الجزائر - Eberhardt Isabelle

قبر إيزابيل أبرهارت بعين الصفرة



قبر إيزابيل أبرهارت بعين الصفرة


ولدت ايزابيل ابرهارت في 17 فبراير 1877 بفيلا فندت الواقعة بحي الكهوف بجنيف المدينة السويسرية المعروفة ، و هو الحي الذي لا يزال إلى الآن يحمل اسمها. أما بخصوص والدها فقد تباين بخصوص هويته كتّاب سيرتها بين أن يكون مجهول الهوية، و بين أن يكون تروفيموسكي المعروف باسم فـافـا و هو من أصول أرمينية كان قسا سابقا للكنيسة الارثوذوكسية الروسية، أو حتي أن يكون آرثر رامبو الشاعر الفرنسي المعروف(1854-1891) و هو الطرح الذي تتبناه الكاتبة الفرنسية فرانسواز دوبون في كتابها تاج الرمال الصادر عام 1967 حيث تعتقد أن أب ايزابيـل هو الشاعر الفرنسي، و تورد في هذا السياق بعضا من الأدلة التي تحاول تأكيد اعتقادها، فهناك مثلا التشابه الكبير في ملامح وجههما، أضف لذلك أن اسم ايزابيل هو نفسه اسم شقيقة رامبو و هي الأخت المفضلة لديه و التي كان متعلقا بها بشكل لا يوصف ، و كذلك الجملة الواردة في أحد كتبها : أنا أيضا سأموت مسلمة مثل أبي إذ يقال أن رامبو بعد رحلة ضياعه في وادي النيل يكون قد اعتنق الإسلام. و هو ما يذهب إليه أيضا بيار ارنو واضع سيرة الشاعر الملعون الذي يقوم تفسيره على أن رامبو يكون قد اجتاز جبال الألب في سنة 1877 و حـلّ بسويسرا لفترة من الوقت قبل أن يلتحق بجيش ملكة هولندا، أما أم ايزابيـل الأرملة فكانت تعيش وقتها قرب بحيرة ليمان، فهل تكون قد عرفت رامبو في عداد عشاقها ؟ إضافة إلى أنه أجرى مقارنة بين صورتين فوتوغرافيتين لهما بحيث تمكن من العثور حسبه على أوجه شبه كبير في هيئتي رامبو و ابنته المفترضة، كما يشفع ارنو اعتقاده هذا بأن ايزابيل تحمل اسم الأخت المفضلة لرامبو و هو ما ذهبت إليه أيضا الكاتبة الفرنسية ف. دوبون في كتابها تاج الرمال كما أسلف الذكر. أما الكاتبة الفرنسية صاحبة جائزة غونكور الفرنسية ادموند شارل رو فتعتبر أنايزابيل هي ابنة تروفيموفسكي ، و أن هذا الأخير لا يمكنه الاعتراف بها لأنه لم يكن مطلّـقا، و بالتالي لو اعترف بأبوته عليها لتعرض لانتقام زوجته و ما سيعقب ذلك من فضائح، لا سيما و أنه شخصية محافظة مدافعة عن سمعتها، لا ننسى أنه كان قسّـا سابقا في الكنيسة الارثذوكسية الروسية. و من المعلوم أن الكاتبة الفرنسية الكبيرة ادموند شارل رو ، كرست جزءا كبيرا من حياتها في أعمال البحث و التنقيب في ارشيف ايزابيل ابيرهارت ، و هو جهد كلفها أكثر من اثنتي عشرة سنة عملا فكريا و ما يوازي حجم ألف صفحة ، و لم يقتصر الأمر في حدود الجانب الأدبي فحسب ، بل امتد ليشمل الجانب الفني كذلك ، حيث أعدت سيناريو فيلم عن حياة ايزابيـل ، كان مفترضا أن يتولى إخراجه المخرج الجزائري المعروف محمد الأخضر حامينة صاحب السعفة الذهبية لمهرجان كان سنة 1975 و لكن العمل للأسف لم يتم على يد المخرج الجزائري. هذا و قد استطاعت ايزابيـل أن تتبوأ منزلة خاصة وسط أسرتها( زوج شارل رو هو السياسي الفرنسي الشهير غاستون دوفير رئيس بلدية مرسيليا في الخمسينيات و وزير داخلية فرنسا سنة1981) ، و كدليل على حجم المكانة التي تحتلها في حياتها الأدبية و العائلية ، صرحت أن المكانة التي تتمتعابها ايزابيـل لدى عائلتها تشبه تماما المكانة التي تتمتع بها جان دارك لدى العائلات الفرنسية، و جان دارك كما هو معروف هي تلك الفتاة التي وهبت حياتها قربانا لوطنها و قد كانت بمثابة قديسة لا يزال الفرنسيون يحتفلون بذكراها كل عام . و قد كان ثمرة هذا المجهود العلمي و الأدبي الكبير الذي خصته لايزابيل ثلاثة مؤلفات و هي : رغبة الشرق(1989) ، رحالة كنت(1995) ، و ايزابيل الصحراء(2003). اعتناقـها الإسلام تميزت طفولة ايزابيل و نشأتها بكثير من الغموض زاده التباسا تناول عدد هام من المؤلفين لهذه الفترة الصعبة من حياتها ليحولوها إلى فضاءات لحبك الخيال و نسج الأساطير في كتبهم و أعمالهم الإبداعية مثل هذا الغموض و هذا الالتباس -كما يقول الكاتب و الصحفي شربل داغر - يطبع شخصية ابرهارت و يشدد من سحرها المدهش و يجعل المفسرون و الشارحون مثل م.ا.ديلاكور و ج.ر. هيليه ، يتدافعون لاهثين حول خطواتها و هي خطوات لا يبقى من علاقتها و هيئاتها أكثر مما يبقى من خطوات على الرمال حيث تعثر على خطوة و تضيع منك خطوات و لم يقتصر الأمر فيما يبدو على مجموعة من الروائيين و الباحثين الذين كتبوا عنها عقب وفاتها و لا يزالون، بل أن الأمر طالها حتى و هي على قيد الحياة ، و هو ما أثار فيما يبدو استياءها و غضبها من خلال المراسلات التي كانت تحرص على بعثها إلى أصدقائها المقربين أو الذين تضع كامل ثقتها فيهم ، كما كانت تضطر أحيانا إلى محاولة تصويب ما كان يرد عنها في الصحف آنذاك ، فها هي ترسل تصويبا إلى جريدة فرنسية صادرة في مدينة بوردو (جنوب غربي فرنسا) في 27 ابريل 1903، بعد أن قاموا برسم شخصيتها بطريقة مغلوطة، حيث تقول : إن مراسلكم صاغ سيرتي الشخصية بطريقة خاطئة تماما، بحيث وجدت لزاما علي كتابة هذا التصويب ، حتى لا يلتبس الأمر على قارئ جريدتكم ، إن قصتي الشخصية هي دون شك أقل روائية ، و أكثر بساطة من الأسطورة التي أحيطت بها و التي يعود إليها مراسلكم ، لذا أنا ملزمة بكتابتها بنفسي : أنا ابنة مواطن روسي مسلم و أم روسية مسيحية ، ولدت مسلمة إذا ، و لم أغير ديني أبدا ، توفي أبي بعد مولدي في جنيف ، المدينة التي مكثت فيها مع أمي و أحد أقاربي و هو عجوز كهل ربـّاني كصبي، الأمر الذي يفسر ارتدائي للزي الرجالي، منذ سنوات بعيدة قمت بدراسات طبية، لم يلبث أن تخليت عنها بصورة قاطعة لصالح الكتابة. عند بلوغي العشرين من عمري في 1897 ، أقمت مع أمي في بونة (الاسم القديم لعنابة ) ، حيث توفيت بعد أن اعتنقت الإسلام، ثم سرعان ما عدت إلى جنيف لأكون على مقربة من قريبي العائلي المسن الذي يتوفى بدوره مخلفا لي ثروة بسيطة عندها و قد أصبحت وحيدة، عدت إلى إفريقيا أنا المتلهفة إلى كشف المجهول و حياة الترحال و اجتزت وحدي على حصان تونس و الشرق الجزائري و الصحراء القسنطينية، كنت أزور هذه البقاع مرتدية الزي العربي، لطواعيته في التنقل و لجماله، كما كنت أتكلم لغة البلاد التي تعلمتها سابقا في بونة. في سنة 1900 وجدت نفسي في الوادي في أقصى الجنوب من قسنطينة حيث تعرفت على السيد سليمان هني و قد تزوجت حسب الأصول الاسلامية هذه هي حقيقة حياتي و هي حياة نفس مغامرة متحررة من أنواع العبوديات التي نسميه العادات و التقاليد الموروثة و متلهفة إلى حياة متبدلة و حرة تحت الشمس. لم أؤد أي دور سياسي أبدا ملتزمة حدود عملي الصحفي دراسة عن قرب لحياة السكان المحليين التي أحبها و هي مجهولة و مشوهة من قبل الذين يدعون تصويرها ايزابيل كما وصفها الكاتب اللبناني شربل داغر امرأة غريبة، ساحرة و مدهشة، وجدت في الصحراء العربية وطنها المفقود و في الإسلام هويتها الضائعة، فحياتها كما تصوغها بنفسها لا تسلم من الأخطاء المتعمدة أحيانا فالأب الذي تتكلم عنه في رسالتها لم يكن موجودا أبدا ، إذ أن أمها أصبحت أرملة حسب أوراقها الثبوتية الأكيدة في 1873 أي قبل ميلاد ايزابيـل بأربع سنوات. ايزابيل لن تعرف أبا لها مثل أمها أساسا لان الإسم العائلي ابرهارت يعود إلى عائلة أم والدة ايزابيـل . على كل يبقى أن تروفيموسكي سواء كان والدها أو لم يكن فقد قام بتوجيهها و تربيتها طيلة الفترة التي عاشتها بجنيف التي أقامت بها صحبة عائلتها إلى جانب أمها و أبيها المفترض فافـا و رفقة اخوتها من أمها: نيكول، اوغستين، ناتاليا و فولوديا. و قد تميز الحي الذي نشأت و ترعرعت به بأنه كان فضاء رحبا لمختلف الأجناس و الأعراق تتلاقح فيه الثقافات و تلتقي فيه الأفكار من كل بقاع العالم أو تكاد، فقد كانت اللغات المتداولة هي الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، و حتى العربية و هو ما انعكس بشكل إيجابي على ميولاها الفكرية و الأدبية التي تبلورت بصورة جلية في كتاباتها و رحلاتها. حلولها بأرض الجزائر مما لا ريب فيه أن أخصب فترة عاشتها عمقا إنسانيا و إنتاجا أدبيا عبر مسار حياتها القصيرة نسبيا ، هي تلك الفترة التي قضتها بأرض الجزائر التي اختارتها كما كانت تردد باعتبارها عـشّا في عمق الصحراء ، بعيدا عن الناس حيث عمدت على تذليل العقبات الاجتماعية و تجاوز التمايز الجغرافي و الثقافي : من خلال عدد من القصص التي كتبتها و التي نشرتها بمجلات فرنسية أو يوميات كانت تصدر بالجزائر (العاصمة) كانت تعرف كيف تفضح حماقة الاستعمار تماشيا مع الخط الذي سطره زولا و الذي ساندته عام 1898 لقد اتهمت بدورها المعاملة اللاإنسانية للأسرى و الجيش الاستعماري الذي حاول سلخ الرجال من قبيلتهم بالادعاء ان الحرية تحت البذلة الزرقاء و تحويلهم الى أشخاص يتكيفون بصعوبة مع حياتهم الأصلية كانت تتهم المهزلة البيرقراطية المؤسفة التي كانت تبرر نزع أراضي الفلاحين و الاستيلاء على ممتلكاتهم من طرف الاستعمار ، كانت تتهم القادة الكبار و الصغار بأحكامهم العنصرية المسبقة . في ماي 1897، و قد بلغت العشرين من العمر، التحقت مع أمها ببونة (عنابة حاليا) ، و هناك كانت تلتقي بأهالي المدينة و تتردد على أوساطهم ، تلتمس التعرف بهم و على عاداتهم و تقاليدهم ، تحرص على تعلم اللغة العربية والتعرف على الدين الاسلامي، و لأنها كانت تتميز بسرعة البديهة و الموهبة استطاعت أن تقطع أشواطا هامة في تعلم اللغة العربية ، يعتقد عدد من الباحثين أنها اعتنقت و أمها الدين الإسلامي في عنابة و هي المدينة نفسها التي توفيت فيها أم ايزابيل و دفنت بمقبرة المسلمين هناك ، و سرعان ما عادت أدراجها إلى جنيف لتسوية بعض الشؤون العائلية و لكن الحنين راودها من جديد للعودة إلى الجزائر، لا سيما بعد فقدانها لأمها سندها الوحيد ، قرار العودة إلى الجزائر كان منعطفا حاسما في حياتها بعد أن استوطنها الفراغ، أرادت أن تجسد تصورها للحياة و نظرتها المتشائمة في بداية المطاف من خلال ما عاشته في فترة صباها بجنيف من معاناة و اضطراب ولحظات السعادة أو الشقاء بفرار بعض أخوتها من البيت العائلي، بعلاقتها مع فافا و ما تعلمته على يديه. فقد علمها كيف تواجه صعوبات الحياة و تقلباتها و لولا ما تعلمته منه ما أمكنها اختراق الصحراء العربية و أن تحيى حياة سهلة في الجزائر و تونس و هي تنفض عن نفسها كافة ألوان الزخرفة و البهرجة و أجواء الأرستقراطية التي عاشت فيها ، فقد أوعز لها أن تتصرف كرجل، بل و أن ترتدي ملابس رجال ليس فقط بمنزلها و لكن عندما تتواجد بين الناس ، فقد تعلمت أنها يمكن أن تتصرف بحرية أكثر كلما ارتدت ملابس الصبية و الرجال وفي طفولتها، و قد قام بشراء حصان لها، وراح يعلمها كيف تستخدمه. وقد استفادت تماما من رياضة الفروسية التي تعلمتها وهي تخترق رمال الصحراء فيما بعد، وهو الذي علمها قراءة وكتابة اللغة العربية الفصحى. والغريب أنه لم يكن يسمح لـايزابيل أن تتصل قط بالسويسريين الذين يعيشون فيما بينهم. كما كان يزدري ازدراء ملحوظا أبناء الطبقة الراقية التي كان ينتمي إليها. و لعل فترة إقامتها بعنابة كانت بمثابة المنعطف الحاسم في مسيرة حياتها فهي المدينة التي شهدت وفاة أمها ، الحادثة التي هزت كيانها و أثرت تأثيرا عميقا في حياتها، فقد فقدت ملاذها الوحيد و مؤنس وحشتها و هو ما تثبته بعض المراسلات التي كانت تبعثها إلى صديقها الحميم علي عبد الوهاب في تونس، تقول في مقتطف من إحداها : ساعدني أخي أنا في حاجة إليك أرغب في الالتحاق بك و بالوسط الإسلامي أشعر بوحشية الفراغ المهول الذي تسببه وفاة أمي في حياتي و تضيف لن أقول لك شيئا عن حزني ، ستفهمني لا شك في ذلك دون أن أتكلم هاهي حياتي الإفريقية هذا الحلم القصير لستة اشهر و قد أفلس و تبخر الآن سوف أدع نفسي على سجيتها تحملني إلى الهاوية، ما ينقذني سوى الصبر الإسلامي الذي كان لدي الوقت لاكتشفه، و إلا سيكون الانتحار أو الجنون السريع و هكذا تمسكت بالخيط الذي أنقذها من السقوط السريع ، و هو تعرفها على العرب و المسلمين بما اكتشفت فيهم من فطرة و طيبة قلب ، ووقوفها إلى جانب المضطهدين و معاناتهم من الاستغلال و امتلاء قلبها بالإيمان العميق. في 14 جوان 1899 ، التحقت بـعلي عبد الوهاب صديقها المقيم في تونس ، و كان ذلك بمثابة آخر اتصال يجمعها مع وسطها العائلي في جنيف. ومن ثم شرعت في تجسيد حلمها القديم في المغامرة و اكتشاف المجهول : عندما كنت صغيرة، كنت أحلم و أنا أحدق مليا في الطرقات أن أكون رحالة و سأبقى رحالة طيلة حياتي ، عاشقة للآفاق المتغيرة و المواقع القصيّة التي لم تكتشف بعد و تستطرد في مقال آخر لها : أنا التي لم يكفني أبدا العيش الرغيد داخل المدنية الأوروبية سأحقق مشروعا جريئا و هو أن أرحل إلى الصحراء و أبحث عن السلام و عن المغامرة في آن معا ، أشياء تتلاءم و غرابة طبعي وأن تعمل على تحقيق حلمها، كما تقول، في الإقامة بـ بلد ساحر،بلد فريد، حيث تسود السكينة و حيث يعم السلام عبر القرون الرتيبة بلد الحلم و السراب و هكذا اختارت لنفسها نمطا معينا في الحياة خاصا بها، إذ أصبحت تتنقل من موقع لآخر قاطعة مسافات شاسعة من الصحراء الجزائرية : تقرت و الوادي في جنوب شرق الجزائر إلى العين الصفراء ثم القنادسة جنوب غرب الجزائر، مرورا بمدن و قرى و فضاءات شاسعة صادفتها و هي تقطع هذه المسافات الطويلة المتعبة و الممتعة في آن معا، مستخدمة كوسيلة تنقل الفرس، مرتدية زي فارس عربي من أبناء الجنوب . ففي حين كانت السلطات الاستعمارية تنظر بعين الريبة لهذا النمط الغريب في الحياة و كانت الطبقة المثقفة تنظر بعين الفضول و الدهشة، لم يول بالمقابل السكان و الأهالي أي اهتمام للأمر فقد كان السواد الأعظم من الذين التقت بهم يعاملونها بطيبة و احترام على أساس أنها رجل مثقف من بينهم ، و هو السر الذي جعلها تتعلق بهم و تخلص في حبها لهم. فلسفتها في الحياة و الوجود. لم تكن ايزابيل تبحث من خلال تلك الممارسات عن لفت انتباه الناس إليها أو مجرد تحول في الشكل، وإنما كان الأمر بمثابة تحول عميق في حياتها ووجودها إذ بدا بوضوح في مسيرة حياتها اللاحقة أنها قد أحبت العرب وعرفت جيداً ثقافتهم واعتنقت الدين الإسلامي وتمثلت العادات العربية. باختصار كانت تكن لهم ولحضارتهم ولمعتقدهم الكثير من الإجلال والاحترام.. بل وأنها كانت مسحورة بهم. شغفها بالحضارة العربية الإسلامية أرضا، بشرا و حضارة دفعها إلى اعتناق الإسلام و الزواج من مسلم و يتعلق الأمر بـسليمان هني الذي تعرفت عليه بمدينة الوادي و تزوجا سنة 1900 وفقا لأصول الشريعة الإسلامية ، و قد أخلصت في حبها له رغم ما تعرضت له من عذاب و معاناة من طرف أولائك الذين ناصبوها العداء عقب زواجها من الجزائري المسلم سليمان هني الذي كانت تطلق عليه الكلمة العربية الروح ، و هكذا بقيت إلى آخر يوم في حياتها مخلصة له رغم ندرة لقاءاتهما لظروف أملاها مسارهما المتباعد فهي الصحفية و الرحالة التي لا تستقر في مكان و هو المنضوي تحت لواء السباهي رهن إشارة السلطات الفرنسية. و مع ذلك تصادف أن كان رفقتها بمدينة العين الصفراء قبل أن يباغتها الفيضان، قالت عنه : رغم حدة البؤس، الحقيقي الآن ، و حياة الانزواء مع النساء العرب ما يعذبني و ينغص حياتي هو تفريقي عنه و الحزن المرير في عدم رؤيته إلا ناذرا و لبعض اللحظات الخفية هاهو إذن قد ولد و دون شعور، و بعفوية، الحب الكبير في حياتي فلسفتها في الحياة هي أنها كانت تشعر و هي في مقتبل العمر بأن الأرض موجودة ، تحذوها الرغبة في اكتشاف أقاصيها ، لم أكن مهيأة أبدا - تقول- لأن أدور في لعبة الخيول الخشبية ، بكمامات حريرية للعيون ، لم أضع مثالا لحياتي بل مضيت طلبا للاكتشاف ، اعرف جيدا أن طريقة الحياة هذه محفوفة المخاطر ، غير أن لحظة الخطر هي عينها لحظة الرجاء على أية حال أنا شديد(ة) القناعة أن الواحد منا لا يسقط خارج حدود نفسه ، حين يتألم قلبي أشعر بأنه موجود، كم تساءلت مرات عديدة فوق دروب الترحال ، إلى أن أمضي ، و قد توصلت إلى قناعة بين هؤلاء الناس و عند البدو ، بأنني كنت أرجع إلى ينابيع الحياة و أحقق سفرا في أعماق الإنسانية . و هو المنحى الذي حقق لها شيئا من السعادة بعد طول يأس و شقاء دائما في الطريق، و عبر الصحراء أشعر بهدوء كبير يصعد إلى روحي ، لا أتأسف على شيء، و لا أرغب في شيء، أنا سعيدة و عندما تزوجت - كما تقول الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار- انطلقت إلى الصحراء بزي الرجال على ظهر جوادها ، لم تشعر بعدم الاحترام تجاه ذاتها، من الصعب القول لماذا اختارت ايزابيل هذا الزي قد يكون لأن ذلك راق لها أو اعتمدته للدفاع عن نفسها ، إن الزي النسائي قياسا للزي الرجالي شيء مصطنع لكنه قياسا للزي النسائي أكثر راحة ، كانت مثل جورج صاند ترتدي ملابس الرجال و جورج صاند و اسمها الحقيقي آرماندين أورور لوسي دوبان كاتبة فرنسية غزيرة الانتاج (1804،1876) تزيّت بزي الرجال، واتخذت لنفسها لقب رجل، و هي من أوائل الكاتبات اللواتي تحدين المجتمع الأرستقراطي بعاداته وتقاليده وقيمه وقوانينه، وقد كانت تصر على أن المرأة ندٌّ للرجل في الحرية والكتابة والإبداع إن لم تتفوق عليه في كثير من المجالات، و قد عاشت على هواها كما يعيش الرجال عادة، متحدية العادات والتقاليد، و هكذا يبدو أن الأمر لم يكن بدعة في سلوك ايزابيل ، إذ يمكن لنا أن نشير في سياق هذا التماثل إلى ماري آن إيفان (1819-1880م). الأديبة و الصحفية الانكليزية التي استعارت لقب جورج إليوت ، والأمثلة على هذا المنوال موجودة في الأدب و الفكر الإنسانيين على مر التاريخ . دفاعها عن قضايا الجزائريين زمن الاحتلال الفرنسي آلت ايزابيل على نفسها الدفاع عن الجزائريين و قضاياهم في مواقفها و في كتاباتها، و لعل داخل أعمالها القصصية التي تتميز على حد قول شربل داغر باعتبارها الممر الفاصل بين التحقيق الصحفي و القصة التوثيقية ، فكانت تصوغ مقالاتها الصحفية بصيغة غير بعيدة عن القص بطريقة تعتمد على المراقبة العينية و المعرفة الوثائقية المقربة، ما يوحي بأن الكاتبة انحازت بشكل جلي لصفوف الأهالي المضطهدين و لقد كان بوسعها أن تفضح أكثر ممارسات الاستعمار لولا ما تعرضت له من مضايقات : علي أن ابدأ الكتابة كمدافعة عن إخوتي مسلمي الجزائر..آه !لو كان بمقدوري أن أقول كل ما أعرفه، كل ما يدور في خاطري ففي شهر أكتوبر 1900 وجهت رسالة إلى الجنرال ديستيزال حاكم منطقة باتنة آنذاك تعلن أن هذه المرأة أي ايزابيل تكن كراهية واسعة لفرنسا و لم تجد من وسيلة سوى تأليب العرب على فرنسا و حتى تكسب المسلمين اعتنقت الإسلام و أصبحت مسلمة. و لعل حادثة محاولة الاغتيال التي تعرضت لها أكبر دليل على المؤامرة التي حيكت للتخلص منها ، فقد تجرأ أحد مريدي الطريقة التيجانية على محاولة قتلها بحد السيف مما أصابها إصابة بليغة نقلت على إثرها المستشفى ، نتيجة الخلاف الشديد الذي بلغ حد العداء بين الطريقة التيجانية و الطريقة القادرية هذه الأخيرة التي انتهت بالانضمام إليها ، و رغم أن ايزابيل كانت ضحية الاعتداء غير أنها تعرضت للطرد من الجزائر بعد محاكمة الجاني و في رسالة لها نشرتها صحيفة لوديباش الجيريان في جوان1901 شرحت فيها دوافع حادثة محاولة اغتيالها و ظروف و حيثيات القضية بعد أن تعرضت للنقد اللاذع و الشكوك التي حامت حول إسلامها، تقول في مقتطف من رسالتها : طيلة التحقيق القضائي المتضمن محاكمة المدعو عبد الله بن محمد الرجل الذي حاول اغتيالي اظهر الضباط المكلفون بالمحاكمة في اكثر من مناسبة استغرابهم تصريحي بأنني مسلمة و حتى منتمية للطريقة القادرية و استغرابهم أنني ارتدي ثيابا عربية تارة بزي نسائي و تارة أخرى بزي رجالي وفقا للظروف و الضرورة التي تقتضيها حياتي كرحالة. و حتى لا يفسر اعتناقي للديانة الإسلامية و ارتدائي الثياب العربية تفسيرا خاصا، أصرح أنني لم أكن أبدا مسيحيا، و لم أتنصر قط ، مهما كنت روسية الأصل فإنني مسلمة منذ أمد بعيد، و أن أمي كانت تنتمي إلى طبقة النبلاء الروسية توفيت ببونة ( عنابة حاليا) سنة 1897 بعد أن اعتنقت الإسلام و هي مدفونة بمقبرة المسلمين هناك بالمدينة لست محتاجة إذن للتظاهر بإسلامي و ليس هناك سبب يدفعني للعب دور ما، كما أن انضمامي للطريقة القادرية تم بمباركة الشيخ سي محمد الحسين بورقلة أقول هذا لأرفع كل التباس يحيط بالعملية و حتى لا يفسر الاعتداء على انه حقد متزمت على كل ما هو مسيحي ، ذلك أنني لست مسيحية و كل سكان منطقة سوف يعلمون ذلك بما في ذلك عبد الله نفسه الذي قام بالاعتداء و في مقتطف من رسالة أخرى مؤرخة في عنابة خلال صيف سنة 1897 كتبت إلى صديقها علي عبد الوهاب تقول إليك أنت عزيزي علي الذي سأكشف له أسرار روحي ليس لأنني خجولة من اعتناقي علنا ديانة أحبها و أحترمها في الأعماق، و لكن لأنني أعرف أنك الإنسان الوحيد الذي يتفهم مواقفي و أنك لا تستقبل تصريحي بالشكوك كما يفعل بعض المسلمين أو بازدراء و سخرية كما يفعل المسيحيون جميعهم، الآن لست أبدا ملزمة حتى أكون مسلمة أن أرتدي قندورة و أبقى منزوية، هي تعاليم تم فرضها على المسلمين قصد حمايتهم من السقوط المحتمل و محافظة على طهارتهم ، و هكذا يكفي ممارسة هذه الطهارة و العمل سيكون محل تقدير ، لأنه حرّ و غير مفروض تجاربها الأدبيــة . رغم صغر سنها نسبيا وقصر تجربتها الأدبية ، تميز أدب ايزابيل ابرهارت إلى جانب التنوع في اقتحام الأجناس الأدبية المختلفة من رواية ، قصة و مقالة صحفية ، مرورا بأدب الرحلات الذي كانت تجيد تقنياته بحكم معرفتها للغة الأهالي ،عاداتهم و تقاليدهم ، و دقة الوصف في قراءة المعالم و تشخيص الأحداث. كانت تتمتع فضلا عن ذلك بزاد معرفي كبير، أثرت به كتاباتها و يتجسد ذلك فيما نعثر عليه من روائع الحكمة ، الفلسفة و التصوف داخل نصوصها ، بما يؤلف ستة مجلدات أي أنها كانت نشيطة كتابيا طالما أنها لم تعرف غير سبع سنوات في مجال الكتابة. إن العمل الأدبي بالنسبة لها هو موقف حياتي و آلية لفضح ممارسات الاستعمار و الوقوف إلى جانب المضطهدين إن الشيء الوحيد - كما تقول - الذي يساعدني على تمضية السنوات المخصصة لكل واحد منا على وجه الأرض، هو العمل الأدبي ، و هذه الحياة المتخيلة التي تملك سحرا خاصا، و توفر لنا مجالا كبيرا لرغباتنا . هذا إضافة إلى أنها كانت تملك موهبة المحقق الصحفي الذي يدوّن أقل التفاصيل وبحيث تقدم الواقع كما هو دون أن تضيف عليه آراءها ومشاعرها الذاتية. لقد كانت تقدم الواقع كما هو باعتبارها شاهدة، وحتى لو كان هذا الواقع بعيداً عن أهوائها أو كان ضدها. وبهذا المعنى أيضا تجد ادموند شارل رو بأن ايزابيل كانت بعيدة تماماً عما كان يسود آنذاك من خلط بين مصالح السياسة والمال. كما تعتبرها أول امرأة تغطي صحفيا أخبار الحرب و من قلب المعركة ، و هي تشير بذلك إلى معركة المنغار التي وقعت بالجنوب الغربي الجزائري ، و التي تميزت تغطيتها لهذه الأحداث الدامية بصدق المعالجة و الموضوعية في الطرح، فقد كانت تصغي لجميع الأطراف المتحاربة و تنتقل من مكان لآخر قاطعة مسافات كبيرة بحثا عن الحقيقة فيما كان يجري. كما تميزت نصوصها أدبيا باستخدام كثيف للكلمات العربية داخل النص المكتوب بالفرنسية ، متعمدة و عن قصد تركها كما هي في الأصل دون الحاجة لترجمتها ، فاسحة للقارئ الأوروبي فرصة ولوج النص بما يحمله من دلالات عميقة الأثر، و هو شكل في الأسلوب طبع كتاباتها و ميزها عن غيرها من المؤلفين، حيث لا يكاد يخلو نص لها من إدراج كلمات عديدة باللغة العربية الفصحى تارة و بالدارجة الجزائرية تارة أخرى ، أحصى منها الباحث الفرنسي محمد رشد ( كاتب فرنسي الأصل اعتنق الإسلام و غير اسمه متأثرا فيما يبدو بمسار ايزابيل ابرهارت التي كرس بحوثها كله في التنقيب عن حياتها و آثارها ) أحصى أكثر من 100 كلمة ، على مستوى الكتابات الأخيرة لها فقط . وأكبر الظن أنه كان لها الفضل في إثراء جزء من رصيد القاموس الفرنسي بكلمات عربية أصبحت تستعمل إلى الآن في اللغة الفرنسية، هذا إضافة إلى ما تحتويه نصوصها خاصة تلك التي تدخل في إطار أدب الرحلات من نقل دقيق لآمال و آلام السكان الجزائريين و ترجمة صادقة لأحاسيسهم، حيث كانت تنقل و بدقة كلمات الأغاني الشعبية و الأهازيج التي كانت ترددها النساء خاصة، في جميع مناسبات الفرح أو الأحزان. تعتبر النصوص الأخيرة التي كتبتها خلال الحقبة القصيرة التي سبقت وفاتها رغم ما أصاب بعضها من تلف نتيجة تعرضها لمياه الفيضان الذي أودى بحياتها، وهي نصوص تضمنت انطباعاتها و ملاحظاتها المسجلة أثناء رحلاتها عبر مناطق الجنوب الغربي الجزائري الشاسعة، لا سيما في محطة توقفها في كل من مدينتي العين الصفراء و القنادسة بصحراء الجزائر ، اعتبرها النقاد من أكثر الأوقات سعادة في حياتها و من أخصبها و أثراها أدبا و كتابة لأنها عاشت فيها كما قالت : تواجدا مضاعفا في الحياة، فهي من جهة تلك المغامرة دوما في الصحراء، و من جهة أخرى الهادئة الرقيقة من التفكير بعيدا عن كل ما من شأنه أن يزعجها كما عرفت نصوصها تواجد الأنا الأنثوية كما لم يحدث ذلك من قبل، و هو شيء مهم في مسارها الأدبي و الحياتي، إذا ما عرفنا شخصية الكاتبة التي كانت ترتدي عن قناعة اللباس الذكوري في حلّها و ترحالها، علاوة على حرصها على إمضاء جميع كتاباتها بأسماء ذكورية ( نيكولا بودلانسكي، محمود السعدي ) و يعزو ذلك حسب بعض الباحثين فيما يبدو إلى هامش الأمن في التنقل و الحرية في الكتابة المتاحين لها نتيجة للحماية التي وفرها لها الجنرال الفرنسي ليوتي، عقب تعرفه عليها و إبداء إعجابه بكتاباتها و بشخصيتها. وكان ليوتي قد كتب عن وفاتها قائلا : لقد كانت تمثل أكثر ما يجذبني في العالم، لقد كانت ثائرة متمردة . لكم هو رائع أن يجد المرء إنساناً صادقا مع نفسه إلى هذه الدرجة بعيداً عن أي أحكام مسبقة وعن أي تبعية لأحد وعن كل مقولة سائدة إنسانـا يمضي في الحياة بقدر من الحرية التي يملكها طائر يحلق في الفضاء، يا لها من متعة الاهتمام العالمي بكتاباتــها حظي أدب ايزابيل وشخصيتها باهتمام عالمي كبير، من خلال ترجمة مؤلفاتها إلى عدد هام من اللغات الأوروبية ، و قد وجد المؤلفون و الباحثون ضالتهم في شخصيتها المغامرة ، و ما شابها من ألغاز و أساطير ليحولوها إلى مادة للبحث و الإبداع، و هكذا أنتجت المطابع الأوروبية و لا تزال عشرات الكتب ما بين رواية و دراسة و بحث تناولت بالتفصيل حياتها و آثارها . نذكر من أهم المؤلفين إلى جانب الكاتبة الفرنسية الكبيرة ايدموند شارل رو التي سبق الإشارة إلى ثلاثيتها المؤلفة عنها ، الأستاذ محمد رشد في كتابيه: ايزابيل ، المغاربية بالتبني و السفر الأخير في الظل الدافئ للإسلام الصادر عن المؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر سنة 1991 ، هناك فرانسواز دوبون في كتابيها تاج الرمال الصادر عام 1967 و حياة ايزابيل ابرهارت عن دار فلاماريون للنشر بباريس و قد صدر عام 1968، انات كوباك و كتابها ايزابيل ابرهارت حياة و موت ثائرة ، عن داركالمان ليفي للنشر باريس سنة 1988



سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)