الجزائر

قراءات ثلاثة في الوضع السياسي على ضوء الانتخابات التشريعية



اختلفت قراءات الجزائريين لنتائج الانتخابات التشريعية في الجزائر، وبناء على تلك القراءات المختلفة تباينت المواقف أكثر بخصوص مصير الوضع السياسي في الجزائر. ويمكن أن نجمل هذه القراءات في القراءة العقلانية والتفسير المؤسساتي ونظرية المؤامرة.
القراءة العقلانية: استئناف مسار الإصلاحات هو الحل
حسب هذه القراءة، تكون التشريعيات مرحلة مهمة في مسار الإصلاحات التي بادر بها الرئيس منذ سنة وتوفرت لها شروط جيدة قياسا إلى الانتخابات السابقة. والمشكلة لا تتعلق بالمسار الانتخابي نفسه بل تتعلق بمسار الإصلاحات الذي يترتب على نتيجة هذه الانتخابات: استئناف مسار الإصلاح أو التخلي عنه. ذلك أن نتيجة الانتخابات لم تعد تتلاءم مع روح الإصلاحات، إذ أن مصداقية البرلمان أصبحت في الميزان بسبب عدم توازن تمثيل القوى السياسية فيه، فضلا عن ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت. فهل يتم عرض مشروع الدستور على الاستفتاء مباشرة ثم يعاد انتخاب كل الهيئات المترتبة على الدستور الجديد؟ وقد تبنت بعض الهيئات الرسمية مواقف قريبة من هذا الطرح. واستئناف مسار الإصلاح ضروري من أجل استمرار منطق السير العقلاني للأمور أما الخروج عن مسار الإصلاحات أو تعطيله، فهو استدعاء للعوامل غير العقلانية للتدخل بوسائلها الاستثنائية القصوى. تلك هي المخاطر التي تترتب عن الجمود الحالي إذا طال؛ فهل هناك قوى تعمل على استمرار الجمود للدفع بالأمور نحو التغيير بالعنف؟
التفسير المؤسساتي: تشكيل هيئة جديدة مستقلة تشرف على الإصلاح
القراءة الثانية تتوخى التفسير المؤسساتي وهي تبدأ من حيث توقفت القراءة الأولى. فما الذي حدث حتى ظهرت النتائج بهذا الشكل؟ تقاطعت إستراتيجيتان في ظرف مؤسساتي محدد فكانت هذه النتيجة: إستراتيجية الإصلاح السياسي في مقابل الإستراتيجية الانتخابية. أما الظرف المؤسساتي، فيتمثل في انفراط عقد الائتلاف الرئاسي عشية الانتخابات وتحول اللاعبين من صف الحكم الذي يجب إصلاحه إلى صف المعارض القائم بالإصلاح، ما ترتب عنه تعطيل مسار الإصلاح في المرحلة الأولى، حين كانت أحزاب الائتلاف تعمل على تعطيل الإصلاح للاستفادة من امتيازات السلطة، كما ترتب عنه إفشال مسار الانتخابات في المرحلة الثانية حين بدأت أحزاب الائتلاف تقدم نفسها على أنها قادرة على تقديم البديل لما كانت تقوم به من قبل، ففشلت العملية الانتخابية قبل أن تبدأ، ما استدعى دخول لاعبين مؤسساتيين جديدين أولهما: وزارة الداخلية، بأن دفعت بعدد كبير من الأحزاب إلى الساحة فتشوش المشهد السياسي أولا ثم تشتت الوعاء الانتخابي ثانيا، ما ترتب عنه فشل الحملة الانتخابية وعزوف الناخبين، ما استدعى تدخل الرئيس بثقله، وهو اللاعب الثاني المتدخل بعد فشل الحملة، فأدى ذلك إلى تحريف توجهات الناخبين (أفرادا ومؤسسات). كما ترتب عنه أيضا ضياع عدد كبير من الأصوات عند عتبة الانتخابات (نسبة الخمسة بالمائة الضرورية للدخول في احتساب الأصوات)، فظهرت الأحزاب التي كانت تعطل مسار الانتخابات كما لو كانت هي المستفيد الوحيد من المسار الانتخابي بعد أن كانت هي المستفيد الوحيد من امتيازات السلطة. ترتب عن ذلك نتيجتان خطيرتان: أولاهما أن الأغلبية البرلمانية ليست أغلبية لحزب بل أغلبية للرئيس وثانيتهما رفض النتائج من أغلب الفاعلين السياسيين بمن فيهم المشاركون في المسارين (الإصلاح والانتخابات).
لم يكن المسار المؤسساتي للإصلاح فعالا لسبب بسيط، هو أن عملية الإصلاح أسندت إلى الفاعلين المساهمين في الفساد الذي يتعين إصلاحه. فكانت النصوص المجسدة للإصلاحات (الدستور، قانون الانتخابات، الإعلام، المرأة) أدوات لتجسيد الفساد وتقنينه. والنتيجة هي أن المسار المؤسساتي الحالي بكامله فقد شرعيته، بما فيه البرلمان الجديد. ولذلك، فإن الأمر يقتضي تجاوز المؤسسات الحالية برمتها: تعيين حكومة من خارج الأغلبية البرلمانية واستئناف الإصلاح من خارج الإطار الذي تم اتباعه لحد الآن. تعديل الدستور وعرضه على الاستفتاء المباشر.
نظرية المؤامرة: ضرورة القيام بخطوات جريئة للخروج من الوضع
القراءة الثالثة، قراءة تعتمد المنهج القائل بوجود مؤامرة كبرى مخطط لها ومحبوكة بشكل محكم. وهذه قراءة تشترك فيها السلطة والأحزاب ويتبناها قطاع واسع من الرأي العام. وقد بدأت هذه الفكرة من قبل الداعين للمشاركة في الانتخابات، بتجنيد المواطنين عن طريق بث الخوف والفزع مما يجري في الجوار العربي، لكنها أخذت أبعادا أخرى لاحقا. بداية، كانت المؤامرة تتمثل في وجود قوى متربصة بالبلاد تعمل على توريطها في الفوضى من أجل تسويغ التدخل الأجنبي وتركيع البلاد. ثم تجاوزت نظرية المؤامرة ذلك إلى تفسير الأحداث الأخرى. فالإصلاحات المعلنة ليست سوى مناورة كبرى ولم تكن إستراتيجية خروج من الأزمة بقدر ما هي آلية لتسيير الأزمة. والمؤشرات تثبت أن المؤامرة حبكت وتم تنفيذها على مرأى ومسمع من الملاحظين الدوليين. ثم أصبحت بعض الأحزاب تتهم بعضها الآخر بالتآمر مع النظام، كما أن بعض المناضلين يتهمون أحزابهم بالتآمر ضد مصلحة الحزب نفسه. ويمعن بعضهم في التهويل بالقول إن هناك مؤامرة علمية من داخل النظام، القصد منها إحداث تغييرات جذرية يمكن أن تؤدي إلى قلب الأوضاع رأسا على عقب: تبرير الانقلاب على الحكومة بل على مؤسسة الرئاسة نفسها باعتبارها مسؤولة عن فشل مسار الإصلاحات السياسية وعلى الرئيس باعتباره تورط في قلب الموازين لصالح أحد الأحزاب أو ضرب مصداقية هذا الحزب الفائز، تمهيدا لتحضير حزب آخر لتقديم بديله في الرئاسيات المقبلة. فضحية المؤامرة بهذا المعنى، هي الحزب الفائز ورئيسه. فمن يكون الفائز البديل إذن؟ الأحداث المقبلة ستفسر ما حدث وتسلط الضوء على ما يتم الترتيب له مستقبلا. وما يأتي يكون دائما أخطر مما مضى، ما يتطلب القيام بخطوات جريئة لإنقاذ الوضع.
قراءات ثلاثة لوضع متأزم يقبل أكثر من قراءة ويحتمل أكثر من تفسير. لكن الأكيد أن مثل هذه الأوضاع المتأزمة، تتضمن من المخاطر بقدر ما تتضمن من إمكانات التطور، فالأزمة حمالة أوجه: لحظة انهيارات خطيرة ولكنها أيضا فرصة للتغيير.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)