأخذا يرفعان جسده ثمّ يسحبانه إلى الخلف إلى أن أسندا ظهره إلى جسم صلب)
بين ضدين فأكثر، لعبة الصمت والصوت:
فالنار هي الثورة والاحتراق، وهي الغضب والدفء، وهي اللون الحارّ المتدرّج في رحلته إلى الأعلى إلى ما لا نعلمه...
يقف الفقر كرجل قويّ مفتول العضلات، متحديا نار الاحتراق والاختراق، على مساحة تتناسل منها المعادن النفيسة، والثروات الخام، وشعب يبحث عن لقمة يسدّ بها فاقة مفتعلة، ويكتفي بسطح الأرض الصحراوية، بينما تتحكم بارونات التنقيب عن المعادن الثمينة فيما هو غائر غير مرئيّ، وبين الكشف والمواراة voiler /dévoiler تتمّ السياسة لعبتها المتقنة في التجسس، إلى أن يحتدم الصراع حول هدف واحد؛ جبل من الذهب..
) في كلّ زيارة يتّضح لي أنّ الهواء صار أثقل من ذي قبل، والأنفاس تتردّد حارّة في صدري ما ينمّ عن ضيق واختناق، وكأنّ الأرض تحبل بثقل ما، وما أظنّه غير كنزنا الموعود، اختلط عليّ الأمر زمنا طويلا، ولو كان شيخي آمالو حيّا لعاتب بطء سعيي، لكن لا أودّ أن أجرّب سقطته يوم انتكاسته وقد فسد هدفه، يوم لم تحفل مخطّطاته إلاّ بالتّيه والخراب لجسده وعقله، سحره العظيم وقرابينه الكثيرة أفسدها افتقاره للحكمة)
«هجرة النّار»، رواية ملغزة، تحيلنا إلى كشف مأساة سكّان أقصى الجنوب الجزائري، الذي يتماسّ مع الجهة الشّمالية لدولة مالي، تلك المساحة التي يزخر باطنها بأجود الخامات وأنفس المعادن...، بيد أنّ فوق سطحها يعيش شعب بدائي لا يتوّفر على أبسط ظروف العيش، رغم هذا تصبح هذه المنطقة مسرحا لصراع جماعات مختلفة حول الذّهب، جماعات تختلف سياساتها غير أنّها تتطلّع ناحية هدف واحد...، وتتكاثف الصّراعات ساعة ورود أخبار سرّية تقول أنّ المنطقة تحوز جبلا من الذّهب، إلاّ أنّ الوصول إليه غير واضح، إنمّا يتقيّد بحسابات تخرج عن نطاق العقل البشريّ...، يصبح الوضع متأزّمنا بالنّسبة لأهالي المنطقة الحدودية، خاصة مع اختفاء غريب لعناصر منهما، تطال يد التجريب والتخريب من قبل العصابات أرواح هؤلاء المعزولين عن العالم...، بينما يظهر أنّ تلك الصّراعات كانت مفتعلة من قبل شخص واحد يحلم ببلوغ هدف – دون جبل الذّهب-، كما سيتّضح للقارئ في آخر النّص، هذا بعد متابعة مسار كلّ جماعة، إلى غاية انكشاف جبل الذّهب.
(في لحظة انخفض فيها وهج النار، أحنى ظهره وانهمك في تقليب الأعواد المجمرة، زحف إلى أذنه صوت مريب، ثبت في مكانه يترصّد موضعه، ثمّ رفع رأسه ومدّ بصره يفتّش بين ستائر الظلام.)
@ مع هذا الوهج تخاف الحواس من أيّ صوت قادم، فتهيج خلايا البحث عن المجهول في حلكة الأقبية، تحاول استنطاق كل زوايا المكان...ثم تسأل نفسها: يا ترى هل هناك شبح أم هو طيف إنسان؟
(لحظتها تراءى له شبح يمتدّ ظلّه أمامه، زمّ عينيه جافلا متصلّب القوام، ثمّ سكن الظلّ على رأس ضخمة أمامه، وبدوره سكنت بؤبؤتاه في محجريهما مستكينا، سقطت السّيجارة من بين شفتيه المرتجفتين، كزّ على أسنانه وارتعدت أصابعه حول أطراف العيدان المجمرة، في طرفة عين أغمض عينيه وسحب عودين من المجمرة ودار قائما حول نفسه وهو يمدّ ذراعيه، لكن محاولته تلك في إصابة الشبح لم تكن إلاّ دورات فاشلة كادت تقذف به وسط المجمرة، دارت من حوله الدنيا المظلمة وارتطم جسده بالأرض، ثمّ فتح عينيه على لكمة أصابت ذقنه فطرحت رأسه أرضا، انقطع عن وعيه لحظات ثمّ عاد، فتح عينيه هذه المرّة على غشاوة وضحكة مروّعة، أخذ يفرك جفنيه ثمّ يعيد عصرهما، فتجحظان على صورة معّتمة، وعادت الضّحكة المروّعة تملأ المكان وتتسللّ إلى مسمع الحاج عمير في بطء شديد فتخزه وترعد مفاصله).
إنّه صراع الذات مع ذاتها، في اكتشاف المجهول، فالحاج عمير بقي كالمريد يدور حول نفسه وهو يقابل ألسنة النار المتظية بين الفضاء ولون عينيه اللامعتين وخوفه الشديد من وجود الآخر/المطارد له، الملاحق لحلمه أو أحلام غيره من الفقراء... كيف سأنجو؟
@ من سيبكي الأجساد الباردة؟ :
وقت الحصار أو الاختناق، يأتي نذير الشؤم ويذكرك أنك الوحيد الذي يمكنه إنقاذ نفسه من الوحل، ومن غيابات الظلام ومن أي عائق قد يجعله في خطر، هرب عبّا وترك الحاج عمير يواجه مصيره، فكل من لامس جسد قال إنه مات؟ فهل فعلا مات عمير أم أن وجوده كان أكبر من جسد بارد... (ختم عبّاس كلامه واستدار يحمل رجليه على خطى ثابتة إلى أن ابتلعه الظّلام، فيما بقي الحاج عمير في مكانه متهالكا عاجزا عن الكلام والحركة، غير تنهيداته التي تعلو بنفس مشفق، ثمّ غثت نفسه على تموّج الموجودات من حوله، والبياض الذي صار ينضد بعينيه، فغربت عيناه خلف أجفانه المجهدة وغاب عن وعيه. وهو على هذه الحالة حفل النّاس صباحا حوله وتكاثر حشدهم بعد الصّيحات التي أطلقها الوافدون إلى المكان، انتشل الرّجال جسده من الطّين و غُسلت يداه ورجلاه بماء دافئ، ثمّ وضع الجسد المتهالك فوق صوفية جاء بها القماشيّ، فصاح أحدهم بعدما تحسّس جبهته: جسده بارد ! الرّجل مات... الرجل مات ! ولا عيال تركها لتبكيه).
الصمت أحد مهاوي الكلام:
«ما لا يُقال ينبغي إسكاته !» هكذا ختم المنطقيّ/اللغويّ فتغنشتاين أحد كتبه، لكن هل السكوت هو الوجه الوحيد للصمت عند الإنسان؟ متى يهاجمنا الصوت ليعبّر عمّا سكتنا عنه. يعدّ المسكوت عنه آلة كلاميّة خطيرة جداّ في نظام الخطاب داخل دولة الملّة إلى نهاية القرون الوسطى، فالمسكوت عنه كان جزءا لا يتجزّأ من مساحة المنطقو به، ولا معنى له إلاّ بالنسبة إليه وهذا حسب فتحي المسكيني، كما أنّ المجتمعات تغيّر مساحة المسكوت عنه بقدر ما تغيّر من نفسها، وربّما ما دمّرته الحياة الحديثة هو قدرة الناس على الصمت. فكيف استثمرت رواية هجرة النار الصمت؟
(هاجمني الصّوت ثالث مرةّ، صوت يعبر ناحيتي بعد طرقٍ على النّافذة، يومض سريعا وأنا أمرّ من صحوٍ إلى إغفاءة، أقوم مستغفرا أتنفّس من عمق الدّهشة، أدقّق في الضّوء الخافت المنبعث من الكوّة، أتلمّس خلاله أنسا وأنا أسير نحوه أرمي بخطواتي المتثاقلة، ثمّ أجول ببصري أتكشّف من خلال الزّجاج المغبّش أثر الشّبح الصّائت للمرّة الثّالثة، لكن كعادة ما سبق أقول في نفسي: هو صوت انفلت من إحدى أحلامي التي بتّ أترفّع عن تذكّرها بعد أن صارت تتكاثف مع أوّل إغفاءة، تبددّ أثر الخوف هذه المرّة وأنا أفتح مِصراعا للنّافذة، يعبر بصري إلى فضاء السّاحة التي تفترش التّراب وتحاصرها جدرانها العاريّة، لا أحد عبث بالسّكون خلالها، الباب الحديديّ متشبّث بذراعه الغليظة إلى السوّر، الرّيح تطوف خفيفة حول أوراق شجرة اللّيمون العتيقة، الشّجرة العقيمة التي لم أشهد لها ثمرا منذ بلوغي هذا المكان، فمن أيّ زاوية نفذ الصّوت ليصل بتلك الحدّة إلى مسمعي؟)
إنّه صوت صامت، أو صمت الصوت، أو صداه... هكذا استثمرت الرواية التوهّم مع الإغفاءة، مع تتبّع مصدر الصوت.. صوت يخترق بابا حديديا، يمتزج بالريح ليشكّل معزوفة الروح الظامئة للحقيقة وللواقع.. وكأنّه عادة تتكرّر كلّما زاد عند الشخوص وهم الصوت، فعادة ما تكون الصحراء صامتة تبعث صوتها مع هدوئها...
وصولا إلى الهدف:
بعد عديد المحاولات قرّر سليم وبوبكار التوغّل وتنفيذ مخطّطهما الذي حلما بتحقيقة منذ سنوات، ورغم كلّ ما يحيط بهما من مخاطر، إلاّ انّهما أصرّا هذه المرة على المغامرة، لكنّهما يتخوّفان روح المكان/الأسطورة... أو تلك النار التي ستكشف أسرارهما. دائما تتوهّج الأرواح بالنار وتتحفّز العقول بدفء الفكرة، وتنتقل عدوى التحدّي من شخص إلى آخر ومن مكان إلى آخر... دائما هي هكذا النار/النور، الحرائق/الجنون، وهكذا تكتمل الدهشة، أو دهشة النار ( هل تفقّدت نوم الشّباب ؟ إي... خلد الجميع إلى النّوم مباشرة بعد السّهرة. جيّد، اللّيلة... اللّيلة يا سليم سأعبر ناحية العرق، وقد تكون زيارتي التّفقدية الأخيرة قبل أن نتمّ عمليتنا...الحكمة تلك الخطوة القلقة، تلك اللّحظة الفارقة بين حاضر ومآل... وأنا أثق في حكمتك يا بوبكار، ولولا ذلك ما رافقتك كلّ هذه السّنوات... ممتنّ إلى روحك الصّابرة، ما يزعجني زيادة على التّفكير في احتمال تعثّر مخطّطنا هو تفطّن الجيش إلى النّار إن انبعث سناؤها بعد صدق النّبوءة، النّار في أيّام ثلاثة سيرتفع لهيبها ويسنو نورها، وحدود الجند تتوسّع وحركاتهم قرب العرق لا تهدأ، يكفي الواحد منهم أن يعرج عن مسار الطّريق المعبّد، ثمّ يلقي ببصره من عل كي تمتلئ عيناه بدهشة النّار...)
حالات التوتر والقلق بين الواقع والبسيكوبات:
في مقطع مؤثث بالشخوص والحركة والحوار، يكاد الانفعال يقفز من مفاصل الجُمل، أو أنّه ربّما يكون احتمال تضامن كبير بين شخصيات كانت في تفاصيل أخرى غير متقاربة، فالأزمة ولّدت لها همّة زائدة وحرّكت مشاعر النبل. اختفاء السيدة عابدة أرهق فكر سليم، لكنّه يحمل طموحا في الوصول إلى جبل الذهب، ومقابل هذا عليه أن يلقي تعاطفه مع جعفر ومحمود جانبا، ويقتدي بالمعلّم مانسا، في تشكيل تعويذة توفّر لهم جميعا حياة كريمة، فجِلد جبهة (عابدة) ودمها الساخن هما قربان سليم وصديقه للوصول إلى الذهب....الذهب لا ينصهر إلا بالنار، والنار لا تبرد إلا إذا أحرقت الجانب الأخضر فينا وفي أرواحنا، وهكذا تقدّم الحياة هِبة للنار فيعمل السحر مفعوله وتعود الحياة من جديد، إنّها دورة غريبة في صحراء غامضة وملغّزة، لكنّها الحياة في صورتها المتوهّجة...بقي سليم مشتتا بين مكان وسحر، بين أسطورة وواقع، وبين حياة وموت، وبين نار وسلام وبين وفاء وخديعة... سليم في أرضه المقدّسة تلك (تاس) لا يجد بدّا إلا مغادرتها حتى لا يشهد على خيانة صديقيه...(زمّ سليم شفتيه وانقلبت سحنته، أطرق لحظة ثمّ عاد بنظرة قلقة مكسوف الوجه، وقال بعد تردّد: أرجو أن تطلب من الرّجال عدم أذيّتها. ها ها ها ، يا سليم ما أعذب قلبك، سيكون ذلك، وسنريحها فور وصولك، وتقبر جثّتها على جانب من الواحة، ما حاجتنا منها غير جلد جبهتها المشقوق ودمها السّاخن عليه، هذه تضحية لابد منها ليعيش يوما ما خلق كثير حياة طيّبة، نفعل هذا اقتداء بالمعلم مانسا، وبعدها لكلّ سبيله في التّكفير عن ذنبه. لا أطيق أن أرى حال صديقي جعفر وابنه محمود وهما ملزمان على تقبّل فاجعة اختفاء السّيدة عابدة، كنّا عائلة واحدة، وملزم بعد ذلك بمغادرة تاس إلى ناحية لا أبصر خلالها حالا لهما. هاكهو يا خيّي ، هاكهو...)
@ اليد الزهرية، أو كيف ننفُذ من ثقب السحر؟:
@ كيف يمكن لجبهة تحديد مصير شعب؟
يرى جورجي زيدان في كتابه: علم الفراسة الحديث (ط2/ص 12،13،14، بيروت) أنّ البعض يُنكر علاقة الملامح بصفاتِ الشخصِ، فيصف علم الفراسة أصحابَ الجباه العالية بالذكاء، ولكن لا يمكن أن يكون كلّ شخصٍ يمتلك جبهةً عاليةً ذكيّاً، ويُفسَّر هذا الخطأ بأنّ علم الفراسة لا يعتمد على صفةٍ واحدةٍ في الإنسان حتى يُحكَم عليه، فالجبهة العالية يُصاحبها مثلاً عيونٌ كبيرةٌ وغيرُها من الصّفات التي تدعم بعضها حتى يستطيع المُتفرّس إطلاق الحكم على الإنسان الذي أمامه، وينسب تأسيس علم الفراسة إلى الفيلسوف الإغريقي أرسطو؛ إذ عملَ على تدوين أُطروحته المُكوّنةٍ من ستّة فصولٍ، خصّصها لدراسة ملامح وجه الإنسان، وصفاته الشخصيّة المرتبطة بهذه الخصائص الفيزيائيّة، كشكل الأنف، ولون العينين، والمشية، والصوت، وغيرها من الخصائص المتغيّرة بتغيّر طبيعة الشخص وصفاته. وقد أسهمَ بعض العلماء العرب في تطوير علم الفراسة كالرازي، وابن رشد.
كما استُخدمَ هذا العلم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وسيلةً للكشف عن الميولات الإجراميّة للناس. وهذا ما كانت تعتقده الشعوب القديمة، وقبائل إفريقيا، المنتشرة هنا وهناك، بل وتبني على اعتقاداتها الأساطير، وترسّخها في أذهان أبنائها، كما أنّ هذه العلامات ترتبط في معظمها بالسّحر، وتوظيف أعضاء الموتى في تشكيل تعاويذ، توافق الأسطورة التي تؤمن بها كلّ قبيلة. وطالما ارتبطت استقامة الخطّ في الجبهة أو الكفّ بموفور الحظّ والمال، وهذا أثمن ما يمكن امتلاكه خاصّة الخط المستقيم على الجبهة. يبدو أنّ بوبكار كان مؤمنا بما يقول الكتاب، لاسيما حينما طبع قبلة عليه قبل إعادته إلى مكانه، وهذه حالة تلبّس تامّ بالمقدّس الاجتماعي الممتدّ في التراث المحليّ، ويعتبر من اللاملموس أو اللامناقش؛ إذ نجد الشخص منقادا إلى محتوى الخرافة أو المعتقد دون أن يناقش الفكرة، خوفا من لعنة تصيبه أو تنبذه... وبين جبهة ذات خطّ مستقيم نادر وأسطورة مرمّدة بالدم ومفحّمة بنار الذهب، يبقى الإنسان حبيس الموروث ولو بعد آلاف السنين، لاسيما إذا اقترن هذا الموروث بالسلطة والمال.
(كانت رسمة توضّح أبعادا لجبهة يتوسطها شقّ طوليّ مخدّد الجوانب، وأسفله شرح تفسيريّ يمتدّ عبر صفحات، يتطرّق خلاله الكتاب إلى علاقة شقّ الجبهة بتحصيل الكنوز أو توظيف رقع من الجلد المحيط بالشّقّ في تفعيل السّحر، ثمّ يلي التّوضيح عنوان جانبيّ « تبصرة حول مفتاح الشّقّ «، يأتي الشّرح في غضون أسطر هي كالآتي : والحاذق من السّحرة يتيسّر عليه تفقّد أثر اليد الزّهريّة ، لكن عليه أن يقطع أشواطا من الرّصانة إذا ما تعلّق الأمر بمفتاح شقّ الجبهة، فإذا اعتبرنا أن مفتاح اليد الزّهريّة يحوز قيمة عظيمة، فالجدير أن نعتبر مفتاح شقّ الجبهة أثمن مكسب عرفته الإنس والجنّ معا، ذلك لندرة حامليه أو تعسّر وضوح وتفقّد رسمته على الجباه، فالشّقّ يتجلّى كشرر البروق على جبهة صاحبه إذا ما حمل بقلبه حزنا كثيفا، لحظة تغضّن الوجه ودنوّ الحاجبين من بعضهما ينطلق من أسفلهما خطّان يرتفعان على تواز ثمّ يختلفان ويأخذ كلّ خط مسارا متذبذبا يصل إلى غاية فروة الرّأس؛ أين يلتقي الخطّان ويشكّلان قوسا تنطلق من على ظهره ثلاث خطوط صغيرة كأنّها خيوط أشعّة، أمّا عند هلاك صاحب الشّقّ فيبرز عِرق على بياض شديد لصفحة الجبهة؛ عرق شديد الحمرة يوضّح حدود الرّسمة. قيمة شقّ الجبهة تتجلّى في كونها قربانا ذا مفتاح صريح لتحقيق نبوءة عصيّة، أو رفع كنز مقبور في عمق سحيق من الأرض. أطبق بوبكار دفّتي الكتاب، ثمّ أدناه إلى فيه لاثما قبل أن يعيده إلى مكانه ويخرج من كوخه متفقدا نوم الرّجال، وما عاد يفصلهم غير ساعات على مباشرة مهمّتهم...)
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)