الجزائر

فضاء القصة



فضاء القصة
حدّث صديقه عن نوبات هبوط و ارتفاع السكر التي تصيبه و كيف أنّه في كل مرّة يعدل من جرعات الأنسولين حتى لا يدخل في غيبوبة ،كيف أنّه يعاني و يتعذب ولا ينام الليل خوفا من ذلك ، كيف أنّه و كيف أنّه عذاب طيلة ليله و نهاره ،نصحه صديقه باتباع حمية في أكله و عليه أن يستشير خبيرا في هذا الاختصاص، فأجابه بأنّه فعل و لكن شيئا لم يتغير، و كأنّ هذا السكري أصبح كيانا قائما بذاته، ندا له، يعاكسه في كل خطوة يقدم عليها ...أطرق صديقه برهة، ثم نصحه بالصدقة ،علاجك هو الصدقة ،فلاذ كلاهما بالصمت الذريع، دون أن يعلق خطيبها السابق على نصيحة صديقه .تتوقف الحافلة و ينزل في أول محطة و تقفل هي راجعة إلى البيت في سيارة أجرة،بعد أن اعتذرت عن العمل ،اتخذت من مرسمها مكانا لتراقب حديقة والدتها،حاجز يفصل بينهما، نصفه العلوي واجهة زجاجية،تعطي فسحة للتأمل و إطلاق العنان للارتواء من الاخضرار والسماء والطيور و بذخ الطبيعة بكل تقلباتها في الجانب الآخر من الحي،اتخذ خطيبها السابق من كرسي في الحديقة العمومية مكانا ليريح جسده الهزيل ، خطوات مشاها أخرج لوح من الشكولاطة وقضمه على عجل و هو يلهث و يرتعش ويتصبب عرقا " كالعادة ... نوبة هبوط للسكر " ردد هذه العبارة في أعماقه مثلما يرددها في كل لحظة يشعر فيها ببدايات النوبة،فلا يلبث أن يخرج ما في جيبه من قطع السكاكر أو ألواح الشكولاطة،المهم شيء حلو ليرضي هذا البركان الهادئ الماكر،السكري وفاضت عيناه بدموع ساخنة، لم يمسحها، سرعان ما اعتصر عيناه بكلتا يديه وشهق بالبكاء واستسلم كلية له،حينما نصحه صديقه بالصدقة، مرّت بخياله خطيبته السابقة فصمت و نزل في أول محطة ليشتت صورتها بعيدا عن تفكيره ،أراد أن يتمشى و يستنشق هواء نقيا أحسّ بأنّه بحاجة إلى تلك النسمات الصباحية المنعشة علّه يغسل ذاكرته منها ... هي!؟ تردد في رأسها الحديث الذي سمعته في الحافلة ،راقبت من مكانها قطرات ندى على أوراق زهور لازالت منكمشة على نفسها،تنتظر دفء شمس الصّباح،لتستقبله بكل ألقها و أناقتها ...المرض يحرمنا هذا الإحساس .هكذا فكّر خطيبها السابق و هو يرقب الطيور الصغيرة و الحمام الذي ملأ أرضية الحديقة العمومية في انتظار يد تجود عليهم بفتات الخبز أو حبّات الأرز " أنا مريض ... حتّى التمشي أخافه حتّى دفء الشمس الذي تنتظره النبتة الصغيرة،والطير في السماء،أزقة المدينة و أسقفها والنسوة اللواتي يتنافسن في الاستيقاظ باكرا، حتّى إذا ما تسلل نور الشمس، سيجد الأرضيات المشطوفة و رائحة النقاء والإتقان تملأ المكان،سيجد الشراشف والملاءات والملابس المغسولة وهي ترفرف على أسطح المنازل ستبشرة بكرم دفء شمس الصبّاح،حتّى الأفرشة تستعطف الشمس أن تسكنها و تطهّرها والصبية في الخارج حينما يحلوا لعبهم و تعلوا أصواتهم تباعا لارتفاع قرص الشمس ،أنا ... أنا لست منهم ... نادم على ما ضيعت من متعة اللحظة مع أغلى الناس ... والدَي،حينما كانت تترجاني والدتي لأتخذ مجلسا حول صينية قهوة الصباح و خبز الدار الساخن الذي عجنته بعد أن صلّت الفجر، فأرفض ... بحجة أني مستعجل ! ياه لتعاستي و لِما ضيعت من نعمة الشبع والارتواء مع أعز الناس، جدارية شجرة العليق التي احتوت زوايا فناء بيتنا ... دالية العنب وفروعها التي شكلت سقيفة تمشط نور الشمس إلى خطوط و بقع،زينت مجلس أعز الناس ... صباحي أصبح ثقيلا ... لطالما قضيت أياما، مندسا في فراشي متوعكا،أرقب نور الشمس عبر زجاج نافذة غرفتي ... "و كمن يقتاد عبر جسر الموت إلى حتفه، لم يشترط آخر أمنية ... بل استسلم إلى حزنه و تحسره على ما مضى ...حملت ريشتها، وزاوجت بين الألوان على لوحتها، بين الخطوط و الفراغات و الامتلاءات ... هنا الأخضر ... هنا الكثير من الأبيض والأصفر، هنا الأحمر وهذا المد الهائل من الأزرق ... لا للاستسلام ... لا للألم ... لا للتحسر على ما مضى وابتسمت و ابتسمت و أنوار شمس الصباح تغمر جسدها و تملأ المكان بالحياة والدفء و الولادات الجديدة ... و كأنما شرارة من لفت الانتباه والتيقظ سرت بجسده و كأن برنسا من الهم والسوداوية انسلخ عن جلده ... رفع رأسه فإذا بعظمة شمس الصباح تستيقظ ...ترتفع في خيلاء ودلال و توزع دفئها على الكل ... دونما تحيز ... الكل له الحق في الدفء والفرح ... الأمل و الحلم ..."ياه يا امرأة ماذا فعلت بي ؟! يا لهذا الوجود لك الذي أحسه و الذي احتواني منذ الصباح الباكر وإلى هذه اللحظات ... يا بلقيس زمانك ... قمة الأنوثة الطاغية و الأدب اللامتناهي في تفاصيله العريضة و حتى في أبسط الأمور ... يا لغبائي وعمى الألوان الذي طمس بصري و بصيرتي فلم أعرف قيمتك و لم أعرف قدرك وضيعتك من بين يدي ...؟!!! كم كنت فظا وقذرا معك و مع أهلك ... و لم تردي و لم تجيبي ... نعتك بكل الصفات ولم تدافعي عن نفسك ... لديك لائحة طويلة،عريضة عني تحمل كل القبح والخبث واللؤم ... لديك الكثير لتقوليه و تردي على هجومي عليك ... لكن ... لم تفعلي ... ليس خوفا مني لأنك كنت محمية في بيتك ومع أهلك ... بسهولة كان يمكنك الرد لكن لم تفعلي ... لا لشيء ... إلا لأنك قمة في الرزانة والهدوء و التربية الصالحة ..."و مرت بذاكرته صور لملاسنات كانت تقع بين فتيات سليطات اللسان داخل الحافلة، لمجرد أنها لمست كتفها وهي تحاول المرور عبر الرواق، فيخدش حياء كبار السن و السيدات المحترمات جراء الكلام البذيء الذي تتلفظ به كل واحدة، دون مراعاة للحضور و لا حتى لصورة الفتاة المحترمة ... !!! ياه يا امرأة قلبت كياني ... يا لوجودك ...يا لذكراك التي أصرت على الحضور و يا للندم وعقدة الإحساس بالذنب التي تمزقني ... غفرانك ربي ... غفرانك ...من أنا لأحرمها راحة البال ولذة العيش بقوانين سننتها خصيصا لها هي ... كوني هكذا ولا تكوني هكذا ... من أنا لأعذبها و كيف تجرأت على التنكيل بمشاعرك .لم أعطك و لا فرصة لتتكلمي بصراحة و تعبري عن مشاعرك نحوي،لم أنصت يوما لك ... أعدمت وجودك و شخصيتك ... أنا الذي يتكلم ... أنا الذي يصدر القرارات و الأحكام في حقك ... لم أقرأك ... لم أتعرف عليك ... لم أكتشفك ... حتى أني لم أنتبه يوما إلى سحر الجمال في عينيك الخلابتين وغرقت فيهما ... بل كنت صنما ... قاسيا ... فظا حاد النظرات معك ... أن لا تحاولي ... مجرد المحاولة للعبث أو الخطأ معي ... ياه يا ربي سامحني ... اغفر لي جهلي و قلة حيلتي ... و لتسامحيني يا طيبة ... يا لفقدك ... يا لفقدك ...وعادت الدموع الساخنة لتحرق عينيه ... و ترمي به بعيدا في غياهب الندم و التحسر، و كما البحّار الذي جاب كل بحار الدنيا بحثا عن كنزه المفقود ... لتتكسر مرساته على صخرة الحرص، و تأخذه قدماه لينطرح أرضا عند أقرب نهر ... يحاول أن يواري دهوعه مع دفقات المياه التي صبّها صبّا على وجهه المفجوع، و كما الفجر ينبلج تحت صفحة الماء مع أشعة الشمس المنعكسة، كنزه المفقود، يمدّ يده و يستخرجه من بين الصخور ... و يوقظه الحمام و هو ينقر على حذائه، أخذ حفنة من الأرز، رماها على أرضية الحديقة و تطاير الحمام في هبّات،يمينا وشمالا و ملأ الأرجاء في لوحة شاعرية جمعت بين زرقة السماء و دفء قرص الشمس الأصفر،والاخضرار في امتدادات الأشجار التي تعانق السماء وفي انبساطه الموسوم بالزنابق البيضاء والورود الحمراء حدّ الهوس والاشتهاء والوردي الخجول كعذراء في خذرها،و البنفسجي وعطر الخزامى الذي طيب المكان ... و للفراشات الفرحة الراقصة هنا وهناك ...جمال رباني يخلب الألباب ... يروي العطشان ... يشفي العليل بعد أن عجز في شفائه طبّ الإنس و الجان ... يخرج التائه من دهاليز الغربة إلى برّ الأمان ... و كأنّه لوحة رسمت بريشة فنان ...تنهدّ بعمق و استغفر ربّه ... رفع عينيه إلى السماء ...و انغمس في مناجاته لمن يعلم السرّ وأخفى .انتهى




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)