كتاب الأستاذين عمر تابليت وصالح بن فليس حول العقيد محمد الطاهر عبيدي(*) المعروف بالحاج لخضر يعطيني شخصيا فرصة تعريف قراء “الفجر” بهذه الشخصية المتميزة، في مراحل النضال السياسي والكفاح المسلح، وفي الجهاد الأكبر كذلك، كما تدل على ذلك مآثره العمرانية في باتنة التي أصبحت وقفا على طلبة العلوم الإجتماعية والدينية.لقد حاولت في حياة الفقيد أن أسجل شهادته كذا مرة، مثلما فعلت مع العديد من رجالات النضال السياس بوثورة التحرير.. لكنني فشلت في ذلك، بسبب طريقة اعتذاره التي لا تختلف كثيرا عن النهر والتوبيخ!
لذا أجد في هذا الجهد من الأستاذين قليلا من العزاء عن فشلي، قليلا فقط لأنهما تحدثا عن الولاية الأولى والثورة التحريرية بصفة عامة، بدل التعمق في التعريف بهذا المناضل الظاهرة: مناضل من صميم القاعدة، تدفعه الظروف دفعا إلى واجهة الأحداث والقيادة، فيتحمل الأمانة بشيء من الخشونة والفضاضة، لكن نزاهته ووداعته تجعل كل ذلك مقبولا منه إلى حد ما..
طبعا من الصعب أن نقنع خصوم الحاج لخضر -أو ضحاياه بذلك.. ومع ذلك ندعوهم إلى النظر أكثر إلى رصيد هذا العملاق في مرحلة النضال السياسي والكفاح المسلح، دون أن ننسى مآثره في مرحلة الجهاد الأكبر.
في استقبال بن طوبال وزيغود
ولد محمد الطاهر عبيدي المعروف بالحاج لخضر بقرية تيقري، دوار أولاد شليح باتنة في 3 مارس 1914، ولد وسط أسرة فقيرة، ما جعله يتعلم الإعتماد على نفسه منذ صغره..
ولا شك أنه امتهن في صباه ومقتبل شبابه، ما تيسر من الأعمال المتواضعة التي كان يتيحها محيطه المتميز بالإشتراك في الفقر والحرمان.
وفي سنة 1936 وقد اكتمل جسدًا وقوة، هاجر إلى فرنسا لعرض امكانياته البدنية في سوق العمل.. وقد اشتغل أولا في شركة لصنع الأسلاك الشائكة، قبل أن يستقر به المقام لدى سيدة فرنسية تملك مخبزة غير بعيد عن باريس. وفي تلك الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، أصيب بسوسة الوطنية جراء الإحتكاك بمناضلي حزب الشعب الجزائزي، لاسيما أحمد الوهراني الذي هداه إلى طريق استعادة وطنه السليب. ومع بداية الحرب وتدهور الأوضاع الإقتصادية بفرنسا، عاد إلى الجزائر ليوظف ما وفر من مال في التجارة والفلاحة. وغداة الحرب وانتعاش الحياة السياسية، وجدت سوسة الوطنية الكامنة في أعماقه المناخ المناسب لتخرج من شرنقتها، وتعبر عن نفسها في الهواء الطلق.. كان الشاب محمد الطاهر بفضل هذه السوسة وتجربة الهجرة إلى فرنسا يبغض الظاهرة الإستعمارية، وقد انتفض ذات يوم لمرأى دركي، أهان أمامه بائعا متجولا يدفع عربة بضاعته، فتدخل فورا، ما أدى إلى شجار مع العون الفرنسي، انتهى بالشاب الثائر إلى السجن، ثم إلى النفي بتونس الشقيقة.
مكث بتونس نحو أربع سنوات، فتح خلالها مقهى شراكة مع صديق.. وهناك ازدادت علاقته بالوطنية وثوقا، بالنظر إلى الأجواء المناسبة.. واحتكاكه بالحركة الطلابية خاصة.. وكان لا يبخل بمساعدة الطلاب الجزائريين في الزيتونة، سواء كانوا من أنصار حركة الإنتصار أو جمعية العلماء. وعند عودته من منفاه، كانت الحركة الوطنية تعيش منعرجا تاريخيا في صيرورتها: الإنتقال بالثورة من طور الفكر إلى طور المشروع.. وجد محمد الطاهر عبيدي نفسه في تيار هذه الحركة بصفة طبيعية تماما.. كما يشهد بذلك تكليفه باستقبال الناجين من موجة الإعتقالات التي ضربت مناضلي “المنظمة الخاصة” بشرق البلاد.. فهو الذي كان في انتظار مسعود بالعقون عند مدخل باتنة الشمالي، وكان مرفوقا بالدفعة الأولى التي كان من بين عناصرها رابح بيطاط وسليمان بن طوبال.. كان ذلك في بداية صيف 1950، وتكررت العملية بعد سنة، باستقبال الفارين من سجن عنابة المحاكمين في قضية “المنظمة الخاصة”، وفي مقدمتهم يوسف زيغود.
كان عبيدي ومعه عبد الحميد بوضياف يستقبل عناصر المنظمة، ويقوم بإيوائهم بعض الوقت، في انتظار نقلهم إلى ناحية آريس وتوزيعهم على أعراشها.. وكان يستعين في نضاله شاحنته أيضا.. وقد كلف في هذا الصدد من حزبه حركة الإنتصار بعدة مهام منها نقل جثمان مناضل من بسكرة يدعى محمد شنڤل كان توفي بسجن عنابة..
وكان الحزب يستفيد كذلك من الحضور البدني لهذا المناضل القاعدي المنضبط، لمواجهة خصومه من الأحزاب الأخرى بدءا بحزب البيان.. مثلما حدث في إحدى الحملات الإنتخابية، أين ترأس فرحات عباس مهرجانا بعين التوتة (باتنة)، فكان محمد الطاهر من المناضلين الذين كلفوا بالتشويش عليه.. ويروي الحاج شخصيا، أنه مسك المنصة التي أقيمت بالمناسبة، وقام بهزها هزة عنيفة وهو ينهر زعيم حزب البيان قائلا: “أنزل أيها اللائيكي! أنزل!”. في خريف 1952 أدى المناضل محمد الطاهر عبيدي فريضة الحج، فأصبح يعرف أثر ذلك بالحاج لخضر، على عادة الجزائريين عامة.. كان عمره آنذاك 38 سنة.. وكان الحاج مصالي زعيم حركة الإنتصار قد سبقه لزيارة البقاع المقدسة بعام واحد.
مدفع الإيمان يهاجم ثكنة الدبابات
يكشف الحاج لخضر عن جوانب دقيقة من التحضير لفاتح نوفمبر 1954 منها: عمليات الفرز والتضليل..
ففي أزمة حركة الإنتصار التي خرجت إلى ساحة القاعدة في فبراير 54 تلقى أنصار الثورة تعليمات بالمشاركة في التمييز بين المستعدين لتأييدها وبين المعارضين أو المتمردين. وقد أمروا في هذا الصدد بمواجهة محدثهم بالسؤال الفخ التالي: “ما موقفك من الكفاح بحد السلاح؟“
وطلب منهم الإكتفاء بتسجيل الذي يبدون ترحيبا واستعدادا جديا لتلبية نداء الثورة، مع تقسيمهم إلى فئتين حسب الإستعداد البدني والمعنوي: مرشحين لحمل السلاح، ومرشحين لمهام الإسناد، وتبع ذلك نوع من تضليل خصوم اختيار الثورة، بحيلة التظاهرة باعتزال النضال بسبب صدقة أزمة الإنشقاق، مع إعلان الحياد وتجنب الإتصال بعامة المواطنين ما أمكن.. وكان أنصار مصالي بباتنة قد نشطوا في الإتجاه المعاكس: محاولة اكتشاف دعاة الحياد وأنصار الأمانة العامة للحزب في آن واحد وعندما اقتربت ساعة الحقيقة، تلقى الحاج ورفاقه من القائد بن بولعيد إشارة التحفيز، استعداد لتلقي الإذن بالشروع في الثورة.. وبعد عصر الجمعة 29 أكتوبر، كان الحاج ورفاقه في طريقهم إلى خنقه الحدادة، وبالضبط إلى دار بولقواس فيها، مكان التجمع الرئيسي الثاني إلى جانب تجمع دشرة أولاد موسى بالقرب من آريس.
وحرصا على تأمين المكان لجأ سي مصطفي إلى دليلين: الأول لمرافقتهم من باتنة إلى مفترق الطريق آريس المدينة، والثاني من المفترق إلى مكان التجمع، وبعد عشاء ليلة فاتح نوفمبر، ترأس قائد المنطقة الأولى اجتماعا وسط غابة خنقة معاش، تم خلاله تعيين قادة الأفواج وتكوينها.. فكان فوج الحاج يضم 25 نفرا، من بينهم الثائر الشهير بلقاسم ڤرين.. وحدد للفوج هدف صعب: ثكنة الدبابات بباتنة.. مثل هذه العملية كانت تستوجب تحضيرا مسبقا كافيا، تخطيطا ملائما، مع توفير الإمكانيات والوسائل المناسبة.. لذا كانت نتائجها محدودة: مقتل عريف.
طبعا كانت النتائج المنوية أهم بكثير، ومنها إشعار العدو بقوة إيمان الثوار وجرأتهم، ما جعلهم يهاجمون ثكنة دبابات بوسائل متواضعة جدا.. عقب عمليات ليلة فاتح نوفمبر عين الحاج لخضر على رأس قطاع باتنة الذي يغطي مساحة واسعة من الناحية الأولى التي تمتد غربا إلى مشارف برج بوعريريج والمسيلة..
كان الحاج مطالبا بتنشيط قطاعه، وفي هذا الإطار كان عليه أن ينفذ عدد من العمليات انطلاقا من جبل الشلعلع مقر قيادته منها:
تخريب سكة القطار ما بين باتنة وبسكرة
مهاجمة مزرعة المستوطن “بوزو” بسريانة، وهي العملية التي شاهدت سقوط أول شهيد بالقطاع وهو عمر أقرور.
تصفية المستوطن “فياما” عصر 14 يونيو 1955، وهو من جبابرة المستوطنين بالناحية.. وقد ثأر جيش الإحتلال له بقتل 14 نفرا من عائلات خزار وبالقاضي وبغداش..
وفي ديسمبر من نفس السنة، اجتمع الحاج بقائد المنطقة بن بولعيد الذي تمكن من الفرار من سجن الكدية بقسنطينة قبل أسابيع معدودة، وكان اللقاء من مركز احميدة معاش بجبل وستيلي.. وصادف بعين المكان وجود (4) مناضلين في الحزب الشيوعي الجزائري، أبقاهم سي مصطفى مع مجموعة الحاج لخضر، وطلب إليه أن يصطحبهم معه إلى اجتماع تافرنت في غضون الأسبوع الثاني من يناير 1956..
وقبيل فرار سي مصطفى، كانت المنطقة الأولى قد عاشت مأساة اغتيال نائبه بشير شيحاني.. ويحمل الحاج مسؤولية ذلك إلى عاجل عجول خاصة.. وبرأيه أن هذا الأخير لم يقبل في قرارة نفسه استخلاف شيحاني، إذ كان يرى نفسه أجدر منه بذلك.. لذا أخذ يكيد له باختلاق سلسلة من الإتهامات، لا أساس لها من الصحة..
دعي الحاج لخضر إلى اجتماع تافرنت الثاني، في غضون الأسبوع الأخير من مارس 1956.. وصل مع فوجه مكان الإجتماع مساء 22، واتصل فورا بمجموعة القيادة، فوجد سي مصطفى منهمكا في محاولة تشغيل جهاز اللاسلكي (الملغم)، فلم يتمالك عن تنبيهه إلى ضرورة مراعاة الإحتياطات الأمنية في مثل هذه الحالة، لم يأخذ سي مصطفى التنبيه بعين الإعتبار، فحدث ما حدث، على قول المثل: إذا قصفت الأعمار، عميت الأبصار”..
احتسب رفاق بن بولعيد استشهاد قائدهم، وكفكفوا دموعهم.. وبعد نحو 3 أسابيع قرروا الإجتماع في “تاغدة“، للنظر في الوضع ومحاولة استخلافه.. حضر الإجتماع 11 مسؤولا، في غياب معظم المناطق الشرقية، بدءا بعاجل عجول وعباس لغرور ولزهر شريط.. جلس المجتمعون يتناظرون، وكأن على رؤسهم الطير، فبادر الحاج لخضر بعفويته وطيبته المعهودة بمحاولة رفع الحرج وافتتاح الإجتماع.. غير أنه لم يكتف بذلك.. بل قام بتفجير قنبلة كادت تنسف الإجتماع نفسا.. لقد بدا له أن يرشح عجول لخلافة بن بولعيد في حضور ألذ خصومه، وفي مقدمتهم عمر بن بولعيد ومسعود عايسي! وأكثر من ذلك حاول اقناع هذين الخصمين بقبول اقتراحه، على أساس أن مرشحه أجدر وأقدر من كليهما!
لحسن الحظ أن المجتمعين لم يتفرقوا شذر مذر، واستطاعوا بعد جهد جهيد الإتفاق على حل مؤقت: تعيين قيادة من 12 مسؤولا! بعد نحو شهر من هذا الإجتماع، تمكن عمر بن بولعيد من الإتصال بقيادة المنظقة الثالثة التي بدأت في الإستدعدا لإحتضان اجتماع قادة المناطق بمبادرة من عبان وزيغود خاصة. وحاول إثر عودته تثمين هذا الإتصال، بتشكيل وفد المنطقة الأولى حسب رغبته، طمعا في تزكيته قائدا أثناء المؤتمر.. لكن في الطريق إلى مقر اللقاء الوطني بأوزلاقن، تبين أن أغلبية عناصر الوفد ترفض أو تتحفظ على هذه التزكية! هذه المفاجأة جعلت الوفد، يفضل بدل المشاركة في اللقاء انتظار نتائجه!
هذه النتائج أبلغهم بها الرائد عميروش الذي اجتمع به ناحية القصر في المعاضيد.. ابتداء من (3) سبتمبر 1956. وكانت مهمته إلى جانب ذلك تتمثل في محاولة تعيين قيادة موحدة للولاية الألوى التسمية الجديدة المنبثقة عن مؤتمر الصومام..
وفوجئ المشاركون في الإجتماع بالطاهر النويشي (غمراس) يستغل الفرصة، للتذكير بأنه من نواب مصطفى بن بولعيد أسوة بكل من عجول ولغرور، وأن القائد الشهيد غداة هروبه من السجن حمل مآسي الولاية والمشاكل التي تتخبط فيها لكل من هذين الأخيرين..
ومعنى ذلك باختصار، أنه الأجدر بقيادة الولاية..
ويرجع الحاج لخضر فشل عميروش في مهمته آنفة الذكر، إلى وقوعه تحت تأثير عمر بن بولعيد وعايسي اللذين قاما بتوجيهه خطأ، نحو تجنيد عجول باعتباره مصدر مشاكل الولاية..
وبعد محاولة تصفية عجول مساء 19 أو 20 أكتوبر الموالي، غضب الحاج لخضر، لأنه كان الشخص الوحيد الذي يحظى بثقته، وبفضله قبل دعوة عميروش لحضور الإجتماع الذي تحول إلى نوع من الإدانة ومحاولة إعدام.
لذا طلب من عميروش أن يغادر الولاية فورا، تجنبا لردود فعل جنود عجول.. وتطوع لتأمين طريق عودته ومرافقيه إلى غاية جبال بوطالب بالمنطقة الأولى من الولاية..
(يتبع)
(*) العقيد الحاج لخضر، قائد الولاية الأولى التاريخية في الجهادين، تأليف الأستاذين عمر تابليت وصالح بن فليس، منشورات خير جليس، باتنة 2012م
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 08/10/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الفجر
المصدر : www.al-fadjr.com