الجزائر

فرنسيون أم جزائريون 18 / 02 / 1960



فرنسيون أم جزائريون 18 / 02 / 1960
في الوقت الذي يتوجه فيه الرئيس فرحات عباس بالكلام إلى الأوروبيين في الجزائر ننقل إلى قرائنا فصلا نشرته مجلة (لكسبريس) الفرنسية بقلم مبعوثنا الخاص إلى الجزائر حول نفسية ومشاعر الأوروبيين إثر فشل الحركة التمردية واعتقال زعمائهم وخاصة أمام الإمكانات الجديدة لتسوية القضية وإنهاء الحرب.

"والآن ماذا سنصبح؟"، و"الآن إلى أين سنذهب" ـ مثل هذه الألفاظ والتساؤلات سمعتها أكثر من مئة مرة، وهي لديل على أن الشرخ بلغ إلى الأعماق في عاصمة الجزائر، وهي عبارات اليأس التي لاتنطق بها الأفواه بحسب وإنما العيون التائهة المثقلة بالألم والحيرة، وهذه العيون كنت قد لاحظتها غداة خطاب 16 سبتمبر وها أنا ألاحظها من جديد مع شيء آخر وهو اقتناع أصحابها بأنهم مظلومون وأنهم ذهبوا ضحية لعدم التفهم لرغائبهم.

لذلك فإن الأوروبيين ساروا يمنيا وشمالا قبل أن يتلفظوا بكلمة واحدة كما اختفت من شفاههم لغة الشتم والنقد تجاه الحاكمين وتملكهم الخوف بعد أن كثرت الشائعات حول الشرطة الذين جاؤوا من فرنسا ليتجسسوا على المتحدثين، بل أنهم أخذوا يعدون قوائم الأفراد الذين سيوجهون إلى المحتشدات.

والواقع أن خوف الأوروبيين ليس له أي مبرر، إذ أن الإعتقالات لم تتجاوز أشهر المسؤولين عن المنظمات المتطرفة أي أنها لم تبلغ بعد 12 اعتقالا، ولكن الأمر الذي أدهشهم هو أن الم، دي سيريني يسكن اليوم في سجن بربروس الذي يتكدس فيه أعضاد جبهة التحرير والمساجين العاديون، والحق أن الأوروبيين يجدر بهم أن يندهشوا لما عرفوه في دي سيريني من قوة وبأس ونفوذ على الولاة الذين تعينهم باريس في عاصمة الجزائر، وهكذا صار الأوروبيون الذين كانوا بالأمس لا يشفي غليلهم أي نوع من أنواع التعذيب المسلط على المسلمين ـ صاروا اليوم لا يخفون هلعهم من بحث الشرطة وينددون باستبداد النظام الديغولي، وبعبارة أخرى فإن الذعر سيطر على قلوبهم سيطرة تامة حيث صار المتحدث معهم لا يسمع منهم إلا مثل هذا الكلام: "أنتم سكان فرنسا اتهمتمونا بالفاشيستية وبالخروج عن طاعة الدولة ولكننا لا نريد أن نقنعكم بعكس ذلك إلا أن الشيء الوحيد الذي نطلب منكم أن تفهموه هو أننا لا نرغب سوى البقاء والعيش في هذه الأرض التي هي وطننا" وقد حاولت أن استفسر أحد الأوروبيين البسطاء الذين ليست لهم أموال في البنوك السويسرية ولا مزارع فسيحة الأرجاء ـ حاولت أن أستفسر عن سبب اندفاعه مع المتمردين فقال لي: "أجل إنني سرت في صفوف الثائرين وراء الحواجز لاعتقادي أن ذلك هو الحل الوحيد لإخراجنا من الحالة التي نعيش فيها منذ سنوات، ولكن كل الناس خدعونا ـ نعم كلهم: اروتيز ـ الجيش ـ فرنسا ـ العرب ـ إننا خسرنا كل شيء".

وهكذا يتضح أن اليأس الذي استولى على نفوس الأوروبيين لا يرجع إلى فشل الحركة التمردية بقدر ما يرجع إلى تفطنهم المفاجئ للعزلة التي وقعوا فيها بسبب خيانة زعمائهم السياسيين الذين كانوا يجرونهم إ لى التطاحن مع الشعب الفرنسي في حرب أهلية دون أن يشعروا بخطورة الأمر، كما أنهم اخذوا اليوم فقط يتفطنوان للحقد الذي زرعوه في قلوب الشعب الفرنسي الذي ما انفك منذ سنوات يضحي من أجلهم بأبنائه وأمواله، وبسبب هذا فإن الهوة التي ظلت تفصل بين فرنسا والجزائر اتسعت اليوم إلى حد لم يعد في الإمكان تغطيته بعبارات المداهنة.

ثم أن هناك صدمة أخرى اصيب بها الأوروبيون وهي صدمة انفصال الشعب الجزائري عنهم يحبث انهارت أسطورة التآخي التي نسجت خيوطها في 13 ماي، بل أن كل واحد منهم بدأ اليوم يكتشف مدى المقاومة السلبية والعملية التي عارض بها المسلمون الحركة التمردية. فقد رفضوا الخضوع للأمر الكتابي الذي أصدره الجنرال قراسيو بجرهم من القصبة إلى الحواجز المقامة في الأحياء الأوروبية.

ولكن انعزال الأوروبيين عن الشعب الفرنسي من ناحية وعن الشعب الجزائري من ناحية ثانية لم يتوقف عند هذا الحد بل سرعان ما تبين أن الجيش الفرنسي هو أيضا يتخلى عن مناصرتهم بانضمامه إلى الأمة الفرنسية وبخضوعه لنفوذ الدولة، وقد أثرت هذه القطعية الأخيرة في نفوس جميع الأوروبين بما في ذلك الأغلبية التي لم تشترك في عملية التمرد.

إذن تمتاز النفسية الأوروبية اليوم بالشعور بالمرارة والعزلة واليأس ولكنها تمتاز نتيجة لذلك بالميل إلى الإنطواء والرجوع إلى الداخل وقد لمست هذه الحقيقة من محادثة أجريتها مع أوروبي يدعى "جوزي" وهو عامل بسيط يقضي وقته مع العمال الجزائريين لقد لاحظت أن 24 جانفي لم يكن يمثل في نظر أمثاله حركة تمردية على فرنسا بل مجرد عملية دفاعة عن النفس حيث قال جوزي: "إن الجزائر هي بلادي وليس لي غيرها ولن أختار غيرها أبد الدهر".

هذا هو المشكل بل هذا هو صميم المشكل، أن هناك بالجزائر اليوم حركتين وطنيتين الحركة الأولى بارزة يعرفها الجميع في الوطنية الجزائرية، والحركة الثانية خفية ولكنها عميقة هي الوطنية الجزائرية الأوروبية، والمأساة تتمثل في عدم تناسب كلتا الحركتين إذا أن الثانية اعتمتدت دائما على فرنسا للقضاء على الأولى واليوم ترى أن المستوطنين الأوروبيين يعتبرون أن بقاءهم فرنسيين أنجع وسيلة لبقائهم في الجزائر.

والأوروبيين يحقدون على الجنرال ديغول منذ 16 سبتمبر وخاصة منذ انهزامهم الأخير لأنه بعث فيهم الشك في بقائهم فرنسيين بعد تسوية القضية الجزائرية على أساس تقرير المصير.

ومن هذا يتبين لنا أن تسوية المشكل الجزائري لا يتوقف على التفاهم بين سكان الجزائر وسكان فرنسا بقدر ما يتوقف على الوصول إلى اتفاق نهائي بين أوربيي الجزائر والجزائريين، ذلك أن المشكل ينحصر اليوم في توصل الطرفين إلى ضمان التعايش بين عشرة ملايين من الجزائريين المتساوين في الحقوق بقطع النظر عن دياناتهم وأجناسهم، ولهذا الغرض يعمل الأوروبيون الأحرار الذين يعتقدون أن من الخطأ تعيين الاختيار منذ الآن على حل من الحلول الثلاثة إذ أنه في الإمكان الاتفاق مع الجزائريين حول امكانيات جديدة لتشييد أسس المصير المشترك في الوطن المشترك.

والواقع أن المأساة الجزائرية تتلخص في ملاحظتين: الأوروبيون يقاومون سياسة ديغول ليبقوا جزائريين، والجزائريون يقاتلون فرنسا بالسلاح ليؤكدوا أنهم جزائريون، فلو تمكن الفريقان من الإلتقاء والتفاهم لبقيت فرنسا موجودة بالجزائر، والتفام هو الطريقة الوحيدة الممكنة حيث أن الجنرال ديغول نفسه اعترف بأن الحل العسكري لا يحل المشكل حلا دائما نهائيا.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)