الدكتور عبد المجيد مزيان فيلسوف و مفكر و سياسي تلمساني من مواليد ″ 1926- 2001 ″ بقرية امْزُوغَن بمحاذاة قرية َيْبدَرْ دشرة بوادي الشولي شرق تلمسان، نشأ بين أحضان عائلة معروفة بالورع و الصلاح و شرف النسب. ترعرع و تلقى تعليمه عند عمته بالعباد الحي العتيق بتلمسان، المعروف باسم الولي الصالح سيدي بومدين. مر بين محطات السياسة و الدين و الثقافة. اشتغل على عدة قضايا فكرية و فلسفية و اجتماعية و تصدر ريادة الحوار الدينى بين الإسلام و المسيحية و رافع عن الهوية العربية الإسلامية للمجتمع الجزائري، و هو عضو بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين حيث تشبع بالبعد الديني منذ التحاقه بالمدرسة القرآنية و هو طفل حتى حفظ كتاب الله و هو دون العاشرة من عمره، درس اللغة العربية بدار الحديث بتلمسان ثم سافر إلى المغرب طلبا للعلم و تعميق معارفه الفلسفية و الفكرية.
مارس أثناء ثورة التحرير التى التحق بها سنة 1956 الصحافة الحربية بإذاعة تونس تحت قيادة وزارة التسليح و الاتصالات العامة المعروفة باسم ' المالق' MALG ' التى أسست إلى جانب مديرية التوثيق و البحث و الإسناد و مصلحة التصنت و التجسس على العدو إذاعات سرية في البلدان العربية و الإشتراكية الصديقة كانت تعرف بصوت الجزائر الحرة حيث تولى مهمة التعاليق السياسية و فضح سياسة فرنسا الإستعمارية مع ثلة من المجاهدين الصحفيين أمثال عيسى مسعودي. لعبت الإذاعة السرية دورا محوريا في توعية الشعب و تحسيسه بقضيته العادلة و كانت وراء تجنيد آلاف الجزائريين في صفوف جبهة و جيش التحرير الوطني. مما يذكره المؤرخون أن أجداده و أهل عشيرته بذات المنطقة التى ولد فيها كالسي لخضر ممو و السي مزيان هاجرا إلى الشام سنة 1910 رافضين سياسة التجنيد الإجباري الذي فرضته فرنسا على الأهالي أنذاك و الذي ظهر لاحقا بقانون 1912، و الذي زجت بموجبه فرنسا الجزائريين في جبهات القتال خلال الحرب العالمية الأولى. و كان القايد ممو السي لخضر رفقة سبعة وعشرين فردا من عائلته هاجروا نحو بلاد الشام التي اعتبرها أرض إسلام هروبا من ظلم و بطش فرنسا، و كانت هذه الهجرة ضربة قاسية للسياسة الإستعمارية اتجاه الشعب الجزائري.
غداة الإستقلال تقلد عدة مناصب سياسية حيث عُيّن مديرا لديوان الرئيس الأسبق أحمد بن بلة و تولى منصب الأمين العام لوزارة الداخلية و واليا على تلمسان، بعدها غادر العمل السياسي للتدريس بجامعة وهران متنقلا بينها و بين جامعة الجزائر مع ثلة من المفكرين. ثم عاد مرة ثانية لتولى حقيبة وزارة الثقافة و السياحة في عهد الرئيس الشادلي بن جديد، ثم عيّنه الرئيس اليمين زروال رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى. يعتبر المفكر عبد المجيد مزيان واحدا من رواد ترقية حوار الحضارات و كان ينشط ملتقيات حول الإسلام بمعهد الدراسات العربية الذي كان تابعا أنذاك للفاتيكان بإيطاليا و كان أول من كتب في موضوع الأديان و الحضارات و له مقال نشر سنة 1948 بالفاتيكان حول النسق الفكري الإسلامي. و نظرا لتمكنه من اللغة الفرنسية كان رحمه الله يقدم برامج للتعريف بالإسلام بالقناة الفرنسية الثانية. لم يترك إرثا ثقيلا لكنه ترك إرهاصات فلسفية و تصورات اقتصادية و اجتهادات دينية...شكلت مشروعا حضاريا و خطوة من خطوات الإنبعاث الحضاري المأمول فى عالم عربي اسلامي فقد حضارة من أرقى الحضارات عبر التاريخ و يتعلق الأمر بحضارة الأندلس التي ضاعت من بين إيدينا و ولجنا في عالم قاتم أثقلنا بضريبة الإنحطاط و التخلف. و نظرا لغزارة معارفه الفكرية و الفلسفية و الدينية أختير في كثير من المجالس العلمية لمنتديات منها بيت الحكمة بتونس و الأكاديمية العربية بالقاهرة و بالمغرب و مجمع اللغة العربية بالجزائر.
الدكتور عبد المجيد مزيان صاحب منظومة فكرية شاملة و كبيرة نستشف مرجعيتها عند المفكر مالك بن نبي و قد اقترح رؤية أخرى للعالم من وجهة الحضارة و التاريخ، بل تعمق أكثر من مالك بن نبي في دراسته للفكر الإسلامي من الداخل
و كان يرى الفكر أنه محرك التاريخ، متغلغلا في الفلسفة الغربية من زاوية العقل و التاريخ كما فعل الفيلسوف محمد أركون. هؤلاء الثلاثة بحثوا و نقبوا في التراث المقدس منه و المدنس الذي طبع الحضارة العربية الإسلامية و أرخوا داخل نسقها الفكري للإستفادة منها سعيا منهم لإحياءها. و مع ذلك لم يكن عبد المجيد مزيان صاحب مشروع حضاري إنما كانت مشكلة الحضارة و الثقافة الإسلامية هاجسا بالنسبة إليه طرق مواضيعها في العديد من مقالاته و محاضراته متحدثا عن المستقبل و أسلوب الإعداد له إعدادا يسمح للمسلمين من العيش وسط محيط تهيمن فيه القوى الكبرى و تحتكر التكنولوجيا و الإقتصاد بل تتحول إلى قوة آمرة و ناهية. و لقد تحققت رؤية عبد المجيد مزيان في الحاضر بفعل العولمة الكاسحة التي عمّقت الهوة بين الشمال و الجنوب و أحدثت شرخا بينهما حيث تقدم الشمال و تخلف الجنوب. و لذلك ركز على مفهوم الإنبعاث الحضاري و قد أعطاه صبغة أو طابعا خلدونيا حديثا مقارنة مع إرهاصات و تصورات مالك بن نبي لمشكلة الثقافة و الحضارة. فهما أي عبد المجيد مزيان و مالك بن نبي يتقاطعان في كثير من الإشكاليات الحضارية مع اختلاف نمط تفكيرهما حول معالجتها و تقديم شروط ذاتية و أخرى موضوعية لتحقيق إحياءها و انبعاثها من جديد.
حدد عبد المجيد مزيان شروطا قاعدية لفكرة إحياء التراث الحضاري الإسلامي الذي رأى بأنه في حالة تراجع و تقهقر أمام الوثبة و النهضة الفكرية و الحضارية الغربية التي استفادت كثيرا من العلوم و المعارف العربية الإسلامية نقلا و ترجمة و أحيانا أخرى سرقة و حرقا للمؤلفات و المراجع و المصادر. يرى أن الحضارة هي كيان مركب يقوى الإحساس بالإنتماء لفضائه إذا ما تمكنت شعوب العالم العربي من نفض الغبار عليها و المساهمة في البناء الحضاري اقتصاديا و اجتماعيا و فكريا و تقنيا و من ثم السمو و الرقي في السلم الحضاري الذي صار حكرا على الغرب المسيحي. و الحضارة التي تعني بوجه عام كل التراث الذي حققته البشرية عبر الزمان و المكان، و هذا التراث نوعان: مادي و فكري. و تختلف الأمم في إنشاء الحضارات تبعا لمعتقداتها و بيئتها و أجناسها، فهناك أمة يغلب عليها الرأي و التروي و أخرى يغلب عليها البداهة و الإرتجال، و أمة أخرى تتسم بالكسل و المرح. و من هذه الإختلافات نشأت الفروق في المقاييس ثم الأنتاج ثم التقدم أو التخلف. تتعدد عوامل الحضارة و تتداخل فيما بينها و أهمها عوامل مادية و أخرى ثقافية أو معنوية. فبعد الحضارة الرومانية جاء العرب فحققوا حضارة بعوامل متعددة منها الفكر و الثقافة التي ينشدها عبد المجيد مزيان. أثرت الحضارة العربية في النفوس و تأثرت بها الأمم المغلوبة يومئذ و لا ينكرها إلا جاحد و رغم إصابة الحضارة العربية الإسلامية بنكسات إلا أنها ظلت شامخة. و يعود سبب تأثير الأمم و الشعوب بالثقافة كونها غذاء روحي و عقلي يستسيغه الفرد في مجتمعه. كان ذلك منطلق الفكر عند الدكتور عبد المجيد مزيان الذي نظر للحضارة من زاوية ثقافية و فكرية تركيبية لا هوياتية مرتكزا في تحقيقها على رؤية العلامة عبد الرحمن بن خلدون أو الرؤية الخلدونية كما يحلو للبعض تسميتها. جعل بن خلدون مفهوم الحضارة يتجلى في نمط العمران و طرق تحصيل المعاش الذي يمايز بين الشعوب من حيث التمدن و الإجتماع و التخلف. و أن الدولة تمر بمراحل أو أطوار تبدأ فيها فتية ثم يستقيم عودها و تقوى ثم تشيخ و تهرم فيذهب ريحها و يتراجع بأسها و تزول لتحل حضارة أخرى محلها. و يرجع عبد الرحمن بن خلدون سبب الأفول إلى الترف و المجون و اللهو و الكسل و هي عوامل النكسة و الإنحطاط الحضاري. لا يخرج عبد المجيد مزيان عن هذا السياق أي الإنكماش الثقافي و الفساد الأخلاقي الذي يدمر الأمم و الشعوب، ففي مقال له موسوم ب ' طريق الذهب و طريق الثقافة ' يرى أن طريق الذهب حين تخلى عن الفكر و الثقافة أنتج حضارة بائسة مهدت لفنائها بسبب الملذات و التبذير و الملاهي و الليالي الملاح بين أحضان الخمور و الجواري في كل من غرناطة و فاس و تلمسان...
المقاربة الخلدونية للتمدن و الحضارة عند عبد المجيد مزيان ترتكز على عاملين مادي و معنوي أي فكري ثقافي و وعي لاستشراف المستقبل يمكّننا من إقلاع حضاري ندخل بواسطته السجل الذهبي للتاريخ و ذلك بفضل مجهود فكري دؤوب لجيل أو أجيال و بتخطيط محكم على المديين القريب و البعيد. ثم أن الحضارة تقتضي وجود جيل انبساطي بمعنى متفتح على الآخر و ليس منغلقا على الذات بمعنى انطوائي عالق بذكريات الماضي و أمجاده. ذلك أن الحضارة تتنافى مع قانون العودة إلى الوراء و القهقرى و الحنين له دون الإستفادة منه بعملية تجديدية إقلاعية للعودة إلى العصر الذهبي للإسلام. مفهوم الإنبعاث الحضاري عند عبد المجيد مزيان لخصته مجموعة من المقالات العلمية المحكمة بتعداد أربعة عشرة مقالا على مدار عشرية من الزمن تمتد من سنة 1972 إلى 1984 و هي موثقة في مجلة الأصالة، و قد أكد فيها المفكر الباحث على شروط منها الإستقرار و الوعي بأهمية المسألة أو المشكلة الحضارية و الإنعتاق من التبعية و الإستلاب الثقافى أو ما يعرف بالغزو الثقافي الذي هو مسخ و نسخ و فسخ من جذور الهوية الثقافية و المرجعية الدينية الإسلامية. كان المرحوم بإذن الله وطنيا حتى النخاع و مجاهدا غيورا لم يتوقف عن العطاء لوطنه خلال ثورة التحرير المظفرة و بعد الإستقلال، و مقاوما لأسباب التقهقر و التخلف و مع الأسف لم نستفد من فكره و فكر مالك بن نبي لعلاج أمراض و أسقام حضارتنا المتخلفة عن الركب و الرقي، و التي تحدث عنها في وسائل الإعلام الوطنية و الفرنسية و في مقالات و محاضرات و مراجع نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: - النظريات الإقتصادية عند ابن خلدون و أسسها من الفكر الإسلامي و الواقع المجتمعي – النظريات الاقتصادية عند ابن خلدون- الكتاب و الحضارة- مسألة الإقتصاد و السياسة في الإسلام و غيرها...فمتى نستيقظ من سباتنا العميق و نستفيد من أفكار و أطروحات علمائنا التي تؤسس للرقى الحضاري بعيدا عن المحاكاة و التبعية للآخر التي تولّد عنها الشعور بالدونية التي تعني فيما تعنيه أنها إحساس بالنقص الثقافى و المعنوي اتجاه الثقافة الغربية و الإنبهار بها.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 25/10/2022
مضاف من طرف : tlemcen2011
صاحب المقال : بقلم الكاتب الصحفي: د. غوتي شقرون
المصدر : نشر في جريدة الجمهورية الصادرة بتاريخ 22/10/2022