بقلم: عبد الرحمن عبيد
ألقيت بثقلي على الأريكة الخشبية،وأرسلت بصري ليرتاح في ربوع المشهد.انزاح عن صدري جزء مهم من الإحساس باللاجدوى،الذي رافقت تجوالي تلك العشية.
كان المطر قد توقف للتو، تاركا بقايا سحب ناصعة في السماء،ونداوة عالقة بالهواء.الحديقة مقفرة. ماء الجدول الذي يغدي البركة ،كان بلون الطين الأحمر. الممرات بها برك صغيرة، والأرائك مهجورة. استعذبت الوحدة في فضاء رحب، وأناملي تداعب المفاتيح في جيب بنطلوني.أشجار الأوكاليبتوس سامقة بجلال، وأوراقها مغسولة.من بين الأغصان تبدو بيوت المدينة القديمة تعبر الزمن بالعناد الهادئ.
ملأت جوانحي بسكينة التأمل، ولؤلؤ الطل على العشب المغسول، وهواء الذكريات. تابعت الطيران الجليل للقلاق إلى أن غاب في طيات الأفق.
هوى الحدائق في الجو الماطر،يعادل في نفسي نشوة الإنخطاف، أولذة التملك.الأزهار البليلة، الشجيرات المشذبة بعناية،الممرات ببركها الصغيرة، الجدول، أشجار الأوكاليبتوس،أعمدة الإنارة..كل ذلك كأنه وجد من أجلي.على الأقل في هذه اللحظة،حيث أنا لوحدي،وبدواخلي ينمو إحساس بالتناغم. نظرت لقدماي بامتنان.نزلتا بي الأدراج المؤدية إلى الحديقة،وقادتني،دون إرادة مني،إلى هذا الإستفراد الرائع بنفسي.وهذا التحرر العميق،كأن شيئا ثقيلا انزاح عن كاهلي،وأنا أنزل الأدراج.
أدركت، وأنا مسند ظهري إلى ألواح الأريكة الخشبية، أن الكآبة تنمو داخل فضاء بلا نوافذ. وأنه من الممكن جدا اختلاس لحظات رائعة من الحياة. يكفي أن أعدل زاوية الرؤية، وأحاصر العوز باختزال الحاجة، وأدفع العزلة إلى المجاهل القصية للنفس.
جاء المساء، فدنت مني قطة بيضاء لها بقعتين سوداوين على ظهرها.
راق لي حضورها،فاصطفيت لها اسم بهية. داعبت فروها المبلول، وقاومت رغبتها في القفز إلى حجري،لكي لا تلطخ قوائمها جلابتي.نظرت إلي مستنكرة تصرفي، وضني عليها بهذا المدى من الحنان.ماءت،ثم انصرفت.
كنت قد ارتويت بما يكفي، وعجزت عن مدارات حاجتي للإختلاط، وممارسة شغفي بتفرس الوجوه.قراءة اللوحات الإشهارية، واليافطات الضوئية للمحلات التجارية، ولوحات الترقيم للسيارات الجميلة. دون أن أغفل متعتي في إنعاش روحي بالتمعن في رموش الغيد، واستدارات الأجساد الموقظة لعواصف الرغبة.
غادرت الحديقة وانحدرت عبر الشارع .رأيت عدة أشياء دون أن أراها فعلاعقلي كان غائبا وخيالي لم يتخلص بعد من انتشائه،لأتمكن من التحديق المركز. كادت تصدمني سيارة أجرة عند المنعطف. لم أنتبه للإشارة الضوئية.رمقني شرطي المروربنظرة ارتياب،ربما ليتأكد أني في كامل قواي العقلية. في اللحظة التي شعرت فيها بأول قطرة عياء تستقر في عظامي،كنت قد تجاوزت مبنى وكالة الأسفار،فانطبع في ذهني خيال تلك الشقراء الجالسة إلى مكتب جيد الإضاءة.ولأني نظرت إليها عبر الزجاج المنيع، ومن غلالة ضيق الحال، نظرة خاطفة ،أيقنت أن لا أمل لي في وصالها. فاعتبرتها كائنا افتراضيا، لاصلة له بعالمي، ولا بالأنثى النائمة في خيالي. استدرت لأختلس آخرة نظرة، فكدت أصطدم، مرة أخرى، بصندوق القمامة.
حاذيت الوكالة البنكية، فلاح لي ذلك الطيف الرشيق قادما في الإتجاه المعاكس. كانت تمشي بخطو واثق وعينين لهما لمعة ذكية. حين اقتربت أكثر، تبين لي أنها أجنبية في ربيع العمر، ولو أن شقرتها الخفيفة وصفاء عينيها أخفتهما العتمة، لأن عمود الإنارة معطل. لم أكن بحاجة أن أدرك،رغم بنطالها البسيط وجاكيتها الكحلي، أنها تمثال منحوت من سكر خفيف. يافعة، وتنحو بإطمئنان صوب مرحلة من العمر مشرقة بالحب وشغف الإنطلاق نحو الحياة. تهيأ لي لي أني أراقصها بثوب من الموسلين...
تضاءلت المسافة بيننا. كادت تتجاوزني. ألقت إلي نظرة عابرة، ليس فيها ما يشجع.إلا أن صوتي خرج من حلقي باهتا مخلخلا، ودون إرادة مني، فحييتها بازدواجية:
Salut.ça va
ردت علي دون أن تخفض من إيقاع مشيتها:
Oui..ça va
واصلت سيرها صوب الوكالة البنكية، مخلفة إياي وراءها ضائعا،أشيع خطوها بقلب رجته عاصفة فجائية. جاهدت كي أتابع طريقي إلى البيت، عساني أنساها في طيات الليل.لكن فرصتي لفعل ذلك كانت قد ضاعت، إذ نبتت لقدماي مسامير حوافر البغال، وتسمرت في مكاني على الرصيف. لم أقو على تركها تزيغ عن حقل رؤياي.
توجهت صوب الشباك الأوتوماتيكي، زرعت البطاقة، قرأت الشاشة، عزفت على الأزرار، ثم سحبت المبلغ. فعلت كل ذلك بهدوء و رزانة كائن ينتمي إلى ثقافة تثق في نفسها.
عادت، وفي اتجاهي تماما. لم تغير لاإيقاع، ولا وثوق، ولا خط سيرها. كنت أناضل كي أقوض صروح التردد والإرتباك،محاولا ردم الهوة اللغوية والتكنولوجية والمالية والثقافية والعمرية و..و..والتي تفصلني عن هذا الكائن الرشيق، الآتي من بعيد، والقادر على أمره. عساني أعبر جسرا ينقلني إلى مغامرة ما أحوجني إليها.
اقتربت..شحنت صوتي بالعزم والإصرار، وبما بقي عالقا في ذاكرتي من فتات الإنجليزية، أما فرنسيتي فكانت لا تستقيم إلا بصعوبة:
Pleas..s il vous plait..
استدارت ونظرت إلي بفضول يخالطه الإرتياب. كان لها برسينك متلألأ كحبة ضوءعلى طرف أنفها.وقفت وكادت بسمة طفيفة تنبت عند شفتيها.تشجعتُ:
You speak english '
اومأت برأسها الصغيردلالة النفي. لاحظت أن قدمها تململت وحاولت التراجع إلى الوراء.خفت أن تنفلت، فرفعت كفي وقلت بضراعة فرنسية سليمة:
Ne craignez rien je veux simplement vous parler..
لم تتمكن، هذه المرة، من وأد البسمة الصافية التي أرقتني تلك الليلة،قالت:
Vas y je vous ecoute
ربحت الجولة الأولى..
Vous etes française '
Oui
De quelle ville '
Monpeulier
شعرت أني استنفذت أسئلتي، فاستطردت بعناء لأنقذ نفسي من الفراغ،في هذه اللحظة بالذات، التي بدأفيها الحوار ينمو ويشب:
Vous ete ici pour le travail, le tourisme, ou.. '
لم تجبني، خفت أن تفلت، فانعطفت بسرعة البديهة التي غالبا ما أنقذتني في المواقف الحرجة، وتوسلت بأسطورة الكرم المغربي، وأطلقت آخر سهامي:
Si nous buvons un verre,deguster un tagine ou un plat de couscous,je vous invite..
اعتذرت بلباقة ذكرتني ببرود السمت الفرنسي الذي أكرهه:
Oh..pas maintenant,je suis fatiguer,je vais aller dormir..
أحسست بها تضيع مني، فقلت بنبرة يائسة:
Je peux te voir une autre fois '
Probablement
Tu peux me donner ton numero '
هنا اتضح لي أني تجرأت كثيرا،آمنت بالعفوية، ولم أراع أخلاقيات التعارف حسب القواعد. رفعت يديها وغمغمت كما لو كانت تحدث نفسها:
Oh..pas mon numero..
لم أقتنع بالهزيمة، ولم أستسلم:
Comment je peux te contacter '
رفعت يديها، مرة أخرى، دلالة عدم الإهتمام، وقالت بلا مبالاة، وهي تقطع الشارع لتواصل سيرها على الجهة الأخرى:
Comme ça au hasard..
تسلحت بشيء من الروح الرياضية لأهزم الإحساس بالهزيمة، واعتبرت الأمر مجرد كبوة سأنتصر عليها بالإصرار. بعدلأي تخلصت من مساميري فتحركت قدماي.لكن عبثا حاولت دفع جسدي نحو البيت.
كانت سائرة تحث الخطى، تظهر و تختفي من بين الفجوات خلف أسطول سيارات نقل البضائع المركونة على الجهة المقابلة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 27/04/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الأيام الجزائرية
المصدر : www.elayem.com