الجزائر

فيلم "فرانكوفونيا".. صرخة لحماية التراث العالمي



فيلم
يقدّم فيلم، المخرج الروسي الكسندر سوكوروف "فرانكوفونيا"، الذي يتخذ شكل مقالة تأملية، خلطة يمكن أن نسميها "سوكروفية"، فسوكروف بات أحد أصحاب الأساليب الفنية المميّزة في المشهد السينمائي الراهن، واستطاع عبر أفلامه الروائية والوثائقية وحياته المهنية الطويلة أن يصنع بصمته الخاصة بين كبار مخرجي السينما المعاصرة.ومن سماته الأسلوبية، المزاوجة بين الروائي والوثائقي واستخدام صوت السارد بأسلوب أقرب إلى التداعي الحرّ أو تيار الوعي في الرواية، الذي سمح له بتقديم تأملاته ورؤاه المعرفية وتعليقاته أحيانا على ما يجري، بل ومحاورته للشخصيات بوصفه واحدا منها، فضلا عن مزواجة الأحلام والرؤى الخيالية مع الحدث الواقعي، وإن تراجعت عناصر أخرى من مميزاته الأسلوبية، لكنها لم تختف كليا في هذا الفيلم ، كاللقطات الطويلة وحضور المشهد الطبيعي المميز لديه.يبدأ سوكروف خلطته بلقطات فوتغرافية لكبار رموز الثقافة الروسية، وتحديدا تشيخوف وتولستوي، بعضها تطهرهما على فراش الموت، ويخاطبهما بالاسم مستنهضا إياهما، ثم ننتقل إلى شاشة مظلمة وصوت حوار متقطع عبر السكايب مع قبطان سفينة تحمل حاويات تضم تحفا فنية، ويبدو أنها وسط أمواج بحر عاتية وطقس سيء (استعارة القبطان هنا تذكر بفيلم سوكروف الوثائقي "اعتراف: من يوميات قبطان" الذي قدم في خمس حلقات تلفزيونية)، لكنها استعارة عامة تظل محورا أساسيا في بناء الفيلم وتجعله صرخة تحذير ضدّ ما يتهدّد التراث الثقافي الإنساني من خطر، وكأنه فلك أو سفينة نوح، وسط بحر الحروب والتدمير الهائج.الرحلة إلى باريسوينتقل سوكروف بعد ذلك إلى باريس في الأربعينيات في فرنسا المحتلة من النازيين، ويستخدم مجموعة من الأشرطة الوثائقية، تقدّم لقطات من شوارع باريس الخالية ومحاولة الناس التأقلم مع الحياة تحت الاحتلال في تلك الفترة، كما يستعرض متحف اللوفر ومراحل بنائه، قبل أن ينتقل إلى خيطه الدرامي الرئيسي، وهو العلاقة بين مدير متحف اللوفر جاك جوجار وضابط ألماني، هو الكونت فرانسس وولف مترنيخ، الذي ترسله القيادة الألمانية للأشراف وحصر التحف الفنية التي يضمها متحف اللوفر، والتي قام الفرنسيون بنقلها إلى أماكن سرية في قصور وبيوت ومخازن أسر مختلفة للحفاظ عليها.التضحية في سبيل حفظ التراثويدفع عشق الرجلان، المثقفان، للفن وحرصهما على إنقاذ التراث الإنساني بهما للوقوف في خندق واحد لإنقاذ هذا التراث على الرغم من موقعيهما في جبهتين مختلفتين، فوجوجار، دفعه حرصه على أمانة حفظ اللوفر التي في عنقه إلى البقاء موظفا في الخدمة العامة في الإدارة الفرنسية تحت الإحتلال النازي، على الرغم من مغادرة العديد من زملائه، وثقافة ميترنيخ، الأرستقراطي العاشق للفنون، تجعله محملا بمهمة الحفاظ على هذا المنجز الفني الإنساني الكبير ومتحديا لقيادته ومنطق الحروب والتدمير الذي سارت عليه، وهذه صورة عن علاقة استثنائية خارج سياق ركام الصور النمطية التي تمتلأ بها السينما والأدب والثقافة الشعبية لهذا النمط من الشخصيات، كتقديم الأول في صيغة الخائن، ما دام ارتضى التعاون مع المحتل، والثاني في صيغة الغازي المستبدّ والمتجبر.الذاكرة والنسيانيستغل سوكروف هذه الحكاية ليقدم تأملاته عن علاقة الفن بالسلطة أو القوة بشكل أعمّ، ويستثمر معروضات اللوفر الغنية ليناقش أطروحته تلك، بدءًا من الثيران المجنحة وأفاريز القصور الآشورية ومنحوتاتها التي تمجّد القوة، ويتوقف عندها طويلا، إلى الأعمال المعاصرة.وأثناء تجواله في المتحف، يستحضر سوكروف شبحين يتجوّلان في المتحف، الأول لنابليون الذي يعزى إليه الفضل في إنشاء الكثير من مرافق المتحف وجلب تحف الحضارات الإنسانية المختلفة إليه، والثاني لماريان، فنراهما يدوران في أروقته، نابليون مردّدا كل هذا بفضلي "أنا جلبت كل ذلك"، وماريان لا تردّد سوى شعار الثورة الفرنسية "حرية، مساواة، أخوة"، ولا يعدم سوكروف أن يزجّ هنا أشرطة وثائقية أخرى من الأربعينيات، كتلك التي تظهر هتلر متجوّلا في باريس أمام برج إيفل أو متحف اللوفر.لا شك أن باريس هنا تتجاوز خصوصيتها كمكان لتصبح تجسيدا للثقافة الأوروبية، تلك الفكرة التي يلمح إليها سوكروف دائما، وركّز عليها في فيلمه السابق "رشان أرك"، جاعلا من الارميتاج، رمز هذه الثقافة المشتركة ومن شبح القنصل الفرنسي في روسيا القرن التاسع عشر دليل السرد الأساسي الذي نتابع المشاهد من منظوره مقابل تعليقات الراوي (سوكروف نفسه) في بنية حوارية متقابلة بينهما.بيد أن سوكروف في تركيزه على مفهوم الثقافة الأوروبية، وهي قضية مهمة في روسيا الواقعة بين قارتين أوروبا وآسيا، لا يدعو إلى اندماج ثقافات البلدان الأوروبية في ثقافة واحدة، بل على التركيز خصوصيات هذه الثقافات المختلفة ضمن هذه البوتقة الجامعة التي اسمها الثقافة الأوروبية، كما أشار في المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض الفيلم في الموسترا (مهرجان فينيسيا).وعلى الرغم من احترامه الشديد للثقافة الفرنسية وميله إليها، يعود سوكروف للتساؤل والمقارنة مع ما فعله الألمان من قصف وتدمير طال المعالم والمنجزات الحضارية في مدن شرق أوروبا، وما تضمّه من تراث فنّي إنساني وتحف فنية عالمية ثرة، وبشكل خاص متحف الارميتاج في بطرسبورغ.الفن والسلطةووسط هذه الانتقالات السردية يظل سوكروف يطرح تأملاته بحرية شديدة، فيتوقف، مثلا، عند أهمية رسم البورتريه في الثقافة الأوروبية، ويراه إنجازا أوروبيا خالصا، بالمقارنة مع ثقافات أخرى لم تمل إلى التشخيص.ووسط فيوضات الجمال والفن، يتألق المصور الفرنسي برونو ديلبونيل في تجسيد رؤى المخرج وتأملاته تلك، فبدت صوره في غناها وتنوعها وألوانها وتوزيع الإنارة فيها أقرب إلى التحف الفنية نفسها التي يصوّرها وامتدادا لأجوائها، فنراه يستعير توزيع الألوان والضوء والكتل فيها، وطغي عليها لون أصفر مغبر، مثل ذاك الذي نراه في صور الأماكن العتيقة، وحرص على تصوير المشاهد الروائية بمرشحات تظهرها أقرب إلى الأفلام الوثائقية القديمة، بالأبيض والأسود.Share 0a href="http://twitter.com/share'text=فيلم "فرانكوفونيا".. صرخة لحماية التراث العالمي&url=http://www.elayem.com/'p=10600" onclick="window.open(this.href, 'Post this On twitter', 'menubar=no,toolbar=no,resizable=no,scrollbars=no,width=600,height=455');"Tweet 0Share 0a href="http://www.djazairess.com/elayem/#" onclick="javascript:window.open('http://www.linkedin.com/shareArticle'mini=true&url=http://www.elayem.com/'p=10600&title=فيلم "فرانكوفونيا".. صرخة لحماية التراث العالمي&source=http://www.elayem.com', , 'menubar=no,toolbar=no,resizable=no,scrollbars=no,height=455,width=600');return false;"Share 0a href="http://pinterest.com/pin/create/bookmarklet/'media=http://www.elayem.com/wp-content/uploads/2015/09/فيلم-فرانكوفونيا..-صرخة-لحماية-التراث-العالمي-300x133.jpg& url=http://www.elayem.com/'p=10600& is_video=false&description=فيلم "فرانكوفونيا".. صرخة لحماية التراث العالمي" onclick="javascript:window.open(this.href, '_blank', 'menubar=no,toolbar=no,resizable=no,scrollbars=no,height=455,width=600');return false;"Share 0




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)