الجزائر

فاليري زناتي



قادته رغبة مشوشة وعنيفة إلى هنا، على قمة الجبل الصخري، وسط الغبار المضمخ بفضلات العصافير، بين شجرات الأرز والسرو السوداء التي تأسر البصر، تشده لثواني ثم تحرره نحو الهضبة التي هلكت تحت الشمس. تبدو الشلالات ثابتة من هذا المكان، كأشرعة فوارة اصطبغت لهدف وحيد ابراز المياه التي تجري على طول الأخاديد كدماء. أعلى قليلا، تؤوي سفوح المنحدرات أشجار الصبار، ثم ترتفع نحو عري تام، كأن الصخرة قُطعت فجأة بموسة غامضة مشكلة صفوفا من الشرائح الداكنة.يكفي أن يحرك رأسه لتميز عيناه الجسر بوضوح. همزة الوصل الصلبة المعلقة بين عمودين من الحجر الأبيض. يمنح للمدينة ملمح القلعة، يربطها بالمستشفى، ثم بمحطة القطار، نصب الأموات والمقبرة.
ألقى جاكوب نظرة على الساعة التي تلقاها بمناسبة عيد ميلاده الثالث عشر. تلبس بالمعصم، تعطيه مظهرا أكثر خفة من ساعات الجيب الخاصة بالعواجيز. تفرض التوقف لإخراجها من الجيب، في الوقت الذي يمكن تفحص ساعته بنظرة خاطفة. ست سنوات وعقاربها تحدد له الوقت. عقرب الثواني مزعج ومدهش، على عجلة من أمره دائما، يُسرع الوقت في الحين الذي يحاول «جاكوب» الامساك به.
تذكر اليوم الذي سار فيه على الجسر المعلق مع «أبراهام». لم تكن المرة الأولى ربما ...على الأرجح، ولكنها أولى الذكريات التي يملكها عنه. توقف ليلقي نظرة نحو الأسفل. جلبه أخوه من كم قميصه: «هيا، إنها خطرة، لا تنحن». أحس أن الفراغ قد امتصه فجأة. صغير وقوي، يتحكم في المدينة والرقاب. كان وجوده في مكان عال أمرا يبث فيه بهجة غريبة، هو الذي كثيرا ما توجب عليه رفع رأسه إذا ما أراد أن يرى شيئا غير أرجل الطاولات، البقع على حيطان الشوارع وركب من هم أكبر سنا. مد يديه ليلمس السماء، وقد تعرف على الخوف الشهي الذي يعانق كل من يمر على الجسر المذهل للدرجة التي جعلته يحمل أربع أسماء: الجسر المعلق، جسر سيدي مسيد، جسر الرمال، ممشى الدوار.
سرت به رجفة، أدار ظهره للهضبة التي يكفي أن يبصرها حتى يحس بها تحت قدميه. تردد بين نزول المنحدر بسرعة شديدة أو السير ببطء بمحاذاة المستشفى. مر عبر الجسر بخطى واثقة، أخذ استراحة. مدد الوقت، ليقبض على كل جزئية من المنظر ويغلق عليها داخله مع أنه يوقن أن احتواءه كاملا أمر مستحيل. لقد سبق وحاول ذلك: يركز في المنظر جيدا ثم يغلق عينيه. يحاول أن يتذكر ما صوره بعينيه لكن دائما ما يفر منه تفصيل، كما أن المنظر ليس دائما نفسه، مهما خال. يضاعف الضوء من عبقريته في صبغ الحجارة بألوان تمتد من الفضي إلى الأسود، وفي الأيام التي تبدأ السماء المبللة في أخذ أنفاسها بعد عاصفة، يتدفق ضوء ذهبي على المنحدرات الصخرية.
تتدافع الصور داخله وتملؤه إثارة، تكاد تخنقه. يأخذ صدره في الاتساع تحت ضغط الجمال الخطير للمكان. ركض على الجسر المعدني نحو العمود الغربي. مرت شاحنة ارتفع تحت عجلاتها ضجيج تصادم الصفائح، بثتفيهرجفة أخرى. نزل نحو المدينة، بخطى نظمهاعلى إيقاع نَفَسه. دارت أفكار في رأسه: «عندما تظهر نتائج البكالوريا، سأكون قد رحلت. التدريب، الصفوف... يسمون تلك الأمور صفوفا. في سن الثامنة عشرة، ننتقل من صفوف إلى صفوف أخرى لا تشبهها. أبدا لن أجلس مرة أخرى لأنصت إلى السيد «بومار» و هو يقرأ «هوغو»، «بالزاك»، «فلوبير»... أبدا لن أدرس اللاتينية مرة أخرى: دومينوس، دومين، دومينو، دوميني،.. اللاتينية تبدو لعبة، لغة تلهو، تدهش أبي، تدفع أمي للابتسام.. فيما تنفع اللاتينية؟ للتثقيف؟ لفهم اللغة الفرنسية، بالأحرى. إنها العدسة المكبرة التي تساعد على تحديد معانيها بدقة، كما يقول السيد «بومار». إنها الشمس التي تعكس بهاء اللغة. طريقة أخرى لوصف العالم بغير اللغة العربية، لغة أمي، لغة أبي، غير اللغة الفرنسية، اللغة الدخيلة المحكية هنا، منذ ما يقارب المئة عام، لغة الشمال التي قررت أن تختلط بلغة الجنوب... قواعد الصرف المعقد تلك. ضروب من الصرف الذي لا يتقنه كثيرا سكان الأزقة الضيقة المكتظة للحي اليهودي والعربي، حيث يرتطم الآن «جاكوب» بالنساء المحتارات المخيرات بين عشر أنسجة لتغليف الأرائك، خياطة فساتين خطوبة أوحتى ستائر.... قطن أو ساتان؟ بسيطة أو مطرزة بخيوط مذهبة؟ ...
قابل أكثر الاسكافيين فقرا أولئك الذين لا يملكون دكاكين غير حقائبهم المفتوحة على طاولة في الشارع. اصطفت أدواتهم بقرب جبل من الكعوب الجديدة الجاهزة لتعويض أخرى مهترئة. يحضرون الأحذية بسرعة وبأسعار زهيدة. تلاشت صرخاتهم على مسافة غير بعيدة، طمرتها أكياس الخيش التي تؤوي كيلوغرامات من بودرة الفلفل الأحمر، القرفة، الكمون، الحار، الكركم، مسحوق الورود، بذور الكروية والكزبرة، أعواد القرنفل، السينوج، النعنع المجفف... أيقظت جوع «جاكوب» الذي تسلل بين الزبائن الذين يخرجون ببطء من محلات المجوهرات. لا يذهبون إلى المحل ذاته مرتين بل خمسا أو ست. يفكرون ويقيمون الحلي الذي سيهدونه. تمكن «جاكوب» من انتزاع شظايا حوارات من الزبائن مكنته من فهم وساوسهم: «أهي حلي ثقيلة كفاية أم لا؟ هل تدل على ثراء مذنب؟ أستكون محل غيرة وحسد أم تنم عن بخل؟»...
قطع جريا شارع «فرنسا»، الشريان الرئيسي للحي، مختالا ب»مونوبريه» و محلات ال»غالريباريزيان»، و وصل أخيرا إلى البيت الواقع فيالخامس عشر من شارع «فانتسيس دو لين».


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)