لشّيخ أبو القاسم بن حْلُوش المستغانمي
[نُشر في مجلة «الإصلاح»، السنة الرابعة، العدد(19)، ربيع الأول-ربيع الآخر1431هـ/مارس- أفريل2010م، (ص:36-41)]
هو العالم المصلح، والفقيه السَّلفيُّ: أبو القاسم بن أحمد بن حْلُوش المستغانمي؛ ولد في عائلة علمية فاضلة سنة(1881م)بمستغانم
تعريفٌ بمدينة مستغانم:
ومستغانم –كما يصفها المؤرخ أحمد توفيق المدني سنة(1350هـ)في «كتاب الجزائر» (ص:237-238)-: «من أكبر المدن في الناحية الغربية الجزائرية، ابتدأ تخطيطها المرابط يوسف بن تاشفين حيث ابتنى مركزا حربيا يدعى «برج الاَمْحَالْ» جمع محلة وهي الفرقة الجندية، بمكان كان يدعى مشتى غانم، ثم نما العمران حول ذلك البرج؛ وازدهرت المدينة تحت حكم بني زيان وبني مرين؛ وشيد فيها أبو الحسن المريني مسجدها الكبير سنة1340(؟)، احتلتها القوّات الفرنسية في جويلية1833»، قال: «والمدينة تشمل حارة أروبية منتظمة وحارة عربية تدعى تاجديت)، ليقول: (ومسلمو مستغانم على جانب عظيم من الفضل والصلاح، وإن كانت نهضتهم إلى اليوم لم تصل إلى المركز اللائق بهم»اهـ.
نشأته وتعلُّمه وتعليمه:
يقول محمد الحسن فضلاء: «حفظ القرآن الكريم وأتقنه وجوَّدهُ على أئمة زاويتهم التي أنشئت خصيصًا لقراءة القرآن، وتلقي مبادئ العلوم، في حي «تاجديت»، وحين أتمَّ مرحلة قراءة القرآن عكف على الدروس العلميَّة فتتلمذ على علماء وفقهاء عصره الذين كانت مدينة مستغانم تعجُّ بهم، فلم يتوقف عن الأخذ منهم حتى أدرك مشايخُهُ أنه على أتمّ الاستعداد لمباشرة التعليم، فأذنوا لهُ بالتدريس لما يتمتع به من خبرة ونجابة وذكاء وفهم، فأصبح بدوره يستقبلُ الطلبة في زاويتهم ويُشرفُ على تعليمهم ورعايتِهِم»اهـ.
انتصابُهُ لنشرِ العلم ببلدته «مستغانم»:
أدرك الشيخ أبو القاسم مثل غيره من العلماء النابهين، وأولي العزم من المصلحين، أنه لا سبيل للأمة للخلاص من محنتها، والخروج من تيهِهَا، إلاَّ بالعلم، فهو الذي يهديها، وهو –لا سواهُ- مُجلِّي ظُلْمتِها، وكاشفُ غُبْنِها!، لذا نهض الشيخ أبو القاسم بأعباءِ هذا الواجب، وتصدَّى للتدريس والوعظ والإرشاد في مسجدِهِ، في حيّ: «تاجديت»، وهذا مُكاتِبٌ لإحدى جرائدِ الوقت؛ وهي جريدة «البلاغ الجزائري»، التي كان يُصدرها أتباع الطريقة العليوية بمستغانم، جاء في [العدد(155)، الجمعة29رمضان 1348هـ، 28فيفري1930م، (ص:3)]، تحت عنوان:
«جولة نائبنا في الأنحاء الوهرانية»:
«...إلى محروسة مستغانم...وفي مدة إقامتي اجتمعت كذلك بالفقيه الورع الشيخ بلقاسم بن الحلوش فوجدته حاذقًا لبيبًا فقيهًا ورعًا جامعًا بين شريعة وحقيقة[1]، فقضينا معه سويعات آنسنا منه فيها لطفًا وأخلاقًا كريمة...»اهـ.
وهذا مكاتبُ آخر للجريدة نفسِها[العدد(175)، 5ربيع الأول1349هـ/01أوت1930م، (ص:2)]، يتحدَّثُ عن الناحية العلميَّة في الوطن الجزائري، يقولُ عن: «مستغانم»: «أما الدروس العلميَّة فهي شبيهة بالمدارس العربية في الوجود -يعني: في القِلَّة!- ولولا فضيلة الشيخ المفتي سيدي عبد القادر بن قارة مصطفى والشيخ سيدي بلقاسم بن الحلوش الإمام بجامع سيدي السائح، لما رأيتَ في مستغانم شخصين يجتمعان على مسألة علميَّة...»اهـ.
إعجابُهُ بنهضة الشيخ ابن باديس العلميّة والدينيّة:
لقد أعجب الشيخ أبو القاسم بن حلوش بنهضة الشيخ المدرس الأكبر وباعث النهضة الدينيّة والعلميّة في الوطن الجزائري: الشيخ ابن باديس، فكان من المحبِّذين لها، والمدافعين عنها، والمستبْشرين بنجاحها، والمؤمّلينَ لاكتساحها الموروثات البِدعيَّة، واحتضانها من قِبَلِ البيوتات الجزائريَّة، وهكذا كان الشيخ أبو القاسم من أوائل الداعين إليها، والعاملين لازدهارها وانتشارِها، فبعث بابنه الشيخ مصطفى(وُلد سنة1907م) إلى قسنطينة، ليأوي إلى عرينِ الأسد، ويستمِدَّ من قوته، ويكونَ جنديًّا من جنودِ الإصلاح، فانتقلَ الابنُ مصطفى إلى «الجامع الأخضر»، سنة(1926م)(1345هـ)، بعد أن تلقى مبادئ العلوم الأولية على يد والده؛ واستوعب الدروس التي كان يُلقيها على طلبته في الفقه واللغة وأنواع المعارف الأخرى[2]. يقولُ الشيخ مصطفى: «وبناءً عن رغبته في العلم والمعرفة أرسلني سنة1926 إلى قسنطينة للتلقي ...[عن] شيخنا الأستاذ عبد الحميد بن باديس»اهـ[3]، وبعد أن لزمه نحوًا من سنة، قال: «أشار عليَّ بالذهاب إلى تونس للالتحاق بجامع الزيتونة لاستكمال معلوماتي»، بقي بتونس إلى آخر سنة1930، حيث رجع إلى مسقط رأسه «مستغانم»، ليُعين والدهُ ويشُدَّ عضُدَهُ في خدمة العلم ونشره، وتبليغ الدين الصحيح، مع ما هو معروفٌ في ذاك الزمان من عَنَتِ الإدارة الاستعمارية الغاشمة، وجهل الأمة، وتكاثر الدجاجلة.
وهذه جريدة «البلاغ الجزائري»، تهنئُ الشيخ أبا القاسم بنبوغ ابنه الشيخ مصطفى، وظهوره كاتبًا مُجيدًا؛ جاء في[العدد(99)، مستغانم، يوم الجمعة7رجب1347هـ، 21ديسمبر1928، (ص:3)]:
(مستغانم: يقول المكاتب: إننا وقفنا على ما نشرته مجلة «الشهاب» الغراء من مقال افتتاحي لأحد الشبان المستغانميين وهو الأخ النجيب السيد مصطفى بن حلوش نجل الشيخ السيد بلقاسم بن حلوش المدرس بجامع سيدي عبد الإله بقرية «تجديت» الموجود(؟) بحاضرة تونس لتحصيل العلم وتهذيب النفس على الوجه المطلوب...وقد سررنا أيما سرور بهاته الخطوة التي تقدمها في ظرف مدة وجيزة فلمثل ذلك فليعمل العاملون. وإننا من صميم القلب نهني والده الذي أعانه على مراده من العلم واكتساب الأخلاق الفاضلة بهاته الرتبة العلمية التي قلت أفرادها في أبناء الأمة الجزائرية وعلى الخصوص مستغانم أيقظها الله من سباتها المميت وحشرها لحياة جديدة بالعلم والعمل الصالح والموتى يبعثهم الله»اهـ.
في مجلس إدارة «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين»:
ظهرت للوجود «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» سنة(1931م)، والمصلحون هم الذين فكَّروا فيها، وعملوا على إنشائِها، وسطَّروا لها برنامجًا إصلاحيًّا عامًّا شاملاً، ومن أوَّلياته: شنُّ حملةٍ جارفةٍ على الباطل والمبطلين، وعلى الخرافات والبدع التي طال أمدُها بسكوت العلماء –من جهة-، وبدفاعِ أشباهِ العلماء والمُسخَّرين والطَّمَّاعِين، عن أعمالِ العامَّةِ والجاهلين-من جهةٍ أخرى-.
لم يتردَّد الشيخ أبو القاسم بن حْلُوش في الانضمام إلى هذه الجمعية، والقبولِ بالعُضوية في مجلسِ إدارتِها، فكان مِن ضمن مؤسِّسيها، وعُضوًا إداريًّا فاعلاً فيها، يشدُّ عضُدَ إخوانه العلماء المصلحين، لا سيَّما الرئيس: الشيخ ابنُ باديس.
وقد عمل مجلس إدارة الجمعية على تأسيس شُعب في المدن، تنشرُ دعوة الجمعية، وتُذلِّلُ الصعابَ التي تعترضُ طريقها، وتحولُ بين دعوتها الإصلاحية، وبلوغها إلى الناس، ودخولِها البيوتات الجزائريَّة، وهكذا تأسست شُعبة للجمعية في مدينة «مستغانم»، برئاسة الشيخ أبي القاسم بن حلوش، واختار لها من رجالات «مستغانم»، «أشدهم إسلامًا، وأقواهم إيمانًا وأصلبهم على نصرة الحق ودحض الباطل»[4].
ولمَّا نال الكِبَرُ من الشيخ أبي القاسم ما نال، ورأى في ابنه؛ الشيخ مصطفى، من العلم والكفاءة، والقوَّة والأمانة، ما يسُدُّ مسدَّهُ في مجلس إدارة الجمعية، أنابهُ عنهُ، وفسح لهُ المجال، ليحِلَّ محِلَّهُ، وهكذا تفرَّغ الشيخُ أبو القاسم: «للتدريس والدعوة ولشؤونٍ أخرى تقتضيها رسالةُ «جمعية العلماء»، من نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وما علق بدين الله من التُّرَّهات والبدع والخرافات والأباطيل»[5].
ـ وهذا خبرُ اعتذارِ الشيخ أبي القاسم عن حضور اجتماعات مجلس إدارة الجمعيَّة، كما تلاهُ الرئيسُ ابنُ باديس:
ففي المؤتمر السنوي العام للجمعية، الذي انعقد بعاصمة الجزائر، في صباح يوم السبت20رجب1356هـ، 25سبتمبر1937م، شكلوا الإدارة الجديدة، فكان: مصطفى بن حلوش، في جملة: الأعضاء المستشارين[6]، وجاء في التقرير المنشور بمجلة «الشهاب»: «ثم اعتذر[الرئيس: ابن باديس]عن تخلف...الشيخ بلقاسم ابن حلوش[عن التحاقه بالجمعية] لِكِبَرِ سنِّهِ...»اهـ.
رئيس جمعية العلماء في ضيافة ابن حْلُوش(1350هـ/1931م):
عقد الشيخ ابن باديس رئيس جمعية العلماء رحلة من العاصمة(الجزائر) إلى وهران فما بينهما من البلدان، وذلك للتعريف «بجمعية العلماء ومقاصدها ومنافع الأمة منها»[7]، وكتب ابن باديس عن هذه الرحلة بقلمه، فمما قال عن:
«مستغانم: قصدنا من المحطة إلى مسجد الأخ الشيخ بلقاسم بن حلوش، لما بيننا من سابق المعرفة بالمكاتبة وروابط المودة المتأكدة، ولأن ابنه الشيخ مصطفى أحدُ مريدينا ومن أعزِّهم علينا، فتلقيانا بالحفاوة والسرور الزائدين، وأنزلنا على الرحب والسعة، ومن غده دعا للعشاء معنا أعيان البلد، منهم فضيلة الشيخ المفتي سيدي عبد القادر بن قارة مصطفى وسماحة الشيخ سيدي أحمد بن عليوة شيخ الطريقة المشهورة، وكان هذا أول تعرفنا بحضرتهما فكان اجتماعا حافلا بعدد كثير من الناس، ولما انتهينا من العشاء ألقيت موعظة في المحبة والأخوة ولزوم التعاون والتفاهم على أساسهما ...وذكرنا الدواء الذي يُقَلِّلُ من الاختلاف ويعصم من الافتراق، وهو تحكيم الصريح من كتاب الله والصحيح من سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستحسن الشيوخ الحاضرون ذلك وحل من الجميع محلَّ القبول...وأهل مستغانم أهل ذكاء وحسن نية وإقبال على العلم....» [8].
قلتُ:
قد قيل الكثير عن تأسيس الجمعية، التي جمعت بين المتضادين أوَّل مرَّة!؛ فقد تكونت من المصلحين ومن الطرقيين ومن الحكوميين! وقيل الكثير عن رحلات ابن باديس بصفته رئيسًا لهذه الجمعية -ومنها رحلته إلى الغرب الجزائري- وعن خطاباته فيها عند ملاقاة شيوخ الطرق ورؤساء الزوايا وغيرهم! ولعلَّ من أحسنِ الأجوبة على كُلِّ ذلك، ما ذكره المؤرخ محمد القورصو حيثُ قال عن أهداف ابن باديس:
«استهدف إدخال الأفكار الإصلاحية في هذا الجزء من الوطن عن طريق التعريف بالجمعية وإطلاع المواطنين الجزائريين على ما تمَّ في شهر ماي عام1931م بـ«نادي الترقي»، ولم يكن في الإمكان آنذاك إعطاء أهداف أخرى لهذه الرحلة نظرًا لحداثة الجمعية ونوعية تشكيلة مكتبها والذي ضم عناصر من الطرقيين، الأمر الذي دفع بابن باديس أن يمدّ يده نحو زعماء الزوايا وأئمة المساجد الرسمية في هذه المنطقة....هادفًا إلى فتح الزوايا والمساجد للفكر الإصلاحي وكسب عناصرها المتنورة والأقل تعصبًا»[9] ، ليقول أيضًا عن «حقيقة الصراع بين العلماء والطرقيين»:
«إن الوحدة التي اتصف بها المكتب الأول لجمعية العلماء، والتي تغنى بها البعض لم تقُمْ على أُسُسٍ سليمة وواضحة، فكيف يمكن لجمعية تأسست لمحاربة الآفات الاجتماعية والخرافات والبدع، والشعوذة، وغيرها من الأمراض الاجتماعية أن تضم في صفوفها أولئك الذين تسبَّبُوا في هذه الأوبئة؟ فمآل مثل هذه الأحلاف إما الجمود والموت، وإما الشقاق، ذلك أنه لا يمكن التوفيق بين السيئ ونقيضه، فالعلاقة يجب أن تكون حتمًا علاقة صراع، هذا هو الجدل الذي يفرض نفسه في مثل هذه الحالات، وإذا فقدت هذه العلاقة الجدلية انعدم الإصلاح من كل روح تبعث فيه الحياة والحركية التي على أساسها قام العلماء. فانطلاقا من هذا المنطق يمكن أن نخلص إلى أن الوحدة التي اتصفت بها جمعية العلماء في1931 كانت اصطناعية نظرًا لطبيعة الخلاف الأساسي القائم بين العلماء وخصومهم من الطرقيين، والذي يقتضي توضيح الموقف ونبذ كل فكر انتهازي يرمي إلى إخفاء التناقضات الداخلية فالصراع بين الطرفين حتمية تاريخية دام إخفاؤه سنة كاملةً إلاَّ أنه أصبح حقيقة ملموسةً عند شروع العلماء في تطبيق برنامج جمعيتهم»اهـ[10].
قلتُ:
خرج الطرقيون ورؤساء الزوايا من الجمعية، وناصبوها العداء، وأطلقوا ألسنتهم في ثَلْبِ العلماء، ورمي المصلحين بالإفساد! ورميِ جمعيتِهم بأنها تعملُ على زرع الفُرقةِ وتمزيقِ الوِحدة، لذلك وضعوا شروطًا للصلح معهم، كانَ في أوَّلِيَّاتِها: السكوت عنهم وعن عوائدِ الناس! والكفّ عن التَّعرُّضِ لهم!!...
مذهبُهُ الإصلاحيّ وبلاؤُهُ في سبيلِ نشْرِهِ:
يقول محمد الحسن: «واشتهر الشيخ أبو القاسم بن حلوش بلقب العالم المتفتِّح، والمصلح السَّلفيّ فحفظه الله من الغرق في مستنقع الشعوذة والدجل والبدع، كما غرق فيه أترابه ولِدَاتُهُ، ولم يقف موقفًا سلبيًّا بإِزائهم، بل كان يُجاهرُ بالحق، ويُحارب البدع والخرافات، وقد لحقته من الطرقيين وأنصارِهِم، ومن أهل البدع وأشياعهم إذايات مختلفة، ولكنَّهُ ظلَّ صامدًا على فكرته الإصلاحيَّة السَّلفيَّة، فما وهن لما أصابهُ في سبيل الله وما ضعف وما استكان»اهـ.
«مستغانم»، بين دُعاة السُّنَّة وحُماة البدعة!:
هذه مراسلة إلى جريدة «البصائر»، بإمضاء مُسْتَتِر تحت اسم: «مسلم»، نُشرت في[العدد(25)، 6ربيع الثاني1355هـ/26جوان1936م، (ص:7)] تحت عنوان: «مراسلات: فتنة عليوية يعضدها مفتي مستغانم»، تُصوِّرُ لنا جانبًا من الصراع الذي كان قائمًا في«مستغانم»-كغيرها من البلدان- بين السُّنِّيِّين السَّلفيين، فيما يُؤَمِّلُونَهُ من الرجوع بالناس إلى هداية القرآن والسنة الصحيحة وعمل السلف الصالح؛ أهلِ القرون الثلاثة المشهودِ لهم بالخيرية على لسان خير البريَّة (صلى الله عليه وسلم)، وبين القوم البدعِيِّين والخرافيِّين، في نضالهم عن موروثات بِدعهم، ومُحدثات الخلف، الذين هُمْ لهُمْ سلف! ورثوها عنهم، وقد أجمعوا كيْدَهم، وصاحُوا في قومهم: أنْ لا يصدَّنَّكُمُ المصلحون عنها، ويُبدِّلُوا دينكم الذي وجدتم عليه آباءكم وأجدادكم ومشايِخكم!!
قال: «أكتب لكم هذه الكلمات وعيناي تذرفان الدمع دماء وقلبي يتحرق حزنا وألما، لما أصاب الحق والدين يوم الأحد 7جوان من هذه السنة[1936م]. توفي المرحوم السيد الحبيب بن زازة وكان موعد تشييع جنازته بعد ظهر اليوم المذكور ولما حضر الناس للتشييع خرج عليهم أحد أولاد المتوفى هو السيد محمد ونادى بأعلى صوته: أيها الناس إن جنازة والدي رحمه الله ستشيع على مقتضى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسنة السلف الصالح التي هي الصمت التام للتفكر والاعتبار فساعدوني على إحياء هذه السنة يرحمكم الله!
وما سمع هذا النداء أعداء السنة والنظام وأنصار البدعة والهمجية، حتى ثار ثائرهم وانبعث أشقاهم أحمد أخو محمد المذكور وقال لأخيه «لا تشيع جنازة والدنا إلا بعادة آبائنا وأجدادنا» فتصلب محمد وتشدد فقابل أحمد شدة أخيه وصلابته بالاعتداء عليه بالضرب فرد عليه محمد بالمثل. وكان الشيخ بلقاسم بن حلوش هناك فدفعته شهامته للتدخل بين الأخوين للحجز بينهما فأصابته ضربة خفيفة عن قصد أو غير قصد من يد نصير البدعة أحمد.
أما الشيخ بلقاسم فقد رجع لبيته ولم يشهد الجنازة وأما العليويون فقد كانوا ينتظرون متى يقومون بوظيفهم الذي يشبه تماما وظيف «العدّادات» في المآتم و«المدّاحات» في الأفراح.
وقد علم الناس أن هذه الفتنة مدبرة منهم (العليويين) وتأكدوا بعد أن وصلت الجنازة للمصلى إذ قدموا للصلاة عليها شخصا يرضونه ممن يعيشون على الموت والقراءة على القبور فعارضهم نصير السنة السيد محمد ابن الفقيد قائلا أنا ولي الجنازة أقدم للصلاة عليها من أرضاه لا من ترضونه ولا أرضاه! ودفع مقدمهم عن الجنازة وهنا عظمت الفتنة إذ ثارت ثائرتهم فانهالوا على محمد يضربونه حتى أدموه وحتى أغمي عليه من شدة المقاومة وكان المبتدعون يضربون ويصيحون: موتوا على لا إله إلا الله! «الله أكبر! كلمة حق أريد بها باطل والتاريخ يعيد نفسه! » ومن المؤسف المحزن أنهم استعانوا عليه ببعض أقاربه وبعض بني عمه ولو كانوا رجالا لما تركوا ابن عمهم لأيدي الظالمين تناله بالضرب والإهانة!
ولم يقتصر اعتداء المبتدعين على نصير السنة محمد بل اعتدوا على كل من تدخل لإطفاء الفتنة وتهدئة النفوس الثائرة. وقد بلغني من مصدر وثيق أن العليويين اجتمعوا وقالوا لئن فشلنا هذه المرة كالمرات السابقة فسيذهب رقصنا وخلوتنا وإنشادنا قصائد الشيخ خلف الجنائز وجميع بدعنا ومناكرنا ضحية هذا التيار الإصلاحي الجارف الذي يستمد قوته من القرآن ومن السنة والذي نبه الأمة و«فَيَّقْهَا بنا» فقطعت عنا الزيارة وهجرت الخلوة! ثم أقسموا بالله جهد أيمانهم-حنثت يمينهم- ليقاومن كل جنازة تشيع بالصمت....وفي مساء ذلك اليوم جاء السيد محمد السَّلفيّ لبيت الشيخ بلقاسم يبكي ويشكو ما أصابه من المبتدعين ويقسم بأنه لا يألو- إن شاء الله - في نصر السنة وإحيائها ما دام فيه عرق ينبض فشجَّعَهُ الشيخُ وذَكَّرَهُ بما أصاب سيِّدَ الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم) من جهلة قومه ولما علم بنو عمه بوجوده عند الشيخ انتهزوا الفرصة وجاءوا بأخيه مستسمحًا معتذرًا بأنه لم يفعل ما فعل إلا بوسواس الشياطين وتغرير الدجالين وطلب المسامحة من أخيه ومن الشيخ. هذه فتنة العليويين حكيتُهَا لكم كما وقعت وللقراء المنصفين حقّ الملاحظة والتعليق عليها فكيف كان الشيخ المفتي يعضدها؟ كان يعضدها بإجابة كل من يسأله عن بدعة الذكر بالجهر عند تشييع الجنازة بأنه بدعة مستحسنة أو بأنها بدعة لا يضر فعلها ولا تركها....ولولا تدخله بالتأويل للمبتدعين، والتحريش بالمصلحين لما توجهنا إليه بملام، ولا أدخلناه في كلام....»الخ.
ثم عاد الكاتبُ إلى الموضوع مرَّةً أخرى؛ فكتب: «إلى فضيلة الشيخ مفتي مستغانم»، نُشر في «البصائر» [العدد(28)، 27ربيع الثاني1355هـ/17جوليت1936م، (ص:6)]، بيَّن فيه تعرض المفتي (الطرقيّ)! لجمعية العلماء بالطعن والنيل منها واتهام رجالها بالزيغ والإلحاد!...الخ.
إدخالُهُ إصلاحاتٍ إلى زاويته العلميَّة، وآمالُهُ فيها:
غيَّر الشيخ أبو القاسم هيكل الزاوية التي كان يُشرفُ عليها، ويستقبلُ فيها الطلبة، فابتنى فيها مسجدًا كبيرًا ونواةً لمدرسة المستقبل التي لم يَحِن بعدُ وقتُ تأسيسها، والتي حقَّقها من بعدِهِ ابنهُ البرُّ: الشيخ مصطفى[11].
وفاتهُ ومشهدُ جنازته:
تُوفي الشيخ أبو القاسم-رحمه الله- في (21)من شهر (جانفي) يناير1949م، وعمره(68) عامًا. هذا ما ذكره الحسن فضلاء؛ بناهُ على تاريخ مولده؟ والذي سيأتي في صحيفة «النجاح»: (72)عامًا؟ واللهُ أعلم.
ـ نشرت «النجاح» [العدد: (3678)، السبت29ربيع الأول1368هـ/29جانفي1949م، (ص:2)]، خبر موت الشيخ؛ فقالت:
«رُزِئَتْ مستغانم صباح يوم الجمعة21ربيع الأول في عالم من علمائها وإمام صالح من صلحائها ألا وهو العلامة الفقيه الشيخ بلقاسم ابن حلوش الإمام المدرس الحر بمسجد سيدي عبد الإله. ختمت أنفاسه ... والتحقت إلى ربها... عن سنّ يناهز اثنين وسبعين سنة فكانت وفاته رَنَّةَ(؟) أَسَفٍ على أهل حاضرة مستغانم وكل من عرفه وعرف الفراغ الذي كان يسدّه وما كان له من الأثر الحسن في خدمة الدين الحنيف ونشر مبادئه بين المسلمين فقد قضى حياته كلّها في تدريس العلم وإرشاد الخلق إلى الحق. وبعد ظهر يوم السبت 22 ربيع الأول شيعت جنازته في موكب رهيب تعلوه المهابة والوقار حضرها العدد العديد من أعيان الحاضرة ونواحيها...وشخصيات كثيرة من مختلف الجمعيات تقديرًا لشخصية فقيد العلم والصلاح وكلهم متأسفون باكون على فراقه لتعظيمهم للفراغ الذي كان يسده ....وأخيرا نرفع تعزيتنا الحارة لأبناء الفقيد وأقاربه وتلامذته ومحبيه وبالأخص إلى العلامة الجليل صديقنا الشيخ مصطفى ابن حلوش جعله الله خَلَفًا صالحا وابنا بارًّا يسد الفراغ الذي كان يعمره أبوه الراحل الكريم كما نسأل الله العظيم للفقيد الرحمة والمغفرة والرضوان وأن يسكنه في بحبوحة النعيم وفسيح الجنان بمنّه وكرمه إنه الرحيم الرحمن. مكاتبكم»اهـ.
ـ كما نشرت «البصائر»، في عددها(67)، تحت عنوان: «رِزْءٌ جَسِيمٌ»، مكاتبةً عن جنازة الفقيد، حرَّرها الشيخ: «أحمد الشريف السنوسي»[12]، جاء فيها: «ذلك هو يوم انطفأ به مصباح الأمة المستغانمية وأفل فيه نجم ثرياها، وغار في ثراها، ألا وهو الشيخ أبو القاسم بن حلوش والد صديقنا العزيز الأستاذ مصطفى. قطعت أنفاسه وزهقت الروح إلى بارئها فجر الجمعة21ربيع الأول[13][1368هـ]...»الخ.
وقد كتب عنهُ رئيس جمعية العلماء؛ الشيخ البشير الإبراهيمي كلمةً مُنْصِفةً، نُشرت في «البصائر»[14]، في سلسلتها الثانية[العدد (65)، 2ربيع الثاني1368هـ/31جانفي1949م، (ص:3)]، تحت عنوان:
«مَوْتُ عَالِمٍ سَلَفِيٍّ مُصْلِحٍ هُوَ الشّيخ أبو القاسم بن حْلُوشْ»:
«بلغني في أثناء الأسبوع الماضي-وأنا على فراش المرض- خبر بموت العالم العامل المصلح الشيخ أبي القاسم بن حلوش، العضو الإداري السابق بجمعية العلماء، ووالد ولدنا الروحي الأديب الكاتب الشيخ مصطفى بن حلوش، بداره من ربض «تاجديت» بمستغانم.
أَسِفْتُ لموت الشيخ أبي القاسم أعظم مما آسفُ لفقد قريب، لأنه هذه الطائفة الإصلاحية التي كان الشيخ أبو القاسم أحد أفرادها إنما تتقارب على المشارب، لا على المناسب، وتتصاحب بالأرواح لا بالأبدان. والشيخ أبو القاسم-رحمه الله- مصلح بطبعه وتربيته، خُلِقَ في منبع من منابع البدع، وفتح عينيه عليها، فأنكرتها فطرته السليمة، وتربيته القويمة من أول أمره، ونشأ على نفور منها وازدراء لأهلها. ولقي منهم تجريحا وأذى، ولقوا منه تسفيها وإنكارًا، وكان كل ذلك مزيدًا في رفعة شانه. طلب العلم على فئة من الفقهاء المدارين المجارين للعامة في أهوائها، فأخذ ما صلح من علمهم، وهجر ما قبح من أعمالهم، ووحَّدَ الله وعبده بما شرع، على الوجه الذي شرع، وابتنى لنفسه مسجدًا من ماله بسوق «تاجديت» يصلي فيه بأتباعه في السيرة ويلقي عليهم دروسا في الوعظ والإرشاد، وفيه بدأ ينشر الإصلاح العملي فنبذ البدع اللاصقة بالعبادات، ولم يزل متطلعا إلى العلم الصحيح يطلع بدْرُه، متشوفا إلى الحق الصريح يَتَبَلَّجُ فجرُه، إلى أن ظهرت بواكير الحركة الإصلاحية العلمية في دروس الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس، فجهز ولده الشيخ مصطفى حلوش لتلك الدروس ليستدرك بأحد أولاده ما فاته في نفسه، وأقرَّ اللهُ عينه ببلوغ مرامه. فكان من ذلك الولد للإصلاح ما يكون من جنديّ من جنوده المخلصين. فشارك بقلمه ولسانه في جميع الميادين.
عاش الشيخ أبو القاسم بعد ذلك على سَمْتِ الصالحين، يتنعَّم بما يرى من انتصار الحق وأتباعه، وانْدِحار الباطل وأشياعه، إلى أن وافته منِيَّتُهُ راضيا مرضيا. فرحمه الله وأثابه جزاء إيمانه واستقامته. وأنا عن نفسي وعن جمعية العلماء ومؤسساتها أتقدم بالتعزية إلى ولدنا الشيخ مصطفى حلوش وإخوانه وأهل بيته، وإلى جميع أفراد الأسرة بـ«مستغانم» و«سَبْدُو» مشاركًا لهم في الحزن، حاثا لهم على الصبر، راجيا لفقيدهم الرحمة»اهـ.
[1] - هذا التعبيرُ مِنْ مُحدثاتِ المُتصوّفة، وقدْ توصَّلُوا بهذه القِسْمة! إلى مُنكرٍ من القول، وفاسدٍ من العمل.
[2] - «من أعلام الإصلاح في الجزائر» (1/244-248)لمحمد الحسن فضلاء.
[3] - «من أعلام الإصلاح في الجزائر» (1/245)لمحمد الحسن فضلاء.
[4] - «من أعلام الإصلاح في الجزائر» (1/102-105)لمحمد الحسن فضلاء.
[5] - «من أعلام الإصلاح في الجزائر» (1/102-105)لمحمد الحسن فضلاء.
[6] - «الشهاب»، جزء: شعبان1356هـ/أكتوبر1937م، ج8، م13، (ص:347-348).
[7] - «آثار الإمام ابن باديس» (4/243).
[8] - «آثار الإمام ابن باديس» (4/246-247)، أو: «الشهاب»، ج12، م7، غرة شعبان1350هـ/ديسمبر1931م.
[9] - «تأسيس ونشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عمالة وهران:1931-1935»، تقديم: محمد القورصو (ص:25).
[10] - «تأسيس ونشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عمالة وهران:1931-1935»، تقديم: محمد القورصو(ص:98).
[11] - «من أعلام الإصلاح في الجزائر» (1/102-105و248)لمحمد الحسن فضلاء.
[12] - وهو من قرية «وادي الخير»؛ مِن قُرى مستغانم، عُرِف بـ: الشيخ أحمد الأطرش، توفّي بمدينة وهران، سنة( 2003م).
[13] - ورد التاريخ في صحيفة «البصائر»: (23ربيع الأول)، والصوابُ ما هو مُثبتٌ أعلاهُ، والله أعلم.
[14] - وهي في: «آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي»(4/282-283).
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 15/07/2013
مضاف من طرف : yasmine27