الجزائر

في رحيل مانديلا.. وداعا ماديبا



في رحيل مانديلا.. وداعا ماديبا
قبضة منتصبة.. جبهة عالية، وابتسامة مشرقة، ترسم ذلك الدهاء الذي لا يوصف في عينيه. هي آخر صورة لرجل ذهب إلى السماء ليلتحق بغاندي، من دون أن يطلب منه المقابل. لم يكن نيلسون مانديلا رجلا يريد أن يخضع له التاريخ، كان فقط يريد تحويل مساره.مشواره كمناضل كان دون أخاديد أو تجاعيد. بدم ملكي، كان محاميا لامعا، انهمك دون دوافع خفية في تغيير مصير شعبه والعالم. لم يرض بالفصل العنصري، كان يكرهه وقاومه واستطاع النصر عليه، من سجون جزيرة روبن. سبعة وعشرون عاما دون انحناء، أو يأس أو عنف، فقط تضحية بحياته من أجل أن يعيش السود أحرارا في المجتمع البشري.منذ وفاة منديلا، لا تزال كلمات التأبين تتهاطل وقصائد المدح تتلى، ولا زالت التيجان تنزل حزنا على وفاته. السياسيون انحنوا لهذا الرجل وهو مسجى في كفن استمد لونه من لون السحاب الأبيض. وكتّاب السير اختاروا مراحل من حياة منديلا التي مرت من دون أخطاء ولا شوائب لقراءتها والحديث عنها في القنوات التلفزيونية. العالم بأسره يتذكر ماديبا ويتوب عن نسيان ذاكرته طويلا. في المكان المناسب، كانت الدول كلها، في حضرة مشتركة، تعرب عن مشاعر الحزن القوية والعميقة لرحيل ماديبا. أمر جيد على العموم، رغم ابتعاد الكثيرين عن التزاماته ومبادئه ومثله، على غرار الحكومة الجزائرية مثلا، التي قامت بتنكيس العلم الوطني تنفيذا لإجراء بروتوكولي، وتضامن مزيف، لا تعبيرا حزنا بصدق على رجل تُقاسمه القيم التي حارب من أجلها.إذًا، خلال ستين سنة، كانت الجزائر السخية، التي تعيش على أحلام ”اليوتوبيا” الناعمة ببناء عالم مثالي، تساند مقاومة نظام الأبارتايد. منذ ذلك الحين، وعلى مر السنين، انحرف المسار، وحاقت المصائب، وحادت البلاد عن طريق الآمال والأوهام. مجردة من قيمها، لم تعد سوى بلد برداء رثّ، منطلقة من هنا أو من هناك، من إيديولوجية إلى أخرى، من ثقافة إلى أخرى، مشوشة وفاقدة لاتجاه البوصلة، مغطاة من عريها القبيح بالأكياس البلاستيكية، ببرامج ”عدل”، بمدن من القمامة. هل نريد أن نقدّم لمانديلا في صلاته الأخيرة هذه القاذورات؟رغم ذلك، الجزائر هي الوحيدة دون شك التي يمكنها أن تقيّم احتفاء يهزّ النفوس لنزيل ”روبن ايسلند”، دون أن يظهر ذلك مجانبا للمنطق أو غير مناسب. والسبب أنها خاضت سنة 1954 حربا جريئة للتحرير، هزّت يقين الإمبراطوريات الاستعمارية. مكافحة الاستعمار، خذوا إذًا الأثر واظهروا بمنظر جميل في عالم الذين يريدون أن يرفعوا رؤوسهم.كان النضال في الجزائر إبان الثورة مساويا لمكافحة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، إلا أن مانديلا لم يكن يملك قواعد حياة السادة الكبار نفسها، الذين حوّلوا ثورة 1 نوفمبر 1954 إلى ريع سنوي. ما هو الدعاء الذي ينبغي أن نتضرع به على مانديلا حتى نُكفر عن أنفسنا الذنوب والهموم التي تملأ جسم هذا البلد: اغتيال بوضياف، نفي آيت أحمد، حبس فرحات عباس، إهلاك النخبة وإذلال للشعب.. البلد معنوياته في الحضيض، حيث كل طموح يُقتل في المهد، إلا طموح هؤلاء المسؤولين النهمين الذين يريدون افتراس ما تبقى من جزائر تم التخلي عنها. كان مانديلا يسير نحو الحرية لخلق مجتمع متنوع يشبه قوس قزح.. شيّد الجدران القوية المبنية على أسس وعقائد قديمة قدم الإنسانية.. تخلى عن السلطة لإنشاء مؤسسة لمحاربة الإيدز في وقت يطمح البعض للوصول إلى عهدة رابعة في سن الشيخوخة.. استلم ماديبا السلطة تحت إلحاح حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، لم يكن رئيسا سوى لعهدة واحدة، لا لينتقم من الكراهية التي عانى منها شعبه، أو يستحوذ على الثروة التي تكتنزها جنوب إفريقيا، ولكن ليصالح بين مواطني هذا البلد الكبير، ويردم الفجوة السحيقة التي تفرق البيض مع السود، ويوحّدهم بكيمياء بسيطة، وخليط ذكي من القوة المعنوية، وقناعات المواطنين، ومن رؤية للمستقبل، لا يتقنها إلا العظماء. في الجزائر، حاولنا ذلك، ولكننا كافأنا القاتل بدل أن ننصف الأرملة.أولئك الذين نهبوا البلد، يقومون بالتقليد الأعمى، ويحتقرون الذين يخشون من الاستقرار الهشّ للجمهورية. نطارد الأزواج الشباب في الغابات ووراء الشجيرات، ونسجن الذين يرفضون الصيام، نزرع كراهية غليظة بين الإسلاميين والديمقراطيين، بين المعرّبين والفرانكفونيين، بين المناطق واللهجات المحلية. نهمّش الفئات الاجتماعية، وبحركة غير مفهومة، نضع القاعدة الشيطانية 51/49، من أجل تسميم الاقتصاد الوطني، وعزل البلاد عن العالم والمعرفة. مانديلا كان يحلم بمجتمع مزدهر، ونحن جعلنا من الجزائر بلدا محزنا. مانديلا كان يبتسم للآخرين، يرقص معهم ويقول لهم كلمات بسيطة وحارة، بوتفليقة ترأّس الجزائر خلال ثلاث عهدات، كان عابسا، ينظر بعين التهديد ويتكلم رافعا سبابة الاتهام. حاليا كل شيء يفرّق البلدين، اليوتوبيات والآمال، القيم والمبادئ.لهذا السبب، يبدو غير مجد تنكيس الراية الوطنية، وإرسال الوفود إلى جوهانسبورغ. محاولة يائسة لإظهار الوجود، ماديبا يساوى طبقات السماء ونحن في الحجم مجرد أقزام.دون شك، يبدو في متناولنا تكريم شكيب خليل، أو صديقنا ”خليفة”، أو سوناطراك 1 و2 و3، وكل القضايا الأخرى التي قد لا يسعفنا الوقت لعدّها أو جردها.أليس بإمكاننا الاحتفاء بطريقنا السيّار، بسدودنا وبمحطاتنا الكهربائية. نقيم لأنفسنا تكريما متبادلا، وعناقا يعطينا قوة لتعظيم إخفاقاتنا. لنحتفظ بهذا العناق، لأنه الفعل الوحيد تقريبا الذي نقوم به دون دفع عمولات.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)