الجزائر - A la une

في أربعينية الراحل أستاذي محمد يحياتن.. مرثية لغيمة العطر...



وحيدا كنتَ، تكتظ أغصان الكون بكوثرك، وحيدا.. وبزهر صمتك كانت تتزين الكائنات.. كم كنت طارئا أيها الأب الثمين، كم عبرت سريعا؟ كنبضة عسلية، أو كفجر عيد.
وكوليّ من أولياء الكتابة، كنت تمر فيحتفل الهواء، تُعشب السماء وأنت تمعن بدهشة في ضوء الأشياء كطفل كونيّ مشدوها، منبهرا كأنك تكاشفها للمرة الأولى، كذلك هي الأرواح العالية، أيها الأب الغالي، كأول الحب دوما، طازجة، وأُولى كشرنقة الرغبات البيضاء.
... وحيدا ولم تكن الأشياء عذراء أيها الأب الغالي كلاّ، بل عيناك... عيناك اللتان عاشتا أبدا على حافتي روحك، جاهزتين للإنسان الذي فيك... وحيدا... كنت وكلما حدثتنا، ونحن نشم في بهاء صوتك احتراق عنبر الوقت، تقفز شلالات من أنهار روحك، إلى عطش طقوسنا، عيناك أيها الأب الغالي كانتا تحفة من تحف الأرواح الباهظة، وجداول من عطر، لم يجف منديلهما يوما من أمطار الحبّ ومن بلل الأضواء، كأنك لم تُخلق إلا لتتضامن مع عصافير الناس، مع فراشات الناس، ومع غربانهم أيضا.
وحيدا كنتَ.. وكلما فتحت أزرار قميص القلب، أفرجت عن طيور إنسانك ملء أرضنا وسمائنا، أيها الأب الغالي، كم رضعنا من صدر روحك حليب الكلمات، وكم كانت قلوبنا تنمو، وتعلو، لتلامس سقف غيمتك، وحدك كنت الغيمة، في زمن القحط، غيمة عطر تحبذ المشي على قدميها.
ملَكاً سويا، تتمثل لنا الآن وأنت تخرج من كتبنا، وأنت تطل علينا من رائحة حبر أقلامنا، ومن وراء نوافذ نبضنا، تضج بك شوارع أرواحنا، وتصطخب لذكرك أيها الأب الغالي، وحيدا... كل الناس تختبئ في الظلام، ووحدك الآن تختبئ في أنوار المكان، وأنت تلبس جبّة ملكوت الأنوار، تختبئ في حبات أصواتنا وفي قطرات تنهدنا واشتياقنا.
ها نحن نُقَبِّلُ الآن يديك ورجليك بشفاه الكلمات، أيها الأب الغالي وها أنت ذا هناك جميلا حتى وأنت هناك، أنت الذي كنت سهلا كوردة... تغرينا بالحياة، إذ كنت تتظاهر بها افالعشاق يتظاهرون بالحياةب هكذا قلت لي ذات حبّ، وحدك كنت أكبر من مساحة الحياة والعشق معا، وها أنت ذا أنت تغرينا بعد الحياة بالموت، بموتك الأنيق، بالموت الذي لا يَقتل... وحده النسيان أيها الأب الغالي، النسيان قويّ الساعدين، الذي يحفر لنا قبورنا في قلوب الآخرين، لكنك كنت مزدحما بالناس، كم كنت كثيرا أيها الأب الغالي؟ لا تكفي كل أرض النسيان لتواري حسنات روحك وشغفك.
أيها الأب العزيز ها نحن أولاء نعدك ونحن القادمون عندك غدا، في مواكب الشوق والرضا والوفاء، أنك حين ترانا في رحاب حضرتك هناك، نعدك أنك ستتحسس نفسك، لأنك ستراكَ فينا بكل تفاصيلك، هناك في فردوسك حيث للأحبة روحا واحدة، وربما جسدا واحدا، هناك حيث لا مكان للغربان ولا لأفراخها.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)