الجزائر

غواية الكتاب الإلكتروني التي لا تقاوم



غواية الكتاب الإلكتروني التي لا تقاوم
في البدء كان الكتاب هو الوسيلة الأولى للمعرفة، ثم الوسيلة الأولى للمتعة والانتقال به عبر الزمان والمكان، تمسّك به القراء الشغوفون، وظهر من أجله "الوراقون" و"الخطاطون" ودار الناس طويلًا حول أماكن الكتب.فبنوا له "المكتبات" حتى عُرفت بعض المدن القديمة باحتوائها على الكتب القيمة والنادرة مثل "بغداد" و"الإسكندرية"، إلا أن تغيَّر الزمان وزادت أعداد الكتب واختلفت ما بين كتب تراثية مخزَّنة في المكتبات وكتب حديثة تصدر في فترات زمنية متقاربة، حتى ظهرت "دور النشر" وأقاموا من أجل الكتب "معارض دولية" يتهافت عليها كل محبٍ للقراءة وكل شغوف بالكتاب.اختلف الزمن، فظهرت "أجهزة الكمبيوتر"، وغزت العالم، أصبحت في كل بيتٍ تقريبًا، كل مكان عمل بالتأكيد، وأصبح الناس يقضون أوقاتهم بالساعات أمام هذه الأجهزة، ووجد القرّاء أن بإمكانهم نقل كتبهم الحبيبة إلى أجهزة الكمبيوتر أيضًا!الراسخون في القراءة والتكنولوجيا يعلمون كيف كانت البدايات، غريبة وشحيحة ونادرة، وربما يكون المفاجئ للكثيرين أنها بدأت بنقل الكتب نصيًا إلى أجهزة الكمبيوتر، بدأ ذلك من خلال مجموعات من الشباب الملتزم المتحمّس لنقل كتب "التراث" إلى المواقع والشبكات "الإسلامية"، وظهرت مبادرات عديدة على مواقع تهتم بالتراث الإسلامي بداية، ثم التفتوا إلى التراث العربية كله سواء كانت كتبًا ومراجع دينية أو دواوين وكتب أدبية.تبنت بعض المؤسسات الحكومية العربية بعض هذه الأفكار، فوجدنا مشروعًا مثل "المكتبة الشاملة" الذي يقدم "عشرات الآلاف من الكتب الإسلامية في التفسير والعقيدة والسير والتاريخ وعلم الحديث وغيرها، بل ويتيح هذا البرنامج البحث داخل هذه الكتب والاستفادة منها". كما وجدنا مشروع وموقع "الورّاق" الذي يضم آلاف الكتب الأدبية التراثية في موقع واحد، كما ظهر مشروع تبنته "وزارة الثقافة" في "أبو ظبي" لجمع "التراث الأدبي" في موقع وأسطوانة إلكترونية واحدة، فيما عرف وقتها "بموسوعة الأدب العربي" وكان المشروع طموحًا جدًا يهدف إلى جمع كل الأدباء العرب منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحالي في أسطوانة واحدة مضغوطة، وانتقل المشروع إلى موقع إلكتروني خاص بالشعر العربي هو موقع "أدب" الذي يحوي الشعراء العرب حتى يومنا هذا.انتقل الأمر بعد ذلك تدريجيًا إلى الكتب المطبوعة، فوجد المهتمون بالروايات حاجة إلى نقل الروايات التي أحبوها إلى منتديات إلكترونية؛ وبالفعل يُذكر أن روايات "أحلام مستغانمي" مثلًا بدأ انتشارها كنص مكتوب على صفحات "وورد" عادية فصلًا فصلًا حتى انتهى القائمون على هذا "المشروع" من كتابة الروايات كاملة، كما بدأت بعض المواقع الأدبية العربية في نقل أجزاء كثيرة من كتابات الأدباء العرب على مواقعهم، بل إن "اتحاد الكتاب العرب" السوري كان قد وضع جميع إصداراته للتحميل مجانًا على الموقع الخاص بهم.اختلف الأمر والصورة تغيَّرت تمامًا مع أول مباردة قام بها أحدهم إلى "تصوير" صفحات الكتاب ضوئيًا ومعالجتها ونقلها إلى برنامج أصبح شهيرًا فيما بعد هو "أكروبات ريدر" وعُرفت الكتب المُحولة بهذه الصيغة على أنها كتب PDF اختصارًا للعبارة الإنجليزية Portable Document Format. منذ ذلك الحين تغيَّر شكل التعامل مع الكتاب وبدأت "الكتب الإلكترونية" تأخذ مكانها على أجهزة الكمبيوتر لدى المهتمين بالقراءة ومتابعة الإصدارات الثقافية ونقلها على المنتديات الإلكترونية التي كانت أكبر "ناشر" أو "وسيط" لحمل الملفات وانتشارها على الإنترنت، بل والتنافس في نشر الكتب الإلكترونية أولا قبل المنتديات والمواقع الأخرى.لم يكن التفاعل كبيرًا، ولم تكن استجابة القارئ العربي للكتاب الإلكتروني كبيرة، إذ ظل الأمر مرتبطًا بمن يجيدون التعامل مع أجهزة الكمبيوتر ويجلسون عليها بالساعات، ولديهم -في الوقت نفسه- الصبر على قراءة الكتاب من خلال الشاشة الكبيرة، وبقي للكتاب الورقي جاذبيته ورونقه، وربما لم يتأثر وقتها كثيرًا، وإن ظلت سهولة انتشار الكتاب الإلكتروني وانتقالها عبر أصدقاء أكثر فعالية وتأثيرًا، بالإضافة إلى دخول "محترفين" في عالم "تصوير الكتب الإلكترونية" الذين يعرف منهم اليوم "علي مولا" الذي أمد المكتبة الإلكترونية العربية بالكثير من أمهات الكتب العربية والمترجمة، ولا يكاد يخلو جهاز كمبيوتر يهتم صاحبه بالقراءة الإلكترونية إلا وكان لديه كتاب أو أكثر يحملون بصمة علي مولا ويشعر بالامتنان الشديد لهذا الرجل!ولكن الأمر اختلف اختلافًا جذريًا بعد ظهور "القارئ الإلكتروني" الذي قامت بصناعته -في البداية- شركة كيندل، ولكنه كان باهظ الثمن، قليل الانتشار، ثم ظهرت "الهواتف الذكية"Smart Phone التي أتاحت أن يكون تطبيق برنامج (Acrobat Reader) موجودًا في الهواتف المحمولة، مما سهَّل عملية تحميل الكتب ونقلها وقراءتها في تلك الهواتف، بشكل لا يُقارن مع الكتاب الورقي بالطبع، فلم يعد الأمر مقتصرًا على "مجانية" الكتاب وسهولة حمله وتصفحه (مع ضرورة ملاحظة أن هذا الأمر لا يُقارن بالقياس بالكتاب الورقي، لاسيما في حالة الكتب كبيرة الحجم التي يصعب الانتقال بها، فضلًا عن تصفحها بسهولة) بل تعدى الأمر ذلك إلى كون جهازك المحمول يتسع لأن تكون عليه مئات الكتب في وقتٍ واحد، بالإضافة -بالطبع- إلى إمكانية نقله إلى أجهزة الأصدقاء.ومع انتشار هذه الهواتف وتلك التقنية شعرت بعض دور النشر بأن الصناعة "الورقية" مهددة مالم تواكب العصر، فظهرت مبادرات ومحاولات لنشر الكتاب الإلكتروني بمقابلٍ مادي أقل بنسبٍ متفاوتة من الكتاب الورقي، ولكن يبدو أن تلك المحاولات لا تنجح دائمًا، لاسيما مع محترفي القراءة الإلكترونية الذين يؤمنون بأن الكتاب الإلكتروني وُجد مجانيًا وينبغي أن يظل كذلك!النشر الإلكتروني الرسمي يبدو الأمر غامضًا وملتبسًا فيما يخص النشر الإلكتروني لدى الجهات الحكومية الرسمية، لاسيما أنه يُفترض أن خدماتها في نشر الكتاب لا تهدف إلى الربح بعكس دور النشر الخاصة بالطبع، ومع ذلك فلا يوجد للهيئة العامة المصرية للكتاب (بجلالة قدرها) سوى 11 كتابًا إلكترونيًا على موقعها الرئيس على الإنترنت، يشعر من يطلع عليهم أنهم من باب (سد خانة) ليس أكثر، ربما يختلف الأمر قليلًا في "الهيئة العامة لقصور الثقافة" إذ نجد عددًا كبيرًا من العناوين في سلاسل الهيئة المختلفة، ولكن يبدو أن الاهتمام غائب ومفقود أيضًا، فلا يوجد اهتمام بطريقة إخراج الكتاب أو دعاية حقيقية لوجوده إلكترونيًا، وهو ما يختلف تمامًا عن الجهد الذي تبذله مثلًا "الهيئة العامة للكتاب" في سوريا؛ إذ نجد في موقعها الإلكتروني عددًا كبيرًا من الكتب متاحة للتحميل مجانًا، وكذلك الحال في موقع "اتحاد الكتاب العرب" على الرغم من أن تلك المواقع تتعرض للقرصنة بشكل مستمر.غضب الناشرين إزاء كل هذا، كان طبيعيًا من الناشرين أن يروا أن الكتاب الإلكتروني المجاني هو "سرقة" لمجهود الناشر وسوق النشر والعاملين فيه كلهم، بل وربما يكون إضاعة لمجهود الكاتب وحقه أيضًا، وهم إذ يتفقون في ذلك لا يرون سبيلًا لمواجهة "القرصنة" إلا التوجه إلى الأساليب المقننة التي أتاحت لمحبي القراءة الإلكترونية أن يقرؤوا الكتب كما يحبون، مع دفع الحق المادي بنسبة أقل تحفظ جهد الكاتب والناشر في وقتٍ واحد. القرّاء.. يرى الكاتب والقاص "شريف صالح" أن ظاهرة الكتاب الإلكتروني مرتبطة بالتحول التكنولوجي الذي خلق ما يشبه "الدمقرطة"، فثمة وفرة في المُنتج الإبداعي وطرق تبادله، سواء كنا نتحدث عن الكتاب أو الأغنية أو الفيلم، هذه الوفرة جعلت المعروض يفوق الطلب، ما أدي إلى ما يشبه المجانية، وإن أضرت جزئيًا الناشر والموزع، لكنها لن تفرق مع الكاتب، لأنه يعامل ماليًا بالأساس على مبدأ الاستغلال.بل ربما استفاد من ناحية الانتشار لاسمه وإبداعه، لكنها أيضًا وّسعت سوق الكتابة، فأفقدت الكاتب سلطته التقليدية، فالكل الآن يكتب والكل يقرأ. وتقلص عمليًا معيار "القيمة"، لأنه لا أحد فينا يُلاحق سوق الكتابة الآن كي يضبطه على أي معيار.طبيعة هذا السوق ساعدتني ككاتب على التصفح والإلمام بما يدور حولي، ولا أظن أنها ستؤدي إلى القضاء نهائيًا على الكتاب الورقي؛ فأنا لو أعجبني كتاب تصفحته سأفضل اقتناء نسخة ورقية منه. وأظن أن القائمين على هذا السوق سوف يزدادون تشددًا في عملية غربلة واختيار الأفضل والأجود، بهذا المعنى أرى أن السوق الإلكتروني خلق مجالًا إيجابيًا بتوسيع قاعدة القراءة والكتابة، وتجويد النشر الورقي كي يبقى منافسًا. ولم يعد إنتاج وتداول الكتاب تحت رحمة وهيمنة سلطة ما تتحكم فيه، أيًا كانت هذه السلطة.في حين يرى الروائي الشاب "شريف ثابت" أن النشر الإلكتروني يمكن أن ينتشر للكتب النادرة والصعب توفرها أو الحصول عليها، بل إن وجود نسخ إلكترونية منها يصبح ضرورة قصوى، أما فتح الباب على مصراعيه للكتاب الإلكتروني المجاني (غير القانوني) فإنه يراه معول هدم للثقافة، حتى إذا كان تأثيره أقل من تأثير النسخ المزورة ورقيًا، وعلى الرغم من أنه يؤكد على وجود خلل كبير في منظومة نشر الكتاب وتوزيعه بشكل عام إلا أنه يرى أن انتشار الكتاب الإلكتروني ليس حلًا لهذا الخلل!الشاعرة "هدى عبد القادر" تختلف مع وجهة النظر تلك تمامًا؛ إذ ترى سهولة الحصول على الكتاب الإلكتروني مقارنة بالورقي، بالإضافة إلى ثمنه الباهظ (لاسيما الشعر المترجم) هو ما يجعلها تميل إلى القراءة الإلكترونية وتفضلها، بالإضافة إلى أن إتاحة الكتاب إلكترونيًا يوسِّع من دائرة قراءته فيسهل معرفة آراء الكتاب قبل شرائه أو تحميله اعتمادًا على آراء القرّاء في المواقع الإلكترونية المختلفة (مثل جود ريدز، وأبجد وغيرها)، وعليه فالكتاب الإلكتروني لا يوفر المال فحسب، وإنما يوفر الوقت والجهد بل ويسهل الاختيار.تحاول "رضوى داود" أن تجمع بين الخيرين؛ إذ إنها تحمل "الكتب" معها في أسفارها أيضًا. تقول: "أحببت الكتب قبل أن أتعلم القراءة، بيننا ألفة صديقين قديمين، لدي حنين خاص لملمس الأوراق ورائحة مكتبة أبي التي ورثتها عنه! طوال سنوات الدراسة يرافقني كتاب، أول ما أضعه في حقيبتي -قبل حافظة النقود- وطوال الطرق الطويلة، الرحلات، الزيارات العائلية. مؤخرًا، تغير الوضع قليلًا!..أصبح أول ما أسأل عنه مع ترشيح أحدهم لكتاب: هل هناك نسخة إلكترونية منه؟!مع تكرار سفري للخارج وفي الداخل، أصبح الوزن والحجم عاملين مؤثرين في اختياري للكتب التي تصاحبني لرحلتي، "لن أستطيع حمل الرواية الكبيرة لقمة الجبل فأتمكن من إتمامها الليلة"، "الوزن الأقصى لحقيبة السفر 23 كيلوجرامًا؛ مضطرة لإبقاء كتاب واحد فقط!". هنا أصبح حاسبي اللوحي رفيقي الجديد. سيظل هنا متسع لكتاب ورقي في حقيبتي بالتأكيد، ومكتبة غنية في حاسبي اللوحي.الروائي "وحيد الطويلة" يتحدث عن الموضوع بالتفصيل فيقول:لا أستطيع أن أغفل بركات الكتاب الإلكتروني على الرغم من أنني أعتبر نفسي من النظام العالمي القديم في شأن الكتاب، لا يعني ذلك تمسكي بالقديم، بل ربما يرجع ذلك إلى طقوسي الخاصة التي تتعلق بالكتاب كحبيبة، يبدو الإلكتروني بالنسبة لي مثل علاقة عابرة، جملًا ممحونة، في بند الرسائل الخاصة في الفيس بوك، بها شحنة من تعمد الصيد بدلًا من التعامل مع الصيد كمهنة للأنبياء والعشاق.ربما أشعر بأن هناك فارقًا نفسيًا بين الاصطياد والصيد، الأول يبدو كفعل متعمد له غاية واحدة، أما الصيد فممتلئ بغوايته وسحره من الرفقة إلى الصدفة إلى توزيع الحصيلة على الأحبة إلى قصة حب لم تكن في الحسبان، العيب فيَ أنا بالتأكيد، فأنا مولود في برج العشاق ومعرة الحب لا في صندوق زجاجي من لغة باردة حتى وإن توشحت بجرأة لا تفرق بين الأيروبيك والبورنو، بين الجرأة والوقاحة.نعود إلى الإلكتروني، لا أعرف هل سمة جيل أم طبيعة اللحظة، لكنني أغبط الذين يستطيعون أن يقرؤوا الرواية مثلًا إلكترونيًا، لعل ذلك أتاح للبعض فرصة اقتناص كنوز ومعرفة لم يكن يستطيع الفوز بها لو انتظر وصول الكتاب بشحمه ولحمه.ربما لأنني كاتب فأنا أريد أن أشعر الكاتب الذي تقع نصوصه بين يديَ بالإكبار لمحاولته وأن أرسل له أن معاناته وسعادته وحروفه قد لقيت ما تمناه وما يستحقه من جلال. شخصيًا استفدت من الإلكتروني كما لم يستفد أحد، كانت روايتي تسوح من السويد إلى المغرب بلمسة زر، وأتلقى عنها التهاني والفرح، لكنني بالطبع لا أستطيع أن نكر أن المقاطع الإلكترونية تجعلنا نقف عند عتابها شرط ألا تكون طويلة، هناك دفء للبالطو لا تستطيع أن تمنحك إياه أكبر مدفأة، قد تدفئك الأخيرة لكنها لا تمنحك قطعة من روحها كما يفعل رداء ثقيل خبأت فيه يديك بسعادة وتركت حبيبتك رائحتها على كتفه حين مالت عليك في مقهى بسعادة.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)