الجزائر

فعلا إنه 'وصب مخيف'.



أبادر إلى القول إن ما سأكتبه اليوم لا يعبّر بالضرورة عن رأي الجريدة التي أعترف لها بأنها لم تحذف حرفا واحدا مما كتبته منذ تشرّفت بالكتابة فيها أسبوعيا منذ سنتين، ومدار ما أردت أن أقوله هو أن القارئ في العادة يتأثر بما يكتبه من يعتقد كونَهم كتاباً ونقاداْ وإعلاميين كباراً ومهمّين عن كاتب معيّن لا يعرفه، فيعملَ على اقتناء كتبه التي أشاد بها هؤلاء، وهذا ما حدث لي مع رواية "الوصب المخيف" لصاحبها رابح بوكريش، حيث اشتريتها من شارع ديدوش مراد بعد أن قرأت ما كتبه الدكتور أمين الزاوي عن صاحبها: "كنت أسعد حين كنت أراه يُعنى بنفض غبار الإهمال عن إحدى الشخصيات الجزائرية والعربية ذات الشهرة العالمية فيقدّمها في حلة أنيقة وفي حجم وجيز رغم تخصّصه في الرياضيات، وها هو يستهويه الأدب في مجاله الرحب"، وما كتبه الدكتور عبد الملك مرتاض: "يكتب بوكريش.. وفي كتابته حس البحث المستمر عن مسالك جديدة، مسالك المعلومات والأفكار التي لا تظهر للعامة، جاء من الرياضيات إلى الآداب عن حب، وعن رغبة داخلية جامحة، وتلك نار الإبداع يكتب فيشعرك بأن علاقته بالكتابة ليست علاقة المنفصل بل علاقة المندمج فيها".لكنني ما أن قرأت نصف الصفحة الأولى منها حتى صفعت نفسي لأعرف إن كان ما أقرأ في الحقيقة أم في الخيال، وسوف لن أطلق حكما الآن حتى لا أصادر حقكم في أن تحكموا بأنفسكم، هاكم اقرؤوا مدخل ما أسماه سي بوكريش رواية، المدخل فقط، علما أن ما تصادفونه من أخطاء نحوية وصرفية وأسلوبية ومطبعية وتاريخية مأخوذ كما هو من "الكتاب": "في غروب يوم من أيام 1959 كان الجو باردا، قليل المطر مع ضباب كثيف، كان الناس راجعون كل إلى حال سبيله، الرعاة مع أغنامهم، الفلاحون من حقولهم، الكل يحمل فوق كاهله تعب يوم شاق ومضن، وفجأة وإذا بصوت أحد المسبلين يعلو صارخا: اختبئوا..
اختبئوا إنها طائرات العدو تقصف المكان، وكانت هناك طائرات تتبعها طائرة عمودية وبسرعة البرق لجأ الكل إلى خندق كان هناك بينما وضعتني أمي في صندوق عتيق كانت تضع فيه أشيائها وملابسها الثمينة، وكان ذلك بالقرب من حظيرة البقر، اعتقادا منها أن المكان هناك أكثر أمانا، كانت تلك اللحظات رهيبة، قبل بدء القصف كانت العيون شاخصة إلى السماء تنظر إلى الطائرات المحلقة وإلى أين سيكون تصويبها، وفي هذه الأثناء دوى صوت رهيب وبدأ القصف في كل اتجاه، ودام لمدة طويلة، وبعد انتهاء القصف خرج الجميع من مخادعهم ليجدوا الخراب حل مكان السكينة، كانت الصيحات في كل مكان يعلوها من بعيد صوت المجاهدين مكبرا. الله أكبر. حي على الجهاد تحيا الجزائر، وكنت لا أزال في ذلك الصندوق الخشبي خائفا مذعورا جسمي كله يرتعد، وكنت أصرخ وأبكي وأضرب برجلي الصندوق، فسمع صوتي أحد المجاهدين الذي جاء مسرعا لكنه لم يفلح في فتح الصندوق فاستعان بقضيب حديدي وأخد يضرب بعنف إلى أن انفتح الصندوق فوجدني هناك وأنا مذعورا خائفا مرتعد الأوصال، وما إن أخرجني حتى سمعت أحد المجاهدين يقول: لقد انتهى القصف لا تخف، لقد غادرت الطائرات المكان، فقلت له: كنت أعتقد أنه زلزال، فقال: لا يا إبني بل همجية الاستعمار الوحشي، ثم بدأت أبحث عن عائلتي فلم أجدها وكنت أروح وأجيئ في كل مكان سائلا عنها، فشدني ذلك المجاهد إليه وقال تشبث بإيمان الله وقدره فقد سقط أفراد عائلتك كلهم شهداء، أنت الوحيد الذي تبقى، منها، أخذت أبكي وأبكي والمجاهدين يكفكفون دموعي فقال أحد المجاهدين: يبدو أن الطفل جائع فقلت له: صحيح أكاد أموت جوعا". هل أزيدكم؟، لقد كان سي بوكريش الرّوائيَّ الجزائريَّ الوحيد الذي "حظي" بحوار مطوّل أجراه معه الشاعر أزراج عمر في جريدة العرب اللندنية، وقد تطاول فيه على الرّواية الجزائرية بشكل يندى له جبين الحجر لا الإنسان فقط، كما أن الإعلامي والرّوائي حميد عبد القادر لا يتعب من الكتابة عن صاحب "الوصب" منذ تجرّأ فأعلن عن نفسه روائيا، فهل نلوم في هذه الحالة سي بوكريش أم هؤلاء الذين يلمّعونه ويفتحون له أقلامهم ومنابرهم في ظلّ حصار يمارسونه على الجودة والجيّدين؟، شخصيا أدعو جمعيات حماية المستهلك إلى أن تضيف إلى قائمة اهتماماتها حماية القرّاء من مثل هذه الكتابات، كما أدعو المحاكم إلى توسيع مفهوم انتحال الشخصية الذي يعاقب عليه القانون، فتعتبر مثل صاحب الوصب المخيف منتحلا لشخصية كاتب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)