الجزائر

على متون الشعر الرائق..‏



عدت هذه الأيام إلى مرحلة الصبا الأول، ولكن على متون الوجدان والعاطفة المشبوبة، وأعني بذلك، الفترة العجيبة التي كان فيها الشعر قرينا لي في جميع تحركاتي، علاوة على الدفق الوطني الغامر الذي كنت أعيشه كغيري من أبناء هذه الجزائر الجميلة.
في هذه العودة، -وما أحلاها، وما أطيبها!- كان اللقاء جميلا رائعا بالماضي وبصوره، وكيف لا يكون كذلك ورفاق الرحلة هم من كبار الشعراء الذين ازدان بهم جبين اللغة العربية في عصرنا هذا؟ وأعني بهم شعراء المهجر دون استثناء، وفي شقيه، الشمالي والجنوبي من القارة الأمريكية: جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ورشيد أيوب ونسيب عريضة وشكر الله الجر وفوزي المعلوف وإلياس قنصل وغيرهم من أباطرة الكلام العربي الذين حفلت بهم المهاجر الأمريكية بالرغم من قساوة العيش التي عانوها، وبالرغم من العنت الذي عاشوه قبل ذلك في ربوع الشام كله.
ولما كنت حفظت مقاطع عديدة من شعر أولئك العظماء في الصبا الأول، فإنني لم أجد أي عناء في استذكارها، والسبب هو أنها كانت منطلقي في دنيا الأدب والكتابة الأدبية والصحفية بصورة عامة. استذكرت ميخائيل نعيمة وهو يصف الجندي الجريح الذي عاد من أوحال الحرب العالمية الأولى، وقصيدته المذهلة "النهر المتجمد" التي نظمها باللغة الروسية قبل أن يعربها، والتي رأى فيها البعض أنها صورة رمزية عن الثورة البلشفية التي كانت يومها على الأبواب، إذ أنه درس في روسيا قبل رحيله إلى أمريكا.
وقرأت مقاطع عديدة من شعر إيليا أبي ماضي، هذا الشاعر الذي عرف كيف يفتض بكارة اللغة العربية، ويغني بها أجمل المواويل، وجبران خليل جبران، وهو يتحدث عن رنين الأفلاك، ويصور مأساة المرأة اللبنانية في روايته "الأجنحة المتكسرة" بالإضافة إلى مقطوعاته النثرية العديدة. وكان من الطبيعي أن أعيد تلاوة شعر نسيب عريضة، ذلك الذي تحدث عن الأمة العربية، ووصف ما تعانيه من ظلم تحت وطأة حكامها وما ابتليت به من استعمار. وقد بلغت قمة النشوة حين أعدت قراءة مقاطع من ملحمة "على بساط الريح" للشاعر اللبناني النابغة، فوزي المعلوف، تلك التي نظمها في أواخر العشرينات من القرن الماضي بعد أن امتطى الطائرة لأول مرة في حياته وحلقت به في سماء البرازيل.
لا أعتقد أن مراحل الإنسان تذهب سدى، ويعفي عليها الدهر لمجرد أنها انقضت ودخلت متحف الزمن. إننا في واقع الأمر نعيش حيوات عدة وفقا لمراحل العمر من طفولة وصبا ويفاعة وشباب وكهولة وشيخوخة، وعليه، فإن استذكار هذه المراحل أمر لا بد منه لكي تكتمل حياتنا، ولكي نعيد التوازن إليها بين الحين والآخر كلما اضطربت الأرض تحت أقدامنا.
شعراء المهجر جزء لا يتجزأ من وجداني لأن اللقاء بهم توافق مع الثورة التحريرية في بلادنا، ولأن اللغة العربية جاءتني مهفهفة شيقة رائقة على متون قصائدهم، فكيف أتنكر لهم؟ وكيف أدير ظهري لجزء من وجداني؟ وكيف أضرب صفحا عن الساحة الحضارية التي ما زلت أتحرك فيها، وأعني بها ساحة الحضارة العربية الإسلامية؟
ويروقني في هذا المقام أن أتلو البيتين التاليين اللذين حفظتهما خلال نفس الفترة:
سكت، فغر أعدائي السكوت
وظنوني لأهلي قد نسيت
وكيف أنام عن سادات قوم
أنا في فضل نعمتهم ربيت؟
إنني أنصح –بصورة متواضعة- أبناء الجيل الصاعد الذين يريدون امتلاك زمام اللغة العربية أن يلتفتوا إلى هذا الجانب الرائع من الأدب العربي الحديث، فهو لا يقل متانة وجزالة سبك عن جميع ما قيل من شعر في العصور الأدبية العربية الأولى، وجميع ما كتب من نثر خلال نفس العصور. وإنهم لواجدون دون شك ما يرضي أذواقهم ويلهب مشاعرهم ويحرك أفكارهم.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)