الجزائر

غنيمة حرب... أم غنيمة حبّ؟



المعروف عن كاتب ياسين أنه لم يكن يؤمن بالحدود الضيقة والشعارات الصغيرة التي تبني عليها بعض التكتلات والجماعات الضاغطة التي لا مبدأ لها خارج المال، بصرف النظر عن بعض تصريحاته المثيرة التي استغلتها أطراف متصارعة لها مآرب أخرى، أيديولوجية بالدرجة الأولى، ومتدنية. ما جعل الرئيس الراحل هواري بومدين يعاتبه على بعضها، طالبا منه الكتابة والسكوت، كما قال الإعلامي عبد العزيز بوباكير.كاتب ياسين متسامح إلى حدّ كبير، ومنفتح على عالم القيم، لكنه ليس مع المهادنة الرخوة التي تفتح الأبواب للاستعمار الجديد، وليس مع التسامح الذي يتجاوز محمول الذاكرة، أو يضحي بالقيم الإنسانية من أجل تحقيق سفاسف مادية عابرة، كما يحصل اليوم في المشهد الأدبي.
إننا نتذكر، على سبيل المثال، ما قاله هذا الكاتب الاشكالي للرئيس فرنسوا ميتران، بكثير من الوضوح الصارخ، حين تسلم منه جائزة الأكاديمية الفرنسية في سنة 1987:* نحن ورثة فكر الأنوار، ونعتبر قيم الثورة الفرنسية جزءا من هويتنا الثقافية. أمّا الفرنكوفونية الرسمية التي تحتفي بموبوتو وبوكاسا فإننا نحاربها لأنها مشروع نيوكولونيالي يهدف إلى فرض أشكال جديدة من الهيمنة*. لقد ركز على قيّم الثورة، وليس على اللغة كما يتوهم الدعاة.
يتقاطع كاتب ياسين، في هذه الرؤية المتقدمة للمسألة اللسانية، مع فكرة الروائي الراحل محمد ديب الذي قال قبل سنين، منتقدا هذه المؤسسات المريبة التي توزع الأرباح وفق مشيئتها: *إنها تعامل الكتّاب العرب الفرنكوفينيين كما تعامل الخادمات البرتغاليات*. الموقف ذاته سنعثر عليه عند رشيد بوجدرة الذي قال عن الكتاب المغاربيين المنتمين لهذه المؤسسات التي تشتغل بناء على مقاصد تحتاج إلى مساءلات: *إنهم يلعبون دور العربي الخادم*. أمّا الكاتب المغربي الشهير دريس شرايبي فيطلق على هؤلاء الكتّاب المستلبين اسم * التيوس *، انطلاقا من الكلمة الفرنسية اللصيقة بالعرب: لي بيكو. ذلك أنهم ملوك أكثر من الملوك، ولنا في هذه السياقات أمثلة.
لقد قال كاتب ياسين سابقا: *إن اللغة الفرنسية غنيمة حرب*، وهو يؤمن بهذا الطرح إلى حدّ ما، متسامح مع لغة المستعمر الذي هدّد الجزائريين في لغتهم ودينهم وهويتهم وكيانهم أثناء الاحتلال... وبعده. لقد كان ينظر إلى اللغة كعنصر يمكن الاستفادة منه في سياقات عينية. لكنه، بالمقابل، ينقلب على هذه المؤسسة عندما تغدو وسيلة سياسية لطمس موروث الآخر، أو وسيلة للهيمنة على الشعوب، أو تكريسا للمدّ الاستعماري بطرق مهينة تعتبر *الأهالي* أبواقا وتبّعا.
المبدأ من منظور الآخر: ثمة عينات كثيرة لنقاد أجانب تناولت مسألة التسامح عند كاتب ياسين، وهي كثيرة، خاصة في الدراسات النقدية الفرنسية التي اهتمت بتوجهات الكاتب واهتماماته الفعلية، بداية من ظهور نجمة إلى اليوم، على اعتبار أن المؤلف، من منظور هؤلاء، يعد ظاهرة حقيقية تحتاج إلى مزيد من التموقعات للإحاطة بأشكاله ودلالاته وأبعاده:
تقول الباحثة تاتسيانا كيشيتس شالييي: *إنّ معاني الثورة والاستقلال عند كاتب ياسين مختلفة عمّا نراه نحن ويراه كثير غيرنا. كان يبحث عن الحرية والتسامح والتطور والإنسان الجديد الحرّ. كان يرفض الظلم والنفاق والتسلط وقهر الشعوب وسلب إرادتها بالقوة، أو عن طريق المعتقدات والأيديولوجيات*. هل يجب شرح هذا لفهم موقفه؟ بما في ذلك موقفه الضمني من اللغة؟
وفي السياق ذاته تقول الأستاذة فريديريك أوفارت، أستاذة الآداب والحضارة الفرنسية بجامعة السوربون: *لم يكن كاتب ياسين يدافع عن الجزائر فقط، بل كان يناضل بقوة لتحرير الإنسانية من النفوذ العنصري الغربي...إنّ ملحمة الجثة المطوقة جسدت النظرية الفلسفية القائلة بأنه لكي يحدث التواصل، على الكائن البشري أن يتخلى عن جزء منه لكي يتمكن من الانفتاح على الآخر *.
هناك عدة آراء تشير إلى هذا التفكير الذي لا يلتزم بالحدود الجغرافية واللسانية كعائق أمام الانفتاح على الأفكار والنزعات المختلفة واللغات الغيرية. وهذا هو العنصر الثابت في سلوك كاتب ياسين وممارساته الكتابية، كما فهمها المتخصصون في الشأن السردي والمسرحي والدلالي. لقد ظل طيلة تجربته في خدمة المصالحة الممكنة، ليست المصالحة التي تحمل سمات قابلية الاستعمار، أي الذوبان في الوافد، دون ضوابط، بل المصالحة التي تحترم القيم الإنسانية وتدافع عنها. وأمّا اللسان فكان عنصرا ثانويا، وليس نواة ثابتة يمكن التأسيس عليها لصناعة رؤية واعية.
بمثابة قفلة مربكة: لا يمكن الحديث عن الانفتاح دون التضحية بمفاهيم قد تجعل هذا التنازل شكلا من أشكال الخيانات الوطنية والقومية من منظور بعضهم. نتذكر في هذا السياق كتاب *عارنا في الجزائر* للفيلسوف جان بول سارتر، وكيف تعرض صاحبه لمضايقات وتهديدات، مثله مثل روجي غارودي وآخرين.
إنّ التنازلات، في جزء منها، ومنها التنازلات اللسانية الظرفية، تظل أمرا مريبا وغامضا ما لم تكن مبنية على منطلقات إنسانية منزهة من الاستعمار، وليس على خسائر مستمرة لقناعاتنا وهويتنا، أو انمحاء أمام الآخر الذي لا يقبل التنازل النسبي لكي يحقق نوعا من التماس أو المجاورة والتناغم بين الأفراد. ذاك ما مرره كاتب ياسين من خلال جزء من أقواله ومسرحياته.
*المسرح خطير*، تقول الناقدة المسرحية آن أوبرسفالد في كتابها *قراءة المسرح *، لكنه يملك من الوعي ما يجعل الانفتاح على المنجز الغيري قيمة إنسانية، وليس دعوة للتخلي عن الخصوصية لفائدة ذوات أخرى تؤسس على المركزة الكلية للقيّم وفق تصوراتها المرتبطة بالمال واللوبيهات السياسية والثقافية التي تصنع الأدب والفكر والمسرح والحداثة على المقاس. هذا النوع الهزيل يضحي بكل ّمقوّمات الشعوب وثقافاتها، وبالأمم عندما تكون الظروف مناسبة لذلك، أي عندما تتنازل الشعوب عن حقها في تحصين الثقافة والذات، ذاتها التي تحتكم إليها في الكتابة والتفكير والممارسات والشعائر، دون أن تنغلق على نفسها لتصبح خطرا على الفكر والحضارة والإنسانية، وعلى الأدب.
نتذكر جيدا، في سياق المركزة والتنازل، الرسالة الشهيرة لمدام دو ستايل إلى نابوليون بونابارت. لقد كانت رسالة إدانة للموقف المنغلق، رسالة نبيهة، موضوعية، ومناوئة للمركزية الفرنسية التي ظلت تعتبر نفسها قطبا والآخرين أتباعا ومريدين لأنهم يتعاملون بغير الفرنسية كلغة جامعة يتعذر التفكير خارجها، ومن ثمّ استحالة أن يكونوا منتجين لقيم إنسانية وحضارية راقية. لقد كان نابوليون بونابارت يحترم لغته بطريقته، ولأسباب إستراتيجية، سياسية في مجملها، وذاك موقف تاريخي اتخذ لاعتبارات.
لكن...هل كان كاتب ياسين يقصد ما فهمناه من خلال التجليات اللفظية؟ من خلال القراءة النفعية التي التصقت بالملفوظات؟ ولماذا عزلت عبارته عن سياقاتها التاريخية؟ *الفرنسية غنيمة حرب*، مع نية مبيتة في ذلك، ومن يقف وراء هذه الفكرة ليضفي عليها صفة القداسة والألوهية، أو ليجعلها من الثوابت الوطنية التي لا يمكن مناقشتها، دون ربطها ببقية مواقفه وتصريحاته المثيرة للجدل؟ من المهمّ تحديد الجهات الوصية على الخطاب لمعرفة المنطلقات والمقاصد.
لقد عاش هذا الكاتب بسيطا ومتواضعا وزاهدا ونسبيا، وليس يقينيا. وعادة ما كانت كتاباته ورشة متحولة باستمرار، كتابات بدأت ولم تنته كما قال، كشأن مسرحياته التي كتبت وعرضت بأشكال مختلفة، ومتبدلة، الشيء ذاته ينسحب على تصريحات أوجدها المقام من حيث إنها جاءت في سياقات محدودة يمكن العودة إليها بعقلانية، وليس بناء على العواطف.
قد تكون اللغة الفرنسية *غنيمة حرب* عندما لا ننظر إليها نظرة الذليل الحقير، عندما لا تستثمر سياسيا وأيديولوجيا لأغراض لا صلة لها بالعلم والبحث والثقافة واللسان، وعندما لا تصبح أداة للتمييز والمفاضلة، أو وسيلة للهيمنة وطمس الهوية والخصوصية، أي استعمارا لسانيا جديدا بالوكالة. علينا أن نؤكد على ما يلي: لقد مكثت فرنسا في الجزائر 132 سنة، لكنها لم تعتبر اللغة العربية غنيمة حرب. لقد دافعت عن لغتها وكيانها بتدمير العربية والدين. ذاك هو السؤال الذي وجب معالجته في إطار ثنائية الغالب والمغلوب، بعيدا جدا عن الخرافات التي يُراد جعلها مرجعيات مؤكدة، أو مجموعة من الأصنام والممنوعات الكبرى التي لا يمكن مناقشتها لأنها تعود بالفائدة على بعض الجماعات المستفيدة من الطرح السريالي لعنصر اللغة كغنيمة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)