الجزائر

في ذكرى ميلاد ماركيز.. كيف كتب روايته الأسطورية مئة عام من العزلة؟



في ذكرى ميلاد ماركيز.. كيف كتب روايته الأسطورية مئة عام من العزلة؟
في السادس من مارس، حلت الذكرى ال 88 لمولد الأديب الكولومبي الأسطوري غابريل غارسيا ماركيز، الذي رحل عن عالمنا في أبريل من العام الماضي وتوقفت سنين عمره عند ال 87."ماركيز" الذي حظي بشهرة خرافية، بعد نشر عبقريته "مئة عام من العزلة"، والتي أهّلته عن جدارة للحصول على جائزة نوبل عام 1982، تلك الرواية التي وِضعت ضمن أفضل مئة رواية في التاريخ، وتُرجِمت إلى أكثر من 30 لغة وبيع منها بصورة رسمية حول العالم -بعيدًا عن ملايين النُسخ الأخرى المزروة- ما يزيد عن 30 مليون نسخة، وعلّقت صحيفة النيويورك تايمز بعد صدور الطبعة الإنجليزية منها: "قليلة هي الروايات التي تغير حياة الناس وهذه واحدة من تلك الروايات". واليوم، في ذكرى مولد "جابو"، نتعرّض لسرد كواليس كتابة هذه الرواية، التي أجمع النقّاد أنها: أول عمل أدبي، بجانب سفر التكوين، يجب على البشرية كلها قراءته.ليس من البشر..في البداية، أؤمن بالإنسان وبقدراته العقلية والإبداعية، وأن العبقرية ليس لها سقفٌ أو حدودٌ. لكن، أستطيع أن أَقول بشيءٍ من الثقة، إنه:إما أن "ماركيز" ليس من البشر، بل هو ممسوس. يتلقى المساعدة -في كتاباته- من ملك الجان شخصيًا، أو من الجدات الجنيات القديمات، اللاتي شهدن خلق الكون ويحفظن عن ظهر قلب ما سيؤول إليه حال الخليقة منذ أن أخرج الله البشر من ظهور آبائهم وأشهدهم على أنفسهم وأطلقهم في الأرض ليستعيدوا ذاكرة فقدوها.أو أنه بشريٌّ مثلنا، يملك ما نملك ولا يزيد عنا يدًا أو ساقًا. فقط، لديه من طول البال ما يسمح له بكتابة رواية عادية متسلسلة الأحداث غير متشابهة الأسماء أو متشابكة التكوين فيما يقرب من 500 صفحة، ثم يعود و يحضر دفاتر جديدة ويبدأ في نقل الأحداث -التي كتبها سلفًا- بصورة متداخلة وبالغة التعقيد، وقد صار على علمٍ بتوالي الأحداث وما ستؤول إليه النهايات.لا بد وأنه فعل ذلك؛ فلا يعقل أن يستطيع بشري فانٍ مثلنا، أن يكتب بعادية رواية متداخلة بهذا الشكل، تتكون من 500 صفحة وتقع أحداثها في مئة عام ولا يوجد في شجرة العائلة المكونة من ستة أجيال إلا اسمان اثنان، أورليانو وخوسيه أركاديو.رواية رواء رواية..عندما عُرضت في إحدى صالات المزادات ببرشلونة في تسعينيات القرن الماضي، إحدى المسودات الأصلية للرواية العالمية "مئة عام من العزلة" والتي تحتوي على 1026 تصويبًا بخط يد "ماركيز"، وسبق وأن أهداها "جابو" للصديقين جانيت ولويس ألكورثيا موقعًا عليها: "من أكثر صديق أحبكما في هذا العالم". كتب "ماركيز" مقالًا تحت عنوان: "رواية رواء رواية" في عموده اليومي في مجلة كامبيو الكولومبية التي كان يرأس تحريرها، يحكي فيه عن ملابسات كتابة هذه الملحمة الأسطورية.في أوائل أغسطس عام 1966، ذهب "ماركيز" وزوجته "مرسيدس" إلى مكتب بريد سان أنجل في المكسيك ليُرسل النسخة النهائية المكتوبة من روايته الجديدة إلى دار نشر في بيونس أيرس. كانت تكلفة إرسال النسخة حوالي 82 بيزو، في حين أن كل ما كانا يملكانه هو 53 بيزو. فما كان من "مرسيدس" إلا أنها قسّمت الرواية لنصفين وأرسلت الجزء الأول. كانا قد اعتادا على مثل هذه الأزمات اليومية بعد عام كامل من الأزمات المادية الطاحنة، وكانا قد رهنا كل ما هو ذو قيمة في صالة معروضات "مونت دي بيداد"، ولم يتبق لهم غير الآلة الكاتبة، الذي كان من المستحيل رهنها، فهي مصدر الرزق الوحيد لهما. وبعد بحث مضنٍ عمّا يمكن رهنه لإرسال الجزء الآخر من الرواية، اضطروا آسفين إلى رهن خاتمي الزواج -رغم ما يُمثّله ذلك من فأل سيئ- وعادا لمكتب البريد، ليكتشفا أن ما سبق وأرسلاه كان النصف الثاني من الرواية، لا الأول. لكن "مرسيدس" لم تعبأ بالأمر، حيث إن كل ما كان يشغل بالها وقتها هو: ألا تكون الرواية جيدة.كانت عبارة ملائمة لثمانية عشر شهرًا من الكفاح لإنهاء هذه الرواية التي كانت يُعلّقان عليها كل الآمال. فكل ما حصده "ماركيز" في ست سنوات عن أربع كتب كان "أفضل من لا شيء".كانا وقتها يعيشان في منزل للطبقة المتوسطة على رابية سان أنخل، وكان "ماركيز" يعمل كمنسق عام لمجلتي "سوثسيسوس" و"لا فاميليا" بالإضافة لعمله في مراجعة النصوص للنشر وإعلانات التلفزيون وكتابة الأغاني، وكان ذلك يكفي للعيش بشكل معقول، لكنه كان يمنعه من مواصلة كتابة الروايات والقصص القصيرة.يحكي "ماركيز" أن فكرة "مئة عام من العزلة" والتي ظلت تؤرقه لفترة، لم تكن تختلف عن أفكار رواياته السابقة فقط، ولكنها تختلف تمام الاختلاف عن كل ما قرأ في حياته -وماركيز قارئ نهم بالفعل-، وأن هذه الفكرة التي كانت تلح على رأسه وتشغل باله أثناء الإجازة القصيرة التي قضاها مع أسرته على الشاطئ -ولم ينعم فيها بلحظة واحدة من الهدوء- كانت تُسبب له نوعًا من الرعب غير معروف المصدر."حين عُدنا للمكسيك، جلست أمام آلة الكتابة لأُسجّل جملة البداية التي لم أعد أحتمل الاحتفاظ بها في داخلي أكثر من ذلك". بعد عدة سنوات وأمام فصيلة الإعدام، كان على الكولونيل أورليانو بوينديا أن يتذكر ذلك اليوم البعيد الذي اصطحبه فيه والده ليتعرف على الثلج، ومنذ تلك اللحظة لم أتوقف يومًا عن الكتابة حتى السطر الأخير من الرواية، وكأنه حلم مسيطر.اضطر ماركيز بسبب هذه الرواية أن يتوقف عن العمل كي يتفرغ لها تمامًا، وتكفلت مرسيدس -الرفيقة العظيمة- بكل المسائل الحياتية اليومية والمادية؛ حيث كان لهما حساب مفتوح لدى الجزار والبقال، وعليهما شهور إيجار متأخرة لصاحب المنزل.أمّا الأصدقاء المخلصون؛ فقسّموا أنفسهم في زيارات يومية حاملين معهم مستلزمات ضرورية للبيت والكتب والمجلات. وفي المقابل كان على "ماركيز" أن يحكي لهم الفصل الذي كَتَبه. لكن "ماركيز" كان يجتهد ليبتكر لهم قصصًا أخرى بعيدة كل البعد عمّا يكتب. فقد كان يظن أن قَص ما يكتبه، يُخيف العفاريت. حتى إنه وبعد الانتهاء من الرواية أعطاها لصديقه المقرب "ألبارو موتيس" ليقرأها، فاتصل به غاضبًا ليُخبره أنه جعله كخرقة بالية، فالذي ظل يحكيه له طوال 18 شهرًا لا يمت بأية صلة للرواية، لكن الرواية أفضل بكثير.فيما بعد وبعد أن استلم ماركيز ومرسيدس النسخ الأولى المطبوعة من الرواية في يونيو 1967، أتلفا النسخة الأصلية المكتوبة بخط اليد والتي نسخت عنها السيدة "بيرا" النسخ الثلاث الأخرى بالكربون. ولم يكونا على علمٍ وقتها أن هذه النسخة الأصلية من الممكن أن تكون أعلى قيمة من أية نُسخ أخرى، لما تحمله من تصويبات وفصل ثالث غير مقروء بأثر ماء المطر. لكن، ماركيز اعترف أنه حين مزق المسودة الأصلية لم يكن غرضه بريئًا؛ بل فعل ذلك حتى لا يتمكن أحد من كشف سر الصنعة.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)